Kurd Day
Kurd Day Team

د آلان كيكاني
نواح كردي في هيستنغز
تجاوزت الساعة العاشرة ليلاً بينما كانت الأمطار تهطل غزيرة , والرياح تهب من الشمال تحمل معها نسمات متجمدة من جبال اسكوتلاندا المغطاة بالثلوج , هجعت الأسماك في أمواه مضيق دوفر , وهدأت النوارس القابعة على الصخور وأغصان الأشجار وهي تنفض قطرات المطر عن ريشها , أطبق السكون على الطرقات والأبنية , وسبح الناس في لجة أحلامهم , كانت أمواج بحر قناة الانكليز تدفع الصخور أسفل قلعة هستنغز الراقدة على أسرارها الغائرة في أعماف التاريخ , وعلى طول الشاطئ تتلألأ الأنوار وترسو سفن مختلفة الأحجام هنا وهناك تعلو وتهبط مع حركة الأمواج العاتية , وقوارب ويخوت تتراقص على سطح المياه مع هبوب الرياح . كان الهدوء يلف المدينةٍٍٍٍ إلا من حفيف الأشجار التي كانت تعبث الرياح بأوراقها وتلوي أغصانها وخرير المياه التي بدأت تشكل جداولاً صغيرة في شوارع و أزقة المدينة , وكانت السيارات توقفت عن المرور تماماً وآوى أصحابها إلى الفراش للاستيقاظ مبكرا والذهاب إلى العمل صباح اليوم التالي . كان ثمة مقبرة إسلامية صغيرة في إحدى زوايا البلدة مؤلفة من بضع قبور متلاصقة لضيق المكان المخصص لها . في ذلك الليل الكئيب من ليالي كانون الأول سنة 2004 دخل إلى المقبرة رجل و امرأة تجاوزا الأربعين من العمر , كانت المرأة ترتدي لباساً أسوداً وتغطي رأسها بحجاب اسود سميك والرجل يغطي جسده بمعطف شتائي طويل ويحتمي من قطرات المطر بشمسية كبيرة نصفها فوقه والنصف الآخر فوق المرأة التي كانت تمشي ملاصقة له . ما إن دخلا المقبرة حتى ألقت المرأة بنفسها فوق قبر صغير و أخذت تنوح بصوت حزين وتلمس الشاخصة وتمس الأحجار والحشائش فوق جسد القبر بحرقة و لوعة وكأنها تريد إخراج من بداخله لتعانقه بحرارة و ألم أو تدخل في أغواره لتسكن معه , وصوتها الكئيب يخترق جدار الصمت ويمتزج مع صوت تساقط قطرات المطر على أوراق الأشجار , وأنين الرياح , وحفيف الأشجار , لتعزف معا سيمفونية تراجيدية , أما الرجل , الذي كان يقف وراءها , ويده اليمنى القابضة على منديل لا تبارح عينيه , فقد كان يسمع صوت نحيبه هو الآخر بين كل زفير وشهيق من حنجرة المرأة كنواح ناي بين فصلين موسيقيتين في معزوفة كلاسيكية فارسية , وبينما هم كذلك دخل المقبرة شاب في أوائل العشرينيات , من زاوية أخرى غير الزاوية التي دخلا منها , كان الشاب طويل القامة يرتدي لباساً رسميا وربطة عنقه ذات عقدة كبيرة وفوق لباسه الرسمي يلبس معطفاً جلديا أنيقاً وبيده اليسرى مقبض المظلة وفي اليمنى باقة من الورود , لكن الشاب سرعان ما قفل راجعاً عندما لمح زائري القبر الصغير واختبأ خلف أشجارٍ كثيفةٍ كانت هناك . بقي الرجل والمرأة هناك زهاء نصف ساعة على هذه الحالة حتى نال منهما التعب والإعياء فنصب الرجل الشمسية فوق القبر ثم أخرجت المرأة عشرة شموع من حقيبتها وغرزتها على الطين المغطي لجسم القبر تحت الشمسية ثم أخرجت من بين ثنايا ثيابها قداحة أشعلت بها الشموع العشر ثم أطفآها بالنفخ عليها ومن ثم خرجا يمسحان دموعهما .
بعد خروجهما بدقائق دخل ذلك الشاب وسار حتى وصل إلى نفس القبر ووضع إكليل الزهور عليه ثم وقف يبكي لمدة دقائق ثم انصرف.
سارا تحت المظلة , مشتبكي الأيدي , في شوارع هستنغز قاصدين محطة القطار في الهزيع الثاني من الليل تفصلهم القلعة الشامخة عن الشاطئ الرملي , زعيق القطار القادم من اتجاه الشرق والغادي إلى إيستبورن ومنها شمالا باتجاه لندن كسر حاجز الصمت , وجدا مقعدا مزدوجا شاغرا في العربة التي صعدا إليها واقتعداه , الدفء المنعش أرخى جسميهما وبعث فيهما شيء من الوسن وخلدا إلى النوم حتى أيقظتهما مكبرات الصوت المعلقة على جدار العربة معلنة بانتهاء الرحلة وطالبة من الركاب النزول في مدينة لندن , كان القطار المتجه من لندن شمالا بانتظار الركاب الغادين إلى هول وليفربول ومانشستر واسكوتلاندا , صعدا إحدى عرباته .
بين لندن وهول في تلك الليلة كان القطن البارد يهبط من السماء ندفا غزيرة حتى ليكاد لمن ينظر من نافذة القطار أن لا يرى سوى لوحة بيضاء من صنع السماء تلمع بسقوط أضواء عربات القطار عليها , كان هو من يجلس لصق الشباك وهي ملتصقة به وواضعة رأسها على كتفه تعوم في بحر أحلامها بعد يوم سفر مضن حزين قادهم من هول إلى هستنغز مرورا بلندن , كان يرقب هبوط الثلج من السماء من خلال نافذة القطار , شارد الذهن , سارح الخيال , لحظة مد يده ليزيل الثلج عن شعرها وأكتافها لكنه صحا من شروده وأيقن أن المشهد المؤلم الذي راود خياله قد مضى عليه خمسة عشر حولا . فالثلج هو ثلج إنكلترا وليس ثلج جبال كردستان الشاهقة , وهو في القطار يعود مع زوجته إلى مسكنه في مقاطعة هول وليس يعبر الحدود العراقية التركية سيرا على الأقدام , متأبطا ذراعها , في تلك الليلة التي مضى عليها أكثر من عقد ونيف .
كانت الثلوج تغطي الجبال والسفوح والوديان على الحدود العراقية التركية في ذلك الليل البارد الذي ساد السكون فيه على غير العادة , إذ اعتادت هذه الحدود منذ سنوات على عبور آليات الجيش التركي بين الحين والآخر أو مرور مقاتلي حزب العمال الكردستاني , ولم يكن يسمع أزيز الرصاص أو دوي المدافع أو أصوات جنازير المدرعات أو عواء الذئاب , إذ تجمد كل شيء في ذلك الوقت الذي تحولت فيه السماء والأرض إلى كتلة بيضاء ناصعة , وبعد الساعة الواحدة ليلاً , وكانت ندف الثلج لا تزال تهبط من السماء بغزارة , وصلا إلى ذلك الخط المتعرج الطويل الملتوي كالثعبان بين التلال والوديان , يكتسيان بلباس صوفي وينتعلان أحذية جلدية ذات رقبة طويلة تصل إلى الركاب وكان الثلج يغطيهما حتى يصعب رؤيتهما من على بعد أمتار قليلة , وبين الفينة والفينة يمد يده ليزيل الثلج عن أكتافها وقبعتها الصوفية التي تغطي حتى الأذنين , كانت تحمل حقيبة نسائية فيها حفنة من الزبيب وقليل من التمر وبضع قطع من خبز الصمون القاسي وبعض علب السردين ومبلغ من المال على شكل دولار أمريكي وفي إحدى جيوب الحقيبة كان هناك شريطاً للفنان محمد شيخو ومجسماً أحمراً لقلب مكتوب عليه في الأسفل: " عيد حب سعيد " وبضعة رسائل قديمة , أما هو فكان يتسلح بمسدس حربي تشيكي من عيار سبعة ملم وفي إحدى جيوبه مشعل كهربائي صغير وبنسا قاطعاً للأسلاك وسكين , لم يكن يعرفان في أي لحظة ومن أي جهة ستنال منهما المنية فمن الخلف هما يعرفان حق المعرفة أن حكم الإعدام سيصدر بحقهما دون محاكمة , ومن الأمام جنود مدججين بالسلاح لا يترددون على إطلاق النار على كل من يقترب من الحدود حتى إذا كان يسير على أربع قوائم , ومن جميع الجهات ضوار مفترسة جائعة قد تلتهمهم في أي وقت .
وصلا إلى سورٍ مغطىً بالثلج لم يكن ذلك خافياً على شفان أنها الأسلاك الشائكة فركلها برجله حتى سقطت الثلوج من فوقها فأخرج البنس من جيبه وقطعها و باعد بين أطرافها بعضلاته القوية وعبرا إلى الطرف الثاني يسيران بهدوء وحذر رغم أن شفانا كان مطمئناً من جهة الألغام , فخبرته العسكرية التي اكتسبها خلال عقد ونيف في صفوف البيشمركة علمته أن الألغام لا تنفجر عند الدوس على الثلج السميك المغطي لها , بعد مسير عشرات من الأمتار سمعا هدير محرك ولاح شعاع ضوء من جهة الشرق فهمس شفان بأذن بيريفان طالباً منها أن تنبطح لأن دورية للجيش التركي قادمة , ما إن اقتربت السيارة العسكرية حتى غطاهما الثلج فعبرت الدورية على بعد أمتارٍ من رأسيهما دون أن يراهما أحد , انتظرا حتى غاب الضوء و خفت الصوت فهمس شفان ثانية طالباً المتابعة في السير , كانت أقدامهما تغوص عميقاً في الثلج مانعة بذلك السير السريع الذي يحتاجان إليه الآن , إذ شعرا أنهما اجتازا المنطقة الأكثر خطرا وعليهما أن يستعجلا قبل أن تأتي دورية ثانية , كانا يسيران بشكل مستقيمً خشية أن يعودا إلى الحدود ثانية دون علم منهما إذ أدركا إنهما لم يعودا يميزان الشرق من الغرب والشمال من الجنوب , بعد مسير ساعة تقريباً شعرا بشيء من الأمان وقد كان يفصلهما عن الحدود مسافة ميلين تقريباً توقف شفان فجأة وشد على يد بيريفان وقال :
_ أتسمعين ؟ وبعد صمت قصير أجابت بيريفان :
_ نعم إنه نباح كلب .
_ لا إنه عواء ذئبٍ , والذئاب خطرة في مثل هذه الظروف لأنها تكون جائعة ولا تجد ما تأكله فتفترس كل ذي لحمٍ تصادفه
_أليس مسدسك معك ؟
_ بلى ولكن أخشى أن يتعقب الجيش أثرنا إذا استخدمته , ولكني سأستخدمه فقط إذا شعرت أن وجودنا في خطر.
لقم شفان مسدسه واستأنفا السير بينما كانت بيريفان مذعورةً ,وكانت حدة الثلج قد خفت كثيرا مما ساعد على وضوح الرؤية , و بعد عدة خطوات أقترب صوت الذئب حتى ظهر جلياً أمامهما مكشراً عن أنيابه ومقترباً بخطواتٍ بطيئة إذ كانت أطرافه تغوص في الثلج معيقة بذاك سرعة حركته و قدرته على القفز, احتمت بيريفان خلف شفان مرعوبة , وعندما كان الذئب على بعد مترين أو ثلاثة التقط شفان قليلاً من الثلج وعصره بقوة في راحة كفه حتى بات صلباً وضرب به وجه الذئب بكل ما يملك من قوة عله يهرب بعيداً ويكفيهما شره , ولكنه ارتد خطوتين إلى الوراء وأطلق عواء بصوت عال وكرره مراتٍ عديدة كأنه يطلب النجدة , نظر شفان إلى اليمين ليجد ثلاثة ذئاب أخرى تهاجم, فسدد مسدسه على الذي أمامه وأطلق عليه طلقة واحده ليرديه قتيلاً ثم التفت إلى اليمين ليرى الثلاثة الأخرى تولي الأدبار مسرعةً يتطاير الثلج من تحت مخالبها إلى مسافةٍ بعيدة وهي تعوي خائفةً , استمرت في الهرب حتى غابت عن الأبصار بينما كان يسمع صوت وقع مخالبها على الثلج لدقائق فعرف شفان أنها ولت من غير رجعة , وفي تلك اللحظة سمع صوت إطلاق نار من جهة الخلف وتحركت بعض السيارات مرسلة أضواءها المضادة للضباب لمسافات طويلة وأطلقت قنابل مضيئة عالياً حتى أنارت مساحات واسعة فحمل شفان بيريفان التي لم تعد تستطيع المشي مصدومة من هجوم الذئاب وأزيز الرصاص وسار بسرعة حتى وصل إلى صخرة كبيرة على سفح الجبل كانت حافتها العلوية تمتد خارجاً مثل الرف تاركة تحتها مساحة نصف مغلقة خالية من الثلج تطل على الاتجاه المعاكس للحدود , أجلس بيريفان وسألها ما إذا كانت بخير فأجابت بالإيجاب ثم أخرج المشعل من جيبه ليستكشف المكان فوجد براز تلك الذئاب , دفعه بجزمته خارجاً وطلب من بيريفان أن تجلس مكان ما كانت ترقد الذئاب وجلس هو إلى جانبها ثم فتح الحقيبة وأخرج منها حفنة من الزبيب يضع حبةً في فم بيريفان و يرمي الأخرى في فمه بينما كانت أصوات الطلقات لا زالت تسمع لكن بشكل أخف مما كان , كان المكان دافئاً, إلا أن بيريفان كانت لا تزال ترجف فسألها:
_ لماذا ترتعدين ؟
_ ألا تسمع أزيز الرصاص ؟ أشعر أنهم سيطلون علينا الآن
فقال شفان وهو يمضغ الزبيب :
_ ألا تذكرين قول الشاعر عبدالله كوران عندما يقول: كردي وصخرة وبندقية وحفنة زبيب , فليأت العالم , كل العالم
شعرت بيريفان بالدفء من كلامه لكنها تابعت :
_ إن الشاعر كان يقصد شجاعة المقاتل الكردي عند الدفاع عن الوطن
_ من لا يستطيع الدفاع عن حبيبته لا يستطيع أبداً الدفاع عن وطنه
فابتسمت بيريفان وقالت:
_ اقترب مني أكثر فإن جسمك مثل كلامك يبعث الدفء في جسدي
أقترب شفان حتى التصق بها وأحاط ذراعه حول عنقها ثم نظر إلى الثلج و قال :
_ أتحبين الثلج ؟
_ نعم , إنه يشبه قلبك ببياضه وصفائه .
_ أتذكرين عندما كنا نضرب بعضنا البعض بالثلج في المدرسة عندما كنا صغاراً ؟.
_ نعم أذكر كل خطوة قضيتها معك .
_ وتذكرين مرة عندما ضربتك وجاء الثلج في عينك فبكيت وصفعني المعلم ؟
_ ليته كان يصفعني بدلا منك .
_ كنت أحبك مذ ذاك الوقت . وأنت هل كنت تحبينني ؟
ابتسمت بيريفان ولم تجب , لم ير شفان بسمتها إلا أنه فهم سكوتها .
وفي تلك الأثناء تجاوزت الساعة الثالثة صباحا وسكت الرصاص وكان هناك هدوء مطلق إلا من دقات قلبين وصقصقة أربعة شفاه .
. . .
صباح اليوم التالي وفي الجانب الآخر من الحدود و في قرية كاكان استيقظ كاميران آغا كعادته قبل طلوع الشمس وخرج إلى الحمام بشرواله الفضفاض وقميصه المنقوش وكوفيته الكردية ليتوضأ ويؤدي صلاة الصبح , وكانت ميرم خاتون قد أحضرت له ماءً ساخناً قبل أن ينهض من الفراش , وعندما أدى الرجل فريضته كان فنجان القهوة جاهزاً , احتساها مع ميرم خاتون مسترسلاً معها الحديث, كان كاميران آغا ذا قامةٍ طويلة وشعرٍ غزير وحواجب كثيفة ومتعاقدة وبشرة بيضاء وعيون عسلية ويتجاوز الستين من العمر . عندما تسلقت الشمس ربع السماء اقترب وقت مجيء الزوار الذين يأتون كل يوم طلباً للتشاور أو سعياً لحل المشاكل أو عرضاً لأي خدمة يطلبها الآغا , وليس ذلك غريباً عليه فهو سيد قبيلته وصاحب الكلمة الفصل في محميته وتربطه علاقات وثيقة مع الدولة وشيوخ القبائل القاصية والدانية الكردية منها أو العربية , طلب الرجل من ميرم خاتون أن توقظ بيريفان لتجهز وجبة الفطور, دخلت السيدة غرفة ابنتها لتجد السرير فارغاً نادتها فلم يرد أحد , بحثت عنها في الحمام والمطبخ وغرفة أخويها اللذان كانا لا يزالان نائمين , لكن دون جدوى , عادت إلى غرفتها ثانية فوجدت ورقة على وسادتها , التقطتها وأخبرت الآغا بالموضوع الذي نادى ابنه الكبير سامان بعصبية وطلب منه أن يقرأ ما هو مكتوب على الورقة , فقرأ الولد :
( إلى أبي : لو كان قلبك من حجر فرب صخرة تنفجر وتنبجس منها المياه ولكن قلبك أكثر صلابة , إنني سئمت جبروتك ومللت قيودك وأقفاصك , لقد آن الأوان أن أحطم تلك القيود والأقفاص وأخرج طليقة , إن نير العبودية كسر عظام رقبتي فحان الوقت أن أستبدله بأجنحة أحلق بها في فضاء هذا العالم الجميل, إنه وقت الحرية يا أبي..........)
ما إن سمع الآغا ذلك حتى فقد السيطرة على أعصابه , واحمرت عيناه واحتقنت أوداجه وثار كالأسد الجريح , رمى الكوفية جانباً وتوجه نحو التنور الذي كان في إحدى زوايا حديقة قصره وأخرج منها رمادا ولطخ وجهه ورأسه به وهو يصرخ بصوت عال :
_ يا عالم , يا ناس , تعالوا وانظروا ماذا حل بي وبشرفي وشرف قبيلتي , إنها مصيبة ما بعدها مصيبة .
ثم يلهث قليلاً ويتابع :
_ تعالوا , تعالوا , واسمعوا البهدلة ابنة الآغا يخطفها ذلك الصعلوك ابن القندرجي .
هب الجيران عندما سمعوا صراخ الآغا وانطلقوا صغاراً وكبارا لنجدته ولمعرفة ما يجري , كان البعض يتسلح ببنادق والبعض الآخر أعزلاً وهم يصيحون :
_ ماذا يحدث ؟ ماذا هناك ؟
وقال آخرون :
_ لم يخلق الله بعد من يستطيع المس بابن عمنا .
تقدم الآغا والشرر يتطاير من عينيه التي تحول بياضهما إلى حمار وسط وجهه الملطخ بالشحوار وصاح بهم قائلاً بصوت مبحوح و متقطع :
_ إن ابنتي قد اختطفت , لقد سقط الشرف منا يا أبناء عمومتي , اذهبوا وادعوا كل رؤساء ووجهاء فروع القبيلة إلى الاجتماع في بيتي ظهر هذا اليوم .
عند الظهيرة كان قصر الآغا يعج بالمئات من رجال القبيلة وأسيادها مواسين على المصاب الجلل الذي حل بهم وبسيدهم وعارضين الدعم والمساندة من مال ورجال , خطب بهم الآغا عاليا وفي صوته بحة والزبد يتطاير من فمه وقال :
_ لقد انتهك عرضي اليوم وانتهك معه عرضكم جميعاً وسوف لن تقيم لنا قائمة بين القبائل والعشائر , ولا يقدم ذو شرف على طلب يد بناتنا , وسنظل مطأطئي الرأس أمام الناس , حتى نغسل هذا العار عن أنفسنا . إنني باق هنا في قصري هذا ولن أخرج منه دقيقة واحدة حتى أسمع نبأ مقتلهما .
وفي نهاية الاجتماع تم تكليف محسن آغا وهو الناطق جيداً بالعربية مهمة البحث عنهما عند القبائل العربية ,
تولى عاصم آغا مسؤولية البحث عند العشائر الكردية , بينما ألقى سامان الابن البكر لكاميران آغا على عاتقهو
مهمة البحث في تركيا .
. . .
في ذات الصباح استيقظ الحبيبان بعد ليلة تناوبا فيها على الحراسة , وكانت الغيوم قد انقشعت جزئياً , و الشمس ترسل خيوط أشعتها الذهبية بين الحين والآخر من بين الغيوم المتناثرة في السماء على الجبال والوديان والسهول المغطاة برداء أبيض جميل مثل ثوب العروس مانحة بذلك مشهدا خلابا وبديعا , بينما كانت نسمات الهواء تأتي باردة من جهة الشمال وهي تعبث بذرات الثلج وتقذفها إلى حيث يجلس العاشقان, ولكن هدير آليات الجيش كان يسمع بوضوح من خلفهما , لذلك فضلا المكوث في مكانهما حتى يحل الظلام , فتح شفان علبة سردين ووضع صمونة وسط الثلج كي تلين قليلاً وشرعا يتناولان فطورهما بنهم , قضيا نهارهما الشتائي القصير وهما يستمتعان بالنظر إلى ذلك المنظر الرائع الذي رسمته الطبيعة بريشتها المباركة , ويستعيدان ذكرياتهما الحلوة منها والمرة حتى احتوتهما طلائع الظلام وسمعا صوت آذان المغرب من بعيد كأنه أنين مريض يلفظ أنفاسه الأخيرة , لكنهما لم يستطيعا معرفة جهته , نهضا وسارا دائرين ظهريهما إلى حيث العسكر تاركين وراءهما عالماً زاخرا بالأحداث الأليمة من حرب وأنفال وأعراف بالية , فقد قررا الليلة الماضية أن يمتطيا أجنحة الحب ليطيرا إلى شاطئ الحرية والأمان ليتمكنا من قطف ثمار حبهما البريء اللذان زرعاه منذ ما يقرب من عشرين سنة ولم يحصدا سوى الألم والمعاناة , ولكن إلى أين ؟ هما نفسيهما لم يكن لديهما الجواب لهذا السؤال وإن كان قلب شفان يؤشر إلى بلاد الإنكليز لإلمامه باللغة الإنكليزية من جهة وما كان يسمع عن مهارة أطبائها من جهة أخرى . شعر شفان بالجوع وكاد يشم رائحة خبز أمه المنبعث من التنور عندما كانت تصحو في الصباح الباكر على صياح الديكة , تخلط الطحين بالماء والملح وتعجنها ,تنتظر قليلا , تشعل النار في التنور فيخرج اللهب من فوهته مثل حمم بركان حتى تغدو جدرانه حامية ثم تفرش العجين المسطح على وجهه حتى يبدو أحمرا مثل قرص الشمس لحظة الشروق فتنطلق رائحته الزكية وتقرقر أمعاء شفان فيغمس الخبز في زيت الزيتون أو الزبدة ويتناوله ويرشف من كاس الشاي . قاده خياله إلى تلك الأيام الخوالي من العمر فقال في
نفسه : أين أنت الآن يا أمي ؟ هل تعيشين في نفس الجنان مع أبي سعيد وأختي جيهان والصغير دارا الذي لم أره يوما ؟ إنني اشتقت لكم وكلي ثقة أنني سأراكم يوما
طلب من بيريفان بعض حبات التمر وشرع في تناولها , لم يكن يسمعا غير صوت وقع أقدامهما على الثلج فقال لبيريفان :
_ هل تستطيعين تقليد هذا الصوت ؟
_ كرت كرت كرت . أجابت بيريفان
_ إن بعض الأتراك يقولون مازحين : إن الأكراد سميوا كردا على نغم وقع أقدامهم على الثلج لأن بلادهم كانت مغطاة بالثلوج على مدار السنة قبل آلاف السنين.
ردت بيريفان مبتسمة :
_ وماذا عن : ترك ترك ترك ؟
ضحك شفان وقال :
_ لربما كانت بلادهم مغطاة بالجليد فيتكسر تحت أقدامهم محدثا هذا الصوت .
بعد مسير أكثر من ثلاث ساعات متواصلة شعرا بأمان وكانا يتبادلان الحديث همسا في سكون الليل و كانت أعينهما لا تمل بالبحث عن بقعة مأهولة يحلان فيها لأخذ قسط من الراحة وتناول ما يسد رمقهما إذ بلغ منهما الإعياء وخوت معدتهما , في تلك اللحظات بدأت بيريفان تشكو من الم في قدميها وقالت :
_ أحس بحرقة ووخز في قدمي . فرد شفان :
_ تحملي قليلا , فلعلنا نجد خلف هذه الربوة من قرية أو بلدة نستريح فيها .
خاب أملهما عندما بلغا قمة المرتفع ولم يجدا بصيص نور على مد البصر رغم أن الجو كان صافيا والرؤية جيدة وإنما وجدا منحدرا ويلوح خلفه معالم قمة جبل أعلى ارتفاعا , ارتبك شفان قليلاً وتملكه شيء من اليأس والخوف, فهو يعلم حق العلم ماذا يعني أن تسير في الثلج ساعات طويلة وتحرقك قدماكً , وكان بعض رفاق
سلاحه قد تعرضوا إلى ذات الحالة وانتهى الأمر بهم إلى بتر الأقدام , ولكنه حاول أن يبعد هذا الكابوس عن مخيلته وصار يداعب بيريفان ويشجعها , إلا أنها شكت ثانية وبصوت يدل على إعيائها :
_ لم أعد قادرة على المشي يا حبيبي , دعنا نستريح قليلاً .
فرد شفان :
_ إن التأخير قد يسبب لك مشكلة , دعيني أحملك وأسير في سفح هذا الجبل حتى الجهة الثانية .
حملها على كتفه وانطلق مسرعا ً واجتاز الوادي الذي لم يكن عميقاً وبلغ السفح حيث غير اتجاهه قليلا نحو اليسار وترك القمة على يمينه عله يلف نصف محيط الجبل ويرى ضالته في الطرف الثاني وقبل أن يصله بقليل صارت بيريفان تأن من الألم فخارت هو الآخر قواه وسقط على الثلج وأخذت بيريفان تتدحرج نحو الوادي نهض وتبعها بسرعة وقفز من فوقها وصدها بساقيه كما تصد كرة القدم وكان ذلك قبل حافة الوادي العميق بمترين لا أكثر, حاول جاهدا حملها مرة أخرى فلم يتمكن , نظر إلى يمينه ويساره و أمامه و خلفه فلم يجد سوى بياضا لا حدود له , فتوجه نحو بيريفان وقال بصوت متقطع وهو يلهث :
_ ألا تستطيعين المشي حبيبتي ؟
وهنا حاولت بيريفان أن تخفف من رعبه وارتباكه وتظاهرت قائلة
_ ساعدني على النهوض والمشي .
أحتضنها شفان بين ذراعيه ورفعها حتى كانت واقفة ثم لف ذراعه اليمين حول جذعها وأمسك بيساره يدها اليسرى التي كانت تعانق رقبته وصارا يمشيان ببطء وبعد دقيقة استسلمت بيريفان مرة أخرى جانب صخرة بدا أن تحتها خال من الثلج تشبه تلك التي أمضيا تحتها ليلتهما السابقة , أشعل شفان مشعله ليتأكد من خلوها من المفترسات ثم حمل بيريفان وأجلسها فوق حجرة تحت الصخرة بحث عن أي شيء قابل للاشتعال يمكن أن يتدفآ به فلم يعثر على شيء , ثم شرع بخلع أحذيتها فوجد أصابعها بنية ونهايتها تميل إلى السواد وعند لمسها أخذت بيريفان تتألم بشدة وتبكي لم يتمالك شفان نفسه وانفجر هو الآخر بالبكاء واحتضنها بشوق صارخاً
_ أفديك يا بيريفان , أموت عنك حبيبتي , يا إلهي ماذا أفعل ؟
يشدها على صدره ويضع رأسه بين رأسها وكتفها الأيمن ملامساً بوجهه رقبتها وهو ينتحب قائلاً :
_ الآن تموتين أمام عيني دون أن استطيع فعل شيء , إلهي أرجوك ماذا أفعل ؟ بيريفان لا تموتي حبيبتي لا تتركيني لوحدي , لا تموتي أرجوك .
ثم يحتضن قدميها ويضع أصابعها في فمه وتارة تحت أبطيه لينقل إليها شيئاً من الدفء , ثم يضربهما بكفه علهما يعيدان لونهما الوردي , وفي هذه اللحظة مرت مروحية حربية للجيش من فوق قمة الجبل متجهة باتجاه
الحدود حتى غابت عن الأنظار وهي تطلق رشقات من الرصاص بين الحين والآخر يبدو من صوتها أنها من بندقية حربية خفيفة , وهنا فكر أنه يجب أن يتصرف قبل أن يخسر كل شيء , لقم مسدسه وأعطاه لبيريفان
لتدافع به عن نفسها إذا ما دخل حيوان مفترس يبحث عن صيد , وانطلق يصعد صوب قمة الجبل وهناك صار يصيح بأعلى صوته :
_ النجدة , النجدة هل هناك من يسمعني ؟ النجدة , أنا بحاجة إلى مساعدة أرجوكم .
يشعل مشعله ويديره في كل الاتجاهات ويتحرك من موقع إلى آخر صارخاً :
_ أنقذونا من فضلكم . هل هناك من يراني أو يسمعني ؟ أرجوكم نحن في خطر .
وفي كل مرة كان لا يجيبه سوى صدى صوته المنعكس من القمم التي تحيطه به , ظل في هذه الحالة زهاء نصف ساعة حتى بح صوته وخفت ضوء مشعله , وقف صامتاً وتملكه اليأس وأدرك أن ما يواجهه أقوى منه بكثير شاعراً أنه فقد كل شيء في حياته , ارتخى جسمه وهو يمسد جبينه بأصابعه و شعر بصداع شديد وسالت دموعه من عينيه حتى ذقنه ومن هناك كانت تنقط فوق الثلج , أحس بمرارة الاستسلام وأن طاقته قد نفدت , بادر إلى ذهنه أن يعود إلى بيريفان لتموت في أحضانه ومن ثم يدفنها بيده كي لا يكون جسمها طعاما للذئاب أو الضباع ومن ثم يطلق رصاصة الرحمة على نفسه, تخيل ذلك وانفجر في البكاء , كان أنين نواحه يخترق سكون الليل ويصطدم بالجبال ليعود إليه الصدى ويحفز قلبه على المزيد من الأسى واللوعة , فقال بصوته المبحوح داعياً ربه :
_ يا رب , ارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين , أنقذها يا الله , فليس لي غيرها وأنت تعلم ذلك .
قال ذلك وخطا خطوته الأولى باتجاه بيريفان يرتعد حزناً و برداً وفي تلك اللحظة سمع صوتاً خفيفاً يقول :
_ من أنت ؟
وقف وقال في قرارة نفسه : إنه الهذيان ليس إلا , ثم تابع خطواته ولكن الصوت أتى هذه المرة بشكل أقوى :
_ من أنت أيها رجل ؟ هل أنت عميل للجيش تريد إيقاعنا في الفخ ؟ كن حذراً فأنت في مرمى بندقيتنا .
فانتفض شفان وكان الصوت بمثابة شمس طلعت عليه في منتصف الليل وصاح بصوت نصفه بكاء من الفرح :
_ أنا شفان أرجوكم أنقذونا , حبيبتي في خطر , أرجوكم أنا لست عميلا للجيش , أنا كردي عراقي وقد ضللت الطريق , أرجوكم .
وكانت لهجته قد أعطتهم انطباعا أن الرجل صادق فتقدم الرجال الأربعة نحوه بسرعة قطعوا الوادي وتسلقوا
السفح حتى وصلوا القمة حيث كان شفان بانتظارهم الذي عانقهم باكياً وشاكرا ثم طلب منهم أن يلتحقوا به وسار بسرعة نحو الأسفل فوجدوا بيريفان نصف مستلقية تسند ظهرها على الصخرة وبيدها المسدس , كانت أقل ألما بكامل قواها العقلية وقد عبرت عن تحسنها بعد ما قام به شفان , أعطى أحد الرجال بندقيته لآخر وحمل بيريفان على كتفه وانطلق مسرعاً كالحصان على السفح في الجهة التي خطط شفان أن يسلكها , تناوب الرجال الأربعة على حملها لمدة نصف ساعة , و كان شفان يتبعهم منهكاً يكاد لا يستطيع رفع أقدامه جيداً فيجرها جراً على الثلج , كانت الساعة اقتربت من منتصف الليل عندما وصلوا إلى صخرة كبيرة يغطي الجزء السفلي منها جذوع أشجار مقطوعة متراكمة فوق بعضها , نادى أحد الرجال بكلمة حتى دفعت تلك الجذوع إلى الأمام وظهر خلفها بابا يؤدي إلى ممر طويل , دخل الجميع ثم أغلق الباب .
كان ذلك معسكرا لحزب العمال الكردستاني وهو كهف يمتد عميقاً في الجبل بعرض متغير , وطول يتجاوز الخمسين متراً , وفي نهايته يتفرع إلى شعبتين وعلى امتداده جيوب فرعية تشبه الغرف في شقة سكنية حديثة , خصصت إحدى الغرف للمطالعة وكان فيها مئات الكتب تتحدث عن مواضيع شتى وبلغات مختلفة , وغرفة ثانية رتبت فيها عدة ومكتب الطبيب, وأخرى للقائد , وثلاثة مهاجع للمقاتلين واثنين للمقاتلات و غرف أخرى
صغيرة تتناثر هنا وهناك , أما السقف فكان أحيانا يسمح بمرور جمل وأحيانا أخرى يضطر المرء إلى حني رأسه لكي يعبر, وبالنسبة للأرضية فقد ملئت حفرها بأحجار حتى غدت على سوية واحدة تقريباً , أما الحيطان فقد
اكتست معظمها بأعلام وصور لقادة الحزب ورموزه ولافتات عليها شعارات ثورية , كان يقيم في ذلك المعسكر ما يربو عن ثلاثين مقاتلاً و مقاتلة جمعتهم العقيدة الواحدة , ويقودهم رجل في منتصف الأربعينات متوسط القامة حنطي البشرة حليق اللحى والشارب طليق اللسان لا يخلع بزته العسكرية إلا عندما يلجأ إلى فراشه واسمه شيروان , كان شيروان انضباطياً لا يخلو من الصرامة والجدية يفيق الساعة السادسة صباحاً وينفذ مع عناصره بعض التمارين الرياضية ضمن الكهف وفي السابعة كان موعد الإفطار وفي الثامنة تبدأ الدروس العسكرية والسياسية حتى الثانية بعد الظهر حيث يتفرغ كل منهم إلى ممارسة هوايته في القراءة والكتابة ولعب الشطرنج والضامة حتى الثانية عشر ليلا حيث الموعد مع الفراش , وفي كل يوم كانت تخرج دورية منهم في ساعات المساء حتى أخر الليل لتطلع عما يجري خارجا من تحركات الجيش بعرباته وطائراته , وهكذا كانت تدور أيامهم حتى يطل فصل الربيع وتذوب الثلوج إيذاناً ببدء مهماتهم العسكرية .
في ذلك الليل عندما دخلت عناصر الدورية , ويحمل أحدهم بيريفان على كتفه , كان الجميع قد آوى توا إلى الفراش إذ صاح أحد رجال الدورية :
_ دكتور باران , دكتور باران .
فألتم الجميع في العيادة ظناً منهم أن أحد رفاقهم قد أصيب أثناء مرور المروحية وإطلاق الرصاص منها , بينما وضعت بيريفان على السرير وأخذ الطبيب يفحص قدميها على ضوء فوانيس الكاز معتمدا على أسئلة وجهها إلى شفان , ثم طلب أن يحضر سريعا ماء ساخن في قدر يتسع لقدمي بيريفان , وهو يقوم بغرز الإبرة في وريد المرفق , وما إن علق باران المصل وأخذ يسري في وريدها قطرة قطرة حتى كان الماء الساخن جاهزا فوضع قدميها فيه وحمل سماعته وفحص قلبها ورئتيها ثم التفت نحو شفان قائلا :
_ إن الأمور بخير , وصحتها لا بأس بها , وهذا اللون البني في أصابع قدميها سيعود خلال ساعات لأنه لم يدم طويلا , فلو أنها بقيت على حالها حتى الصباح لكانت الأمور أسوء بكثير .
تنفس شفان الصعداء, وكاد يحتضنها فرحا لو لا الحياء , أمر شيروان بانصراف المقاتلين إلى مهاجعهم وإحضار العشاء للضيفين , جلبت إحدى المقاتلات شوربة عدس ساخنة ورقائق من الخبز الجاف وبضع حبات من التين المجفف , جعل شفان كسرات الخبز على شكل فتات ناعمة وأخلطها مع الشوربة ليجعل منها على شكل فتة سهلة المضغ والبلع وشرع بإطعام بيريفان التي كانت نصف جالسة على سرير الطبيب وقدميها في الماء الساخن , بعد العشاء تبادل شيروان والطبيب باران معهما أطراف الحديث , وكان الطبيب يبدل الماء بأسخن منها كل ربع ساعة حتى بلغت الساعة الثالثة صباحا حيث استعاد القدمان لونهما الطبيعي فوجه الطبيب بيريفان إلى غرفة المقاتلات للنوم فيها , بينما مدد شفان فراشه إلى جانب فراش الطبيب بعد أن شكره على جهده وخلدا إلى النوم .
في الساعة السادسة صباحاً استيقظ الجميع لممارسة حياتهم المعتادة وكان شفان وبيريفان لم ينهضا من فراشهما من شدة الإرهاق الذي تعرضا له في اليوم السابق, وعندما أنهى المقاتلون برنامجهم في الساعة الثانية بعد الظهر من ذلك اليوم , طلب شيروان من المقاتلين أن يحضروا أنفسهم لاجتماع آخر مساء لبحث موضوع الضيفين , وعند الساعة الخامسة مساء انعقد الاجتماع بحضور الضيفين في أكبر المهاجع , جلس المقاتلون متربعين على الأرض بانضباط كبير دون حديث أو همس في خمسة أرتال وفي كل رتل ستة أفراد بينما جلس شيروان والطبيب والضيفان مقابلهم على مقعد خشبي طويل , بدأ شيروان الحديث وقال :
_ نرحب بضيفينا الكريمين و نحمد الله على سلامتهما , ونشكر رجالنا الأربع الأشاوس الذين قاموا ليلة أمس بعملهم البطولي النبيل لنجدتما وإنقاذهما من الموت المحقق , لقد أثبتم أيها الرجال أنكم أصحاب نخوة وشهامة , وأبطال في السلم كما أنتم في الحرب , كما نشكر الدكتور باران على جهوده القيمة وخبرته العظيمة التي أنقذت روح أختنا بيريفان , إن غايتي من اجتماعنا هذا هو أن نتعرف عليهم وندرس مشكلتهم ونشخصها لنضع الخطة المناسبة لحلها قدر المستطاع , والآن ليتفضل أخونا شفان بالحديث .
عدل شفان جلوسه وقال :
_ أشكركم جميعا على ما بذلتموه من أجل إنقاذ روحينا , وخاصة هؤلاء الشباب الأربع الذين تصرفوا بقوة وشجاعة كالأسود , والدكتور باران الذي سهر على صحة بيريفان , بداية أعرفكم بنفسي , أنا أسمي
شفان , ولدت في كردستان العراق في قرية كاكان التي تبعد عن الحدود العراقية التركية مسافة ميل واحد , سنة 1960 من عائلة فقيرة حيث كان والدي يعمل حذاء , لا أرض له ولا مال ولا أقرباء , إذ كان وحيدا
لجدي الذي شارك في ثورة الشيخ سعيد بيران في تركية , وعندما قمعت الثورة وأعدم قائدها حكم عليه بالإعدام , فقطع الحدود العراقية التركية ليلا وسكن أول قرية على طريقه في كردستان العراق , وهناك تزوج من فتاة يتيمة وأنجبا طفلهما الوحيد , وسكان قريتنا والقرى المجاورة هم أبناء قبيلة واحدة يتزعمها كاميران آغا الذي هو والد بيريفان . عندما بلغت السادسة سجلني والدي في المدرسة الابتدائية الوحيدة في القرية وكانت غرفتين من الطين , يسكن المعلم في واحدة منها ونتلقى دروسنا في الأخرى , أمضيت ست سنوات في تلك المدرسة مع بيريفان , كنا نجلس في نفس المقعد , وعند الانصراف كنا نذهب إلى بيتها , وندرس ونكتب وظائفنا سوية في قصر والدها , ونلعب ونغني في حديقته مثل فراشتين, ونتابع برمج الأطفال على التلفاز , وإذا جعنا كنا نأكل ونشرب معا ً , حتى المساء, حيث كنت أعود إلى بيت أهلي المؤلف من غرفة واحدة من الطين لأستمع في ليالي الشتاء إلى صوت سقوط قطرات الماء من سقف الغرفة عندما يهطل المطر , كنت مجتهدا في دراستي فأساعد بيريفان على القراءة والكتابة والحساب , وتساعدني على الرسم . لم يكن في قريتنا مدرسة متوسطة رغم أنها كانت كبيرة , لذلك عندما أنهيت المرحلة الابتدائية اضطررت إلى الانتقال إلى أقرب بلدة عن قريتنا لمتابعة دراستي , أما بيريفان فلم تتابع لأن الآغا منعها من إكمال دراستها استجابة للتقاليد السائدة , فبنظره قد كبرت البنت وعليها مساعدة أمها في أعمال البيت وعدم الاختلاط بالذكور والحديث معهم , لأن ذلك انتقاص لسمعتها وسمعة أهلها . غادرت القرية وكنت آنذاك في الثالثة عشر من عمري وسكنت في البلدة , وشعرت بمرارة الفراق تزداد في قلبي يوما بعد يوم كطفل صغير انفصل عن أمه , كنت أسافر إلى القرية ظهر يوم الخميس لزيارة أهلي وأعود السبت صباحا إلى مدرستي , وخلال هذه الزيارة كنت أحاول اللقاء بها أو حتى رؤيتها من بعيد ,
وعندما كنت أعجز عن ذلك , كنت أقف يوم الجمعة على قمة مرتفع يبعد حوالي مئة وخمسين مترا عن القصر , الذي كان مبنيا على منحدر تلك القمة , وأراقب حديقة البيت حتى تخرج إليه بيريفان فأراها من بعيد وأشعر بنشوة عظيمة , وخاصة عندما كانت تنظر باتجاهي وتلوح لي بيدها حين يخرج الآغا إلى صلاة الجمة في المسجد . وذات يوم وكان ذلك في شباط 1974 دعاني أحد الأصدقاء إلى زيارة بيت جده في الموصل و أثناء سيرنا في أسواق المدينة المكتظة رأيت بعض المحلات التجارية قد امتلأت بالورود والقلوب الحمراء المصنوعة من البلاستيك وبعضها من القماش , سألت صديقي عن السبب فقال : إن اليوم هو عيد الحب , كان لهذين الكلمتين وقع خاص على مسامعي , لم يكن لدي المال الكافي لشراء هدية لبيريفان فاستدنت عشرة دنانير من صديقي واشتريت بها مجسما لقلب أحمر في أسفله مكتوب بالإنكليزية " عيد حب سعيد , أحبك " وفي قمته وردة حمراء . في الأسبوع التالي حملت الهدية وسافرت إلى القرية عصر يوم الخميس وصرت أراقب باب القصر من قمة المرتفع , حتى خرج الآغا مع ابنه سامان وركبا السيارة وانطلقا , عرفت من هندامه أنه يتوجه تلبية لدعوة , وأنه سيتأخر , بعد دقائق خرجت بيريفان إلى الحديقة ونظرت باتجاهي , فأومأت لها أن تنتظر وانطلقت مسرعا باتجاه القصر وعندما وصلت الباب كان مفتوحا وتقف بيريفان خلفه ممسكة بالمصراع المفتوح , ألقيت التحية فردت بأحسن منها وابتسمت , كان اللقاء الأول وجها لوجه منذ سنتين , أخرجت الهدية من جيبي وقدمتها لها قائلا : هذه هديتي لك , جلبتها من الموصل . أخذتها من يدي وشكرتني , ثم خيم الصمت لبرهة فتابعت قائلا : اشتريتها لك بمناسبة عيد الحب , انظري إلى أسفلها , مكتوب عليه " أحبك " بالإنكليزية , نظرت إلي بيريفان وابتسمت , فقلت لها : أحبك يا بيريفان , وسأعمل كل شيء لأحظى بك , لم تعلق بيريفان على قولي , إلا أنها ابتسمت وقالت: إنها هدية جميلة حقا وسأحتفظ بها طول حياتي . غمرتني السعادة وكدت أطير فرحا وقلت لها : إنني أعاني من فراقك فكيف يمكننا التواصل ؟ فأجابت : على ذلك المرتفع الذي تقف عليه يوم الجمعة حجرة كبيرة منتصبة في أسفلها ثقوب , عندما تأتي يوم الجمعة وتقف هناك , ضع لي رسالة ملفوفة بأحد الثقوب , فسأجلبها لاحقا وسأرد عليها بنفس الطريقة . ودعتها والبهجة تلفني كأنني ملكت الدنيا كلها . في عام 1975 كانت الحكومة المركزية في بغداد قد نقضت بوعودها تجاه الأكراد فلجأ الشعب إلى حمل السلاح , وكان الطلاب يتسربون من المدارس للالتحاق بالثورة , وفي 1977 دفعني الشعور القومي وحماس الشباب والغيرة الوطنية إلى ترك المدرسة والالتحاق بصفوف البيشمركة , و قبل أن أقدم على هذه الخطوة وكلت مسؤولا الحزب الديمقراطي الكردستاني في القرية لمناقشة قضيتي مع بيريفان مع والدها كاميران آغا , إلا أن الخبر جاء كالصاعقة علي عندما أبلغت أن الآغا قال أنه مستعد أن يقتل ابنته ولا يزوجها
من ذلك الطرطور ابن الحذاء . وهنا بدأت مأساتنا الكبرى إذ أن مجرد انضمامي إلى صفوف البيشمركة يعني عدم قدرتي على التجول في القرى والبلدات وإلا سيكون مصيري الاعتقال أو القتل لأن عملاء ومخابرات النظام كانت تتربص بنا , وحتى إن لم يكن ذلك فقد نفيت من القرية لأنني سوف لا أكون في مأمن من الآغا الذي نطق
بالحكم علي دون محكمة أو محامين , درت مع رفاق السلاح كل جبال وسهول ووديان كردستان , كنا نقاتل في الربيع والصيف والخريف وفي الشتاء كنا نلجأ إلى مقراتنا في جبال قنديل حيث كنا كما أنتم الآن نتلمس خيوط نور الحرية في غياهب الكهوف وظلماتها , قاتلت بشرف و إخلاص وكان هناك حلمان لا يفارقان خيالي : بيريفان وكردستان , وكنت على يقين أنني سأحظى بهما يومأ . إن القتال كان يشغلني كثيرا ففي كل يوم كانت هناك أخبار جديدة , من انتصارات وهزائم , ومن قتيل وجريح أو أسير بين صفوفنا أو صفوف الجيش . ولكن عند كل هدنة أو هدوء حيث كنا نلتزم مواقعنا ولم يكن هناك ما نفعله كانت تبدأ مشكلتي , كانت بيريفان لا تفارق خيالي , كنت أفكر بها و أنا على سفرة الطعام أو ماشيا , وأرى صورتها في الكتاب عندما اقرأ , وفي وجه القمر عندما يسطع ليلا , وأشم رائحتها في الربيع عندما تتفتح أزهار الأقحوان والنرجس والبنفسج , وأرى شفاهها عندما تتفتق شقائق النعمان وأتذكر ألوان ثيابها عندما يلوح في السماء قوس قزح بعد عاصفة في الربيع . بعد ثلاث سنوات من اللوعة , دفعني الاشتياق إليها إلى طلب إجازة أسبوعية كل شهرين من آزاد الذي كان يترأس الوحدة المقاتلة التي انتمي إليها , متذرعا بزيارة خالتي في قرية جبلية وعرة قريبة من جبال قنديل لا يطالها يد الجيش , وخلال فترة الإجازة كنت أسير مسافة ثلاثة أيام في المنطقة الجبلية المحاذية للحدود العراقية التركية حتى أصل ليلا إلى القرية , وأصعد إلى تلك القمة المجاورة لقصر الآغا وأنام متكئا على تلك الحجرة التي أصبحت صندوق بريدنا , وفي الصباح أفتش عن الرسائل وأقرأها , ثم انتظر خروجها حتى الضحى فإذا طلت من الحديقة كنت أشعر بروحي كصحراء قاحلة جرداء تتهيأ لمعانقة سحابة ممطرة مرت من فوقها , ثم انصرف بعد أن اترك لها رسائلا طويلة كنت قد أعدتها خلال شهرين أو أكثر وكتابا كنت قد أنهيت قراءته . وأذكر
مرة أنني تركت لها شريطا للفنان محمد شيخو كنت أسمعه كثيرا أوقات الراحة . وفي سنة 1981 بشرتني بولاة أخيها الثاني رامان الذي شغل فيما بعد حيزا كبيرا من رسائلها , كانت تعبر عن حبها الشديد له وتصف طريقة ابتسامته ثم كيف يناغي وعندما كبر كانت تشكو من شقائه الكثير وفرط حركيته و عصبيته .
دمت على هذه الحالة لمدة أكثر عشر سنوات , كان مؤنسي الوحيد فيها خارج أوقات القتال هو طريق القرية ورسائل بيريفان والكتاب , لم أكن اسمع شيئا عن أخبار الأهل سوى ما كانت تكتبه بيريفان عنهم في رسائلها , وأحيانا كانت ترفقها بصورة لأختي جيهان أو أخي الصغير دارا الذي لم أره قط إذ ولد بعد التحاقي بالثورة , فقد كانت تحب أهلي كثيرا وتحترمهم , كأنها واحدة منهم , الأمر الذي كانت تذكره دائما في رسائلها .
في أواخر الشهر الثاني من عام 1988 كان الربيع قد اقترب , ولبست الأرض ثوبها الأخضر , والطيور الحبلى بثمارها تجمع قشة من هنا وشعرة من صوف الخراف من هناك , لتبني أعشاشها , أشرقت علي الشمس في ظهر تلك الربوة المجاورة لبيريفان , سحبت الرسالة الوحيدة من أسفل الصخرة لأراها نعيا , فقد غارت طائرة بعد منتصف الليل منذ أيام قليلة على بيت أهلي فاستشهد كل أفراد عائلتي , أبي الذي تجاوز الستين وأمي التي كانت في الرابعة والخمسين , وأختي جيهان ذات العشرين ربيعا التي كانت تجهز أمور زواجها الذي كان سيحدث في يوم نيروز , وأخي دارا الزهرة ذات البتلات التسع والذي لم أره قط , لقد كان وقع الخبر مثل الخنجر في عروقي , جلست وب ..بببكيت .......
تغير لحن صوته وبات أقرب إلى الحشرجة , وهنا مد إليه شيروان كأس الماء , بينما صاح المقاتلون الذين كانون يصغون إليه صامتين : " لا يموت الشهداء , لا يموت الشهداء " وكانت بيريفان آنذاك تمسح دموعها .
وبعد دقيقة ساد الصمت وتابع شفان :
_ بكيت كثيرا في ذلك الصباح , وعيوني لا تبارح القصر حتى ظهرت بيريفان في الحديقة وهي ترتدي الأسود من قمة رأسها إلى قدميها الأمر الذي زادني حزنا وكآبة .
ومنذ ستة أشهر , وفي ليلة صيفية مقمرة , كنا خمسة عشرة مقاتلين في كمين على طرفي واد يؤدي إلى مقر قيادتنا المحلية , عندما سمعنا هدير المدرعات وأصوات جنازيرها آتية باتجاهنا . لم يكن الجندي العراقي على إيمان بقتالنا بل كان يساق عنوة إلى الجبهة لذلك كنا نحاول تجنب قتلهم مفضلين استسلامهم إلا إذا وجدنا أنفسنا في خطر منهم , ولما اقترب منا الهجوم أمرنا بفتح النار عليهم بأسلحتنا الخفيفة والمتوسطة ,كانت نيران القذائف تتلألأ في الوادي والسفح وأزيز الرصاص ودوي الدبابات يمزق السكون في تلك المنطقة التي اعتادت على الهدوء والسكينة , فقد دارت معركة شرسة بيننا راح ضحيتها الكثير من الجنود ودمرنا
ثلاث مدرعات بال آر بي جي وقتل اثنان من رفاقنا وجرح آخر , استطعنا أن نصد الهجوم , وارتد الجيش قافلا وكنا نعقب أثرهم ونحن على السفح في جهتي الوادي , وآخر شيء أتذكره من المعركة هو عندما التفت خلفا إلى رفيقي لأطلب منه ذخيرة فقد وجدت نفسي بعدها مستلقيا على سرير الطبيب في الكهف , سألت عما إذا كانت المعركة لا زالت جارية فقال الرفاق أنها انتهت منذ ثلاثة أيام . استشفيت على يد الدكتور آسو لمدة ثلاثة أسابيع وتحسنت حالتي كثيرا , وقد أخبرني أن هناك ِشظية اخترقت عظام جمجمتي من الخلف واستقرت فوق السحايا , وهي لم تؤذ المادة الدماغية , إلا أن وجودها قد يسبب لي كارثة إذا بقيت ولم تخرج جراحيا , وقد منعني من العمل القتالي ونصحني بالمكوث معه حتى تهدأ الأمور ليتمكن الحزب من إرسالي إلى إحدى الدول للعلاج , كنت بصحة جيدة سوى بعض الصداع الذي كان ينتابني بين الحين والآخر .
قضيت خمسة شهور على هذه الحالة , كانت مهمتي تنحصر في مساعدة الطبيب في بعض الأحيان , وتجهيز وجبات المقاتلين أحيانا أخرى , ولكن الكوابيس لم تكن تفارقني لحظة واحدة , فقد شعرت أن نهايتي اقتربت , وأنني سأموت في هذا الكهف بعيدا عن بيريفان , سأموت دون أن تكون بجانبي لتخفف عني آلام سكرات الموت سأموت دون أن تعلم بموتي لتذرف علي الدموع .
منذ أسبوع طلبت من القيادة إجازة مطولة متذرعا بقضاء نقاهة في بيت خالتي , وانطلقت الصباح الباكر باتجاه القرية , وكان الجو باردا والغيوم البيضاء تغطي وجه السماء وتحجب الشمس عن الظهور , ومعي بندقيتي وكيس من الزبيب والتمر وكسرات من الخبز , قطعت جبالا ووديانا كثيرة غارقا في الأفكار وملهوفا لرؤية بيريفان أو على الأقل قراءة رسائلها بعد غياب دام أكثر من ستة أشهر , كنت أحلم أن ألتقي بها لنناقش ما آل إليه وضعي الصحي الخطر , مساء اليوم الرابع وصلت إلى مشارف القرية , صعدت إلى تلك الربوة التي باتت تمثل لي المأوى الفريد في قريتي , والملجأ الوحيد عند الشدائد , ووصلت القمة بعد آذان المغرب بقليل وكانت خيوط الغسق لا تزال تتراقص على قمم الجبال , و تنعكس أشعة الشمس على أهداب السحب الناعمة في السماء ببريق ذهبي يفصل بين زرقة السماء وبياض الغيم , كنت على عجلة من أمري حتى أصل في موعد قبل
أن يحل الظلام الدامس لأتمكن من قراءة رسائل بيريفان , لكنني عندما وصلت إلى موقع الصخرة وجدتها قد تحولت إلى فتات متناثرة من أحجار صغيرة , فعلمت أن صاروخا قد أًصابها من طائرة حربية , كان التعب قد نال مني مناله , وبدأ الصداع ينخر رأسي ويداي ترتعدان جوعا وبردا , وقفت صامتا وبدأت أفكر : يا إلهي ! أين أذهب , فالعودة مستحيلة , والنزول إلى القرية محفوف بالمخاطر وسينتهي إما بقتلي أو اعتقالي وهو أبشع من القتل , فأزلام النظام موجودون في كل مكان , جلست على حجرة أتناول ما بقي من حبات الزبيب في ثنايا ثيابي وعيني لا تفارق قصر الآغا حتى بلغت الساعة التاسعة , إذ اشتد البرد وبدأ الثلج بالهطول , كان الليل هادئا والرياح شمالية والجو كئيبا , وما ألهب قلبي وزاده حزنا هو صوت محمد شيخو الآتي من القصر فانهالت دموعي وكاد يغمى علي . لحظة رأيت كاميران آغا وميرم خاتون وابنيهما خرجوا من باب البيت مرتدين ملابس فاخرة وركبوا السيارة وانطلقوا حتى وصلوا الطريق العام واتجهوا خارج القرية , وكان صوت الأغنية ما زال يسمع من القصر , نهضت وسرت باتجاه البيت حتى وصلت إلى النافذة التي يصدر منها الصوت وطرقته , وكان له مصراعان حديديان شبكيان من الخارج وآخران خشبيان من الداخل , انخفض الصوت الأغنية وساد الصمت هنيهة فطرقته مرة أخرى , فصاحت بيريفان بصوت مرتعب من الداخل : من يطرق النافذة ؟ فأجبتها : أفتحي بيريفان , أنا شفان . لم تصدقني فكررت : أنا شفان أفتحي النافذة من فضلك , وكنت آنذاك شاحب الوجه طويل اللحى وإشارات التعب والحزن واضحة على وجهي , ففتحت مصراعا خشبيا وفزعت وكادت أن تغلقه فصحت : لا تغلقي , والله أنا شفان وقد أصبت في العركة ودخلت شظية في رأسي , قال الطبيب أنني سأموت ,ولم أكمل العبارة حتى انفجرت بالبكاء , فتحت بيريفان المصاريع الأربعة وبكت وعانقتني بحرارة وضمتني إلى صدرها بحرارة وقوة وهي تمسح وجهها بوجهي , وكان العناق الأول بعد حب دام حوالي عشرين سنة .
ساعدتني بيريفان على الدخول من خلال النافذة , وأبقتها غير محكمة الإغلاق , فاجتمعنا في غرفة دافئة , اعتدنا أن ندرس فيها عندما كنا صغارا قبل ثمانية عشر عاما , تعانقنا ثانية حتى ارتوت روحانا قليلا من لظى ظمئهما فشعرت أنني غير قادر على الوقوف أكثر , استلقيت على سرير بيريفان بينما انصرفت هي إلى المطبخ فأحضرت لي على عجالة وجبة من الرز ولحم الدجاج الطازج وعصير البرتقال ,تناولت العشاء فقالت أن الحمام جاهز , دخلته , اغتسلت وحلقت لحيتي , ثم اتفقنا على المغادرة الساعة الثانية عشر من الليلة التالية عندما يكون الجميع نياما على أن تصطحب معها كل ما يلزمنا في طريقنا إلى المجهول , عانقتها للمرة الثالثة بعد أن
استرجعت قواي قليلا , ثم زودتني بيريفان بلحاف شتوي فخرجت من الشباك وسرت باتجاه ملاذي وبين الفينة والفينة كنت التفت إلى الوراء لأرى بيريفان لا تزال تقف خلف الشباك تلوح لي بيدها , وعندما وصلت إلى مأواي وبعد دقائق قليلة وكنت فيها استند ظهري إلى صخرة وأراقب النافذة وقفت سيارة الآغا أمام باب البيت فأغلقت
بيريفان الشباك وأطفأت الأنوار , بينما قمت لأفتش عن صخرة أو شجرة تحميني من الثلج لأنام تحتها . وفي الليلة التالية وعلى الموعد تماما بانت بيريفان فانطلقنا نشق طريقنا .
. . .
عندما خلص شفان من كلامه عم الصمت لثوان , ثم رفع احد المقاتلين يده وكان أسمه كابار وأصله من القامشلي , فأومأ له شيروان بالحديث فقال :
_ أقترح أن يكون غدا يوم عطلة لنحيي لهما حفلة زواج ونعقد قرانهما , فقد اشتقنا إلى الأعراس والدبك .
التفت شيروان إلى الضيفين وقال :
_ هل توافقون على هذا الاقتراح ؟
_ نعم موافقون . قالها شفان , بينما أحنت بيريفان رأسها خجلا .
ابتهج الجميع فرحا منتظرين يوما ليس ككل الأيام , يتخلصون فيه من الروتين اليومي القاتل , ويذكرهم بالأعراس التي كانت تقام في مدنهم وقراهم . بعد العشاء انصرف المقاتلون والمقاتلات إلى التحضير لمراسيم حفل الزفاف .
في اليوم التالي كان هناك عرس ليس ككل الأعراس , فالمكان كهف وليس قاعة احتفالات أو مطعم فخم . ولم يكن هناك أم أو أخت أو صديقة أو جارة تزغرد وإنما مقاتلات بالزي العسكري الخشن , ولم يكن هناك عروس تلبس الأبيض الفضفاض كالفراشة وإنما صنع لها ثوب مزركش من عدة رقع من القماش معفرة بالتراب والغبار ,
وزين وجهها وعيناها بأقلام الكتابة وليس بمساحيق التجميل , وسرح شعرها بأصابع اعتادت تنظيف البنادق والضغط على الزناد وليس بأمشاط وسيشوارات صالونات الحلاقة .
أما العريس فقد ارتدى ( الشال والشابك ) وكوفية كردية ولف خاصرته بحزام عريض من القماش المطوي على نفسه . جلس العروسان متلاصقين على كرسي من الخشب وإلى جانبهما مقاتل يعزف على الطنبور وآخر ينظم الإيقاع بالدربكة , والآخرون يدبكون من حولهم مطلقين شعارات و أناشيد ثورية حتى وقت متأخر من الليل , أجرى كابار مراسيم عقد القران حسب ما يقتضيه الدين والمذهب بعد أن طلب منهما الوضوء ثم قرأ البعض الفاتحة , ودخل العروسان إلى غرفة صغيرة كانت قد خصصت لهما وجهزت بفراش صغير ولحاف من الصوف ووسادة وشمعتين وباب من قطع متفرقة من الخشب , ثم آوى الجميع إلى الفراش , وبعد ساعة أخترق سكون الليل المطلق أنين خجول من إحدى زوايا ذلك الكهف المظلم , وتعانق روحان ظلا يناجيان بعضهما منذ عقدين , والتصق جسدان عاريان بقيا يشحنان بلوعة الحب منذ عشرين سنة , دخل العروسان في تلك الليلة إلى عالم يجهلانه وإنما كانا يتخيلانه طيلة سنوات مضت فوجداه ألذ مما كانا يعتقدان , ذلك العالم علمهم كيف يسد الرمق الحقيقي ويرى العطش الروحي .
عندما بلغت الساعة الخامسة صباحا كان العروسان لا يزالان مستيقظين فقام شفان وارتدى ملابسه ثم فتح الباب وتوجه نحو غرفة الطبيب , لم يكن لها باب , دخلها فوجد الطبيب لا يزال يقرأ على ضوء الشموع فبادر شفان :
_ عمت صباحا دكتور .
_ صباح الخير شفان , ها هو القدر مليء بالماء الساخن على الموقد .
نظر شفان إلى الطبيب بعين يملؤها الشكر والامتنان ثم حمل الطنجرة من على الموقد وشكر الطبيب . اغتسل العروسان ولبسا ملابسهما ونشفا شعرهما ببشكير تنبعث منه رائحة عفنة . طرق الباب ففتحه شفان فوجد الطبيب على الباب حيث قال :
_ هل تفكران باحتساء القهوة معي قبل أن يبدأ برنامج العمل اليومي ؟
ثم عاد إلى غرفته فلحقاه العروسان وجلسا معه على سرير واحد يرتشفون القهوة الساخنة , قال الطبيب مازحا:
_ أخبروني كيف كانت ليلتكما ؟
_ ممتازة يا دكتور , لا تخف علي فإن جسمي قوي . أجاب شفان ضاحكا , بينما ابتسمت بيريفان بخجل وأدارت رأسها عنهما . فأضاف الطبيب مقهقها :
_ أعرف أن جسمك قوي لذلك سهرت لأجلكما .
قطع حديثهم صياح شيروان , اجتماع , اجتماع عندها علموا أن الساعة بلغت السادسة وأن البرنامج اليومي قد بدأ .
بقي العروسان في الكهف مدة شهر كامل حيث هطلت أمطار غزيرة وذابت الثلوج من على الجبال والوديان والسهول , خرج الجميع من الكهف في يوم خيم فيه الضباب الكثيف وغطت السماء غيوم عاتية إذ كانوا على مأمن من أنظار الجيش , اقترب شفان من شيروان وقال :
_ أعتقد أنه وقت المغادرة بالنسبة لنا .
_ كما تشاءان , إذا كنتم مصممين على المغادرة فلكما ذلك , وسأكلف اثنين من المقاتلين ليدلاكما على الطريق العام الذي يؤدي إلى ولاية شرنخ .
ودع العروسان الجميع وقبلت بيريفان المقاتلات وسط الدموع , وكذلك قبل شفان المقاتلين , وشكراهم على كل ما فعلوه من أجلهما ثم انطلقا مع المقاتلين المكلفين . ظهيرة ذلك اليوم كان المقاتلان يسيران أمام العروسين في ممرات جبلية ضيقة , قطعوا تلالا ووديانا وهم يصعدون تارة ويهبطون تارة أخرى والضباب الكثيف يلفهم , وبعد مسير أكثر من ساعتين انقشع الضباب قليلا ولاح في الأفق طرق معبد أشار إليه أحد المقاتلين بأصبعه وقال :
_ هل تريان ذاك الطريق .
_ نعم , ها هي سيارة تمر من فوقه .
_ هذا الطر يق يؤدي إلى مدينة شرنخ بمسافة 15 كيلو مترا
ودع شفان بيريفان المقاتلين وتابعا سيرهما حتى وصلا إلى ذلك الطريق ووقفا ينتظران سيارة عابرة , كانت الساعة قد تجاوزت الثانية عصرا , وكانت الشمس تسطع بين الحين والآخر بنورها الخافت الذي يجتاز طبقات الغيم الرقيقة , والشمال كان يرسل نسائمه الباردة عبر فتحات بين جبال عالية باتت تلوح في الأفق كلما انسحب
الضباب باتجاه السماء , قال شفان ويده اليمنى تمسك يد بيريفان واليسرى يضعها بين ثنايا ثيابه ومحدقا بوجه بيريفان :
_ كم أنت جميلة حبيبتي , لا زلت أتذكر تلك الليلة مثل الكابوس , أدام الله هؤلاء الرجال الذين أنقذونا من براثن الموت المحقق .
_ كانت ساعات عصيبة بالفعل ولكن تلك التي تلت كانت جميلة , لقد كانوا أناسا في غاية اللطف , شعرت بهم يغمرونني بعطفهم , خاصة تلك الفتيات اللواتي تركن أهلهن وفضلن الحياة القاسية والسكن في الكهوف لأجل قضية يؤمن بها .
في تلك الأثناء أقبلت سيارة تكسي خصوصية , كان فيها بالإضافة إلى السائق شخص آخر إلى جانبه يحمل بندقية وقفت السيارة ونزل منها ذلك الشخص وتوجه باتجاههما وقهقه قائلا بالكردية :
_ ما الذي أتى بكما إلى هذا المكان النائي ؟ من أين أنتما ؟ فرد عليه شفان :
_ نحن من قرية تقع خلف هذه الجبال .
_ وأين تذهبان ؟
_ نحن ذاهبان إلى شرنخ للعلاج .
قهقه الرجل مرة أخرى وبصوت أعلى وقال :
_ لا تكذب ! إن لهجتك عراقية , تختلف عن لهجة أهالي هذه القرى , من الأفضل لك أن تعترف لأن الكذب لا يفيدك هنا .
_ وبماذا أعترف ؟
_ أنك من جماعة الإرهابيين .
كان الرجل يقف أمامهما على بعد ثلاثة أمتار ويوجه فوهة بارودته إليهما ولكنه لا يستطيع الحفاظ على توازنه فيتمايل مرة إلى اليمين ومرة إلى اليسار . ارتعبت بيريفان وأجاب شفان :
_ إننا مواطنين عاديين ولا علاقة لنا بما ذكرت .
_قلت لك لا تكذب وإلا سأتعامل معك بهذه البندقية . قال الرجل محركا بندقيته .
فتح الرجل باب السيارة الخلفي ودعاهما إلى الركوب , جلست بيريفان خلف السائق بينما جلس شفان خلف الرجل المسلح , كان يفوح من داخل السيارة رائحة الينسون , وأمام كل من الرجلين كأس فيه سائل أبيض وكيس من الورق فيه حبات من فستق العبيد , انطلقت السيارة بسرعة جنونية وكان الرجلان يرشفان من كأسيهما ويقذفان حبات الفستق إلى فمهما بطريقة مضحكة , تابع حامل البندقية وهو يقهقه وينظر إلى بيريفان من المرآة :
_ من أين أتيت أيتها الحمامة الجميلة وأين اصطادك هذا الصعلوك ؟
وقال السائق ضاحكا :
_ هل تودين أن تحلي ضيفة علي , أو على هذا الرجل , أو على الحكومة ؟
وقطع الآخر حديثه قائلا :
_ جميل أن نصيد أرنبين في هذا الشتاء القارس .
ثم التفت إليهما وتابع القول :
_ تريدان تدمير دولتنا أليس كذلك ؟ والله إنكما صيد ثمين .
احمر وجه شفان غضبا وخفق قلبه بين أورابه وأخذ يفكر بطريقة تمكنه من التغلب عليهما نظر إلى الأسفل فوجد حبلا تحت قدميه خلف الكرسي فحمله خلسة ووضعه على فخذيه , ثم أومأ إلى بيريفان أن تلقم المسدس الذي كان في حقيبتها , وبشكل خاطف أحاط صدر الرجل وذراعيه بالحبل وشده بقوة إلى المقعد بحيث لم يستطع
تحريك جذعه ويديه وكانت البندقية معلقة إلى كتفه اليمين وفوهتها إلى الأعلى فحوصرت بين جسمه والكرسي , وفي ذات الوقت لقمت بيريفان المسدس ووجهت فوهته إلى رأس السائق . فصاح الراكب بصوت مقطع :
_ أرجوك , والله كنا نمزح , أرجوك لقد اختنقت , أرخ الحبل من فضلك إنني لا أستطيع أن أتنفس .
وقال السائق مرتبكا والسيارة تسير يمنة ويسرة وتكاد أن تخرج عن الطريق :
_ أتوسل إليكما لا تقتلانا , إننا أكراد مثلكما ونحب المقاتلين وقائدهم , أرجوكما , إن لنا أطفالا صغارا فلا تجعلانهم أيتاما .
عقد شفان الحبل خلف المقعد ثم أحاطه بصدر وجذع الرجل , الذي لم يعد قادرا على الكلام , عدة مرات وأحكم تثبيته ثم أخذ المسدس من بيريفان ووجه إلى السائق قائلا :
_ قد السيارة بهدوء أيها الحقير , قدها يمينا إلى ذاك الطريق الفرعي وإلا سأفرغ مشطا كاملا في رأسك .
_ أمرك يا سيدي أمرك .
أدار السائق المقود بيديه المرتجفتين إلى اليمين ودخل في طريق ترابي جبلي الذي أدى بهم بعد مئات الأمتار إلى مكان ضيق يمر بين الجبل والوادي فأمره بالتوقف والنزول والسير بضعة أمتار بعيدا عن السيارة , سار الرجل مترنحا ووقف حيث أشار له شفان , فك شفان مخزن البارودة وهي في مكانها ثم لقمها مرتين للأمان ورمى المخزن بعيدا في الوادي ثم فك الحبل وحرر الرجل الثاني وأمره أن يلحق بالسائق فأسرع إليه مترنحا هو الآخر بعد أن أخذ البارودة من كتفه , أمهما أن يديرا ظهرهما إليه ولا يتحركا وإلا سيواجهان الموت , مسك البارودة من سبطانتها وضرب بها صخرة كانت هناك حتى اعوجت فرماها هي الأخرى في الوادي والتفت إلى الرجلين اللذان كانا واقفين إلى جانب بعضهما ويميلان إلى هذه الجهة أو تلك كأنهما غصنان تتلاعب بهما الرياح وهما يسترقان السمع ولا يعرفان متى سيسمعان أزيز المسدس وأمرهما بالجلوس , فتشا السيارة فوجدا في الصندوق الأمامي المخصص لوضع الكاسيتات والوثائق مبلغا من المال على شكل ليرات تركية وعدة قوارير من العرق وختما , حمل شفان المال وقارورتين وسار إليهما فأعطى المال لصاحبه وطلب من أن يدسه في جيبه , ثم قال لهما :
_ أنا لا أقتلكما , ليس شفقة بكما ولكن من أجل أطفالكما الصغار .
ثم أعطى لكل منهما قارورة وأمرهما أن يتجرعاها , استمرا في الشرب حتى سقطت القارورتان من يديهما وسقطا هما الآخران وملأ شخيرهما الوادي . أخرج مفتاح السيارة من جيب السائق ورماه هو الآخر في الوادي , وقفلا عائدين إلى الطريق , لم ينتظرا كثيرا حتى بانت حافلة صغيرة للركاب آتية من القرى النائية المتناثرة خلف الجبال ومتوجهة إلى الغرب باتجاه شرنخ , صعدا إليها كان داخلها دافئا ولم يكن فيها إلا بضع ركاب , فضلا عدم الاحتكاك بأحد لذلك جلسا في المقاعد الخلفية , فقد تعلما أن المكان الذي يقفان فيه مثيرا
للشبهات , لم تكن المدينة بعيدة فبعد ربع ساعة نزلا في أحد شوارعها وكانت الساعة اقتربت من الرابعة سارا في شوارع المدينة قليلا فلم يشعرا بالغربة , أحسا أنهما يسيران في شوارع زاخو أو دهوك فاللغة نفسها وملامح الناس عينها , حولا جزءً من الدولار إلى العملة التركية عند محل للصرافة , فكر شفان أن البقاء في المدينة لمدة طويلة هو أمر محفوف بالمخاطر فاستيقاظ المختارين من سباتهما يعني بالضرورة إطلاق يد الحكومة للبحث عنهما , وعليهما أيضا تغيير مظهرهما قدر المستطاع لأن شبح الملاحقة قد يتبعهما حتى اسطنبول , دخلا إلى متجر للألبسة النسائية فاختارت بيريفان بنطال جينز وكنزة من الصوف وجاكيت من الجلد وحذاءً طويلاً من الجلد , غيرت ملابسها في غرفة القياس ووضعت ملابسها القديمة في كيس , ثم دخلا محلا للألبسة الرجالية كذلك فعل شفان أيضا , بعدها وجدا دكانين إلى جانب بعضهما أحدهما للحلاقة النسائية والآخر للرجال دخلاها أيضا وخرجا بعد نصف ساعة بحلة جديدة حتى كاد الواحد منهما لا يتعرف الآخر , بدت بيريفان كاللؤلؤة التي خرجت من محارتها , بيضاء ذات وجه مدور كالبدر يتوسطه أنف صغير , وعينين خضراوين وواسعتين ومتباعدتين قليلا كعيون الغزلان , وفم وأسنان كحبات من اللؤلؤ وسط وردة حمراء , وشعرها الذهبي الطويل الواصل إلى أردافها كان يتلاعب به النسيم فيتموج كما تتموج سنابل القمح قبل الحصاد عندما تهب عليها نسائم أيار . دخلا إلى مطعم شعبي وجلسا وجها لوجه قالت بيريفان :
_ يليق بك في هذا الهندام وهذه الوسامة أن تكون نجما في التلفزيون أو السينما .
_ أما أنت فقد جننت فيك ولا أعرف متى سيحل الليل .
قالها شفان مادا يديه ليمسك بيديها ,سحبت بيريفان يديها وقالت :
_ هدئ أعصابك , هناك أناس حولنا .
تناولا لحما بعجين وسلطة وصحنا من الكبة النيئة ثم شربا شايا وانطلقا باتجاه موقف باصات ديار بكر بعدما سألا صاحب المطعم عنه . انطلق الباص الساعة السابعة مساء شاقا طريقه بين المرتفعات والوديان والسهول غمرهما الدفء في داخله , وضع شفان يدي بيريفان بين يديه بينما وضعت هي رأسها على كتفه وخلدا لإلى النوم .
وصل الباص إلى ديار بكر الساعة العاشرة والنصف ليلا , أيقظهما مضيف الباص من نومهما فنزلا واستقلا سيارة أجرة وطلبا منه إيصالهما إلى فندق , في الطريق إلى الفندق أدهشهما وجود العسكر والبوليس في الشوارع والتقاطعات , كان سائق التاكسي في أوائل الأربعينيات من العمر حنطي البشرة بشوش الوجه وذو شعر مجعد وأسود يتخلله البياض من الأسفل , سألهما من باب الفضول :
_ يبدو أنكما عراقيان أليس كذلك ؟
_ نعم نحن من كردستان العراق . رد شفان .
_ أهلا وسهلا بكما في آمد , هل زرتماها قبل هذه المرة .
_ لا هذه المرة الأولى , إنها أكبر وأجمل مما توقعت .
_ هل تبغيان سياحة أم علاجا ؟
_ لا هذه ولا تلك , نود العبور إلى أوربا .
_ إذا كنتما لا تحملان جوازات سفر نظامية وعليها تأشيرات دخول إلى تركيا , فمن الصعب أن تجدا فندقا يقبل نزولكما فيه .
_ ما الحل إذا ؟
_ ما رأيكما أن تحلا ضيفين علينا هذه الليلة ؟
_ لا نريد أن نسبب لكم الإزعاج سنبحث عن مكان في فندق .
_ إن الفنادق هنا لا تخلو من عيون وآذان الدولة لذلك أنصحكما بعدم المغامرة .
هنا تذكر شفان الحادثة التي مر بها منذ ساعات وراوده القلق والخوف من الاعتقال ورأى أنه من الأفضل تلبية دعوة الرجل وقال :
_ إذا كان الأمر كذلك فإننا مضطرين لقبول دعوتك .
أدار السائق المقود إلى اليمين في أول مفرق صادفه وقاد سيارته في أزقة ضيقة حتى وقف عند باب بناية قديمة أطفأ سيارته وأحكم المكابح يدويا وطلب منهما النزول .
كان البناء الحجري مبنيا على طراز معماري قديم وهو من طابقين وتحتهما محلات تجارية مقفلة , أما المنزل مؤلف من أربعة غرف كبيرة سقفها يرتكز على أعمدة خشبية مطلية بالأبيض اللماع أما الحيطان مدهونة بالأبيض الناشف . قادهما السائق إلى غرفة الضيوف , حيث يجلس والده , حاول الشيخ الذي تجاوز الثمانين سنة النهوض ليرحب بهما فأسرع شفان إليه وصافحه وهو جالس وكذلك فعلت بيريفان , كان الشيخ طليق اللحى وأبيضها كث الشعر عريض الحاجبين يغطي رأسه بكوفية , يستنجد في نظره بعدسات سميكة وفي يده مسبحة ذات تسعة وتسعين خرزة لا يمل من التسبيح بها , ذاكرا اسم الله بين كل عبارتين ينطق بهما , يجلس متربعا على فراش ثخين من الصوف ويتكئ على وسادتين وضعهما فوق بعضهما , عرف الابن والده بالضيفين , وقدم نفسه باسم سعيد الابن الوحيد للشيخ , دعاهما العجوز إلى الجلوس قريبا منه وقال مبتسما وبصوت جهوري :
_ أهلا وسهلا بكما , إن من يتجاوز الثمانين يحتاج إلى ترجمان , فإذا جلستما بعيدين فلا أتمكن من سماعكما .
رفع الابن صوت التلفاز واسترق الاثنين السمع وبعد دقيقة سأل الشيخ ضيفيه :
_ أنتما لا تعرفان التركية , أليس كذلك ؟
_ لا يا عم لا نعرفها . أجاب شفان .
_ إن التلفاز يقول أن عشرة إرهابيين هاجموا اليوم سيارة مواطنين بريئين شرق مدينة شرنخ وساقوهما إلى واد وسرقوا منهما مبلغا كبيرا من المال .
نظر شفان إلى بيريفان وابتسم وقال لها مازحا ومستغلا خروج الابن لإحضار العشاء :
_ أسمعت ؟ إن زوجك يعادل عشرة رجال .
وتابع الشيخ قائلا :
_ لا أحد هنا يصدق ما يقال في الإعلام الحكومي , فهو يصور كل من يحمل السلاح من غير الدولة على أنه إرهابي وقاطع طرق ومجرم وقاتل , إنهم أبناؤنا كما الجيش فالأخ يقتل أخاه , ولا تعترف الدولة أن هناك قضية تنتظر حلا , ممنوع علينا حتى الحديث باللغة التي علمنا إياها والدانا , إنها لمصيبة , ولكن ما العمل ؟ هناك من يسكت وهناك من يحمل السلاح . يقول محمد صلى الله عيه وسلم : رحم الله امرئ عرف حده ووقف عنده , فلو أن كل دولة أو أمة عرفت حدودها والتزمت بها لما كانت هناك حروب ولعاش كل البشر بسلام وإخاء ورفاهية , ولكن يبدو أن ذلك حلم بعيد المنال لبني البشر , فكلما تقدم الإنسان طور معه شيئين : حب السيطرة على الآخرين وأسلحة فتاكة يحقق بها ذلك الطموح .
كان يتحدث الشيخ وهو يسحب خرزات مسبحته السوداء المصطفة مثل رتل من النمل حبة حبة بين الإبهام وإصبع الشهادة , ويطلق التسبيحات والتكبيرات بعد كل جملتين أو ثلاثة من حديثه , جلب الابن العشاء على صينية من الفضة , لحم دجاج مسلوق ورز وسلطة خيار بلبن .
بعد تناول العشاء انطلق الابن إلى عمله وتابع الشيخ حديثه :
_ في شهر شباط من عام 1925 التحقت بانتفاضة الشيخ سعيد بيران وقاتلنا تحت راية خضراء وكان شعارنا الأساسي هو : لتحيا الخلافة ولتسقط الجمهورية , صحيح أن معظم مريدي الشيخ كانوا أكرادا إلا أن غايته الأسمى كانت الإسلام والحكم بما أنزل الله بعد أن غير مصطفى كمال مسار التاريخ استجابة لمطالب الغرب فألبس الدولة قوانين سويسرا تمهيدا لإلغاء اتفاقية سيفر وعقد اتفاقية لوزان , لكن وسائل إعلام الدولة آنذاك كانت تصورنا عند المواطن التركي كانفصاليين قوميين ولصوص وقطاع طرق كما تفعل الآن , لخلق العداوة بين المواطن التركي والكردي . كان سعيد بيران شيخا جليلا متواضعا , لا يقبل تقبيل الأيدي والانحناء أمامه ولا يؤمن بالكرامات , قاتلنا في ظل قيادته بشرف وإخلاص , قمعت الدولة ثورتنا بوحشية فظيعة , استشهد عشرات الآلاف وهجر مئات الآلاف من أبناء شعبنا وأحرقت القرى والحقول . ألقي القبض على الشيخ وأعدم في ساحة الجامع الكبير في ديار بكر على بعد مئات الأمتار من هنا . إن الحرب جحيم يا أبنائي . وماذا يمكن أن تجلب الحروب غير الدمار والمآسي لأطراف الصراع ؟ حكم علي بالإعدام فاتجهت نحو الجبال , فلا صديق للكردي خير من جباله , بعدها شاركت في انتفاضة آرارات من عام 1927 حتى 1930 وقمعت هي الأخرى فهربت إلى إيران وعملت فيها كراعي للأغنام عند إقطاعي كردي حتى اندلعت انتفاضة ديرسم سنة 1936 , غادرت إيران لألتحق بها وهناك أيضا أخمد نار الثورة بوحشية كبيرة , لجأت مرة أخرى للجبال مع بعض الثوار حتى صدر عفو من الدولة في الأربعينيات فعدت إلى ديار بكر . ولا أعلم ماذا سيكون مصير الحرب الجارية الآن , ولكن ما
أعرفه أن العنف سيؤدي إلى المزيد من الكوارث , ولا يمكن أن ينتصر طرف على آخر , ولا يمكن أن تحل الحرب المشكلة , وإنما القضية يمكن حلها سلميا .
وضع الشيخ المسبحة جانبا ومد يده على كيس يشف عن تبغ أصفر مثل الذهب وبدأ يلف سيكارة , ثم أشعلها بقداحة ذات فتيل قطتي وبكرة صغيرة خشنة الملمس تدار بالإبهام فتشحذ قطعة الصوان مطلقة شرارة متوهجة إلى الفتيل المشرب بالكاز حتى يبدو مثل الجمر . تابع الشيخ حديثه :
_ هذه القداحة هي هدية من أحد أبناء عمومتي ورفيق سلاحي إبان ثورة الشيخ سعيد , أحتفظ بها منذ خمسة وخمسين سنة ولا زالت تشعل وكأنها خرجت توا من المعمل , كان رجلا كريما وشجاعا , استشهد أمام عيني , حزنت عليه كثيرا , كان له أخ آخر أصغر منه , التحق هو الآخر بالثورة بعدنا ولكنه لم يكن في خليتنا , انقطعت أخباره مذ ذاك الوقت , كان اسمه حسن حمرش .
قاطعه شفان مذهولا وقال :
_ أأنت ابن عم حسن حمرش يا عم ؟
_ نعم يا بني , أنا ابن عمه .
_ إنه جدي يا عم .
صمت الشيخ وتفرس في عينيه وقال :
_ أأنت حفيد حسن ؟
_ نعم يا عم , أنا حفيده .
ترقرقت الدموع في عيني الشيخ ثم نهض وقال وفي صوته حشرجة وبكاء ومهيئا ذراعيه للاحتضان :
_ تعالى أضمك يا بني , تعالى أشمك .
تعانق الشيخ والشاب وسط الدموع لدقائق , عاد سعيد من عمله مبكرا وقص له الشيخ حكاية الضيف فعانق هو الآخر ابن عمه , ثم جلسوا وبدأ شفان يروي لهما قصة العائلة من يوم دخول جده القرية حتى حينه , إلا أنه لم يتطرق إلى كيفية اقترانه بيريفان واكتفى بالقول أنهما تزوجها منذ سنة , وكيف يبوح بسر كهذا في مجتمع يساوي بين الخطيفة والعاهرة ؟ يعز عليه كثيرا أن تنعت بيريفان , الملاك الطاهر في عينه وقلبه , بهذه الصفة . وامتنع أيضا عن ذكر ما جرى له ظهيرة اليوم .
لم يكن في خطة شفان المكوث في ديار بكر أكثر من ليلة واحدة ولكن جرت الرياح بما لا تشتهي سفنه . أبناء عمومة ظهروا له فجأة من أحضان الصدفة فبات من واجبه البقاء لمدة أطول وسط إصرار عمه الشيخ وابنه سعيد وأبناء عمومة آخرين سيبدؤون بالظهور فيما بعد واحدا وراء الآخر, لقد أخبره عمه أنهم كثر , فعائلته باتت كبيرة بعدما انحصرت بشخصه بعد استشهاد عائلته الصغيرة في القرية , بدأ يفكر في الأمر جديا في تلك الليلة بعد أن آووا إلى الفراش وأسدلت بيريفان ستار جفنيها عن عينيها الجميلتين , أشباح أفكار وخيالات باتت تطن في رأسه في أول ليلة له في موطن أجداده , قضى نصف الليل يجادل نفسه , فبقاؤه الطويل في ديار بكر هو ضرب من المغامرة بعد أن انضمت الدولة إلى كاميران آغا في البحث عنهما , لا بد أن الرجلين أعطيا أوصافهما لرجال الشرطة والمخابرات بعد أن استفاقوا من سكرتهما وما إعلان وسائل الإعلام عن هجوم عشرة أشخاص إلا فبركة من الدولة وليس من الرجلين , ألم يخبره عمه عن الطبيعة المضللة للإعلام خاصة فيما يتعلق بالحرب الدائرة ؟ , يا ترى هل سيصادفهما أحد رجال الآغا في أحد شوارع ديار بكر ؟ أم أن الحكومة ستجرهما من منزل عمه الشيخ وستودعهما في غياهب سجون ديار بكر السيئة الصيت ؟ إن مقتلهما في الشارع على يد رجال كاميران آغا اشرف لهما من ظلمات السجن وتعذيبه وإلصاق تهمة الإرهاب والقتل وقطع الطرق بهما , لا يوجد مكان آمن من البوليس والمخابرات في مدينة تسكنها غالبية كردية , وان لم يكن منهما فمن عيونهما وآذانهما المنتشرة في كل حدب وصوب . إذاً لا بد من المغادرة العاجلة قدر الإمكان , وليكن أسبوعا وليس شهرا كما وعد عمه . حاول إبعاد الهواجس عن مخيلته عندما أفاق عمه على نداء آذان الفجر الآتي من الجامع الكبير , وأغمض عينيه .
خلال ذلك الأسبوع قادهما سعيد إلى الاطلاع على معالم المدينة وأسواقها المكتظة وقلعتها الأثرية وجامعها الكبير وكنائسها شبه الخالية من البشر ومقاهيها التي تعج بالحياة , والجسور الرومانية التي لا تزال شاخصة منذ ألفي عام , ولم ينس سعيد نهر دجلة منبع الحياة وقبلة العشاق بضفافه الجميلة , والقرى والحقول المتناثرة على جانبيه على مد البصر , إلا أن ما لفت نظرهما هي الأحياء الشعبية ذات الكثافة السكانية في
أطراف المدينة , بيوت وخيام متواضعة لا تصلح إلا لتربية المواشي تتلاعب الجرادين بينها ويسيل من زواياها مياه سوداء كريهة الرائحة , شوارع من الطين تسير فيها وجوه كالحة يرتسم عليها البؤس والشقاء , سحنات شاحبة كأن أجسامها لا تحوي دماءً , نساء ورجال ينتعلون أحذية بلاستيكية تغوص في الوحل فتفترق عن الأقدام , أطفال صغار لا ترى البسمة سبيلا إلى شفاههم , عاري الأقدام يجلسون خلف صناديق صغيرة فيها علب سكائر يصرخون لجلب الزبائن , يسيل من أنوفهم المخاط فينظفونه بأكمام ستراتهم الممزقة .
ضحى اليوم السابع ودعا الشيخ , حاول شفان تقبيل يده فسحبها , أوصلهما سعيد إلى موقف باصات اسطنبول وكان قد حجز لهما التذاكر مسبقا باسمه واسم أخته وقبل المغادرة قال لهما :
_ إن اسطنبول مدينة كبيرة , تحتشد بالسكان من كافة الجنسيات والأعراق وفيها الكثير من ضعيفي النفوس ممن يمتهنون السرقة والنشل , عليكما أن تكونان يقظين , وعند وصولكما أذهبا إلى هذا الشارع - أخرج من جيبه ورقة وأعطاها لشفان – ففيه الكثير من الفنادق أصحابها وعمالها من الأكراد , وسوف يساعدونكما على المبيت وكيفية العبور إلى أوربا . هل تحتاجان إلى المال ؟ فرد شفان :
_ أشكرك جزيلا يا ابن عمي , فلدينا المال الكافي لإيصالنا إلى أوربا , لقد فعلتم من أجلنا الكثير أنت وعمي وكل أبناء عمومتنا الآخرين , أنا وبيريفان مدينان لكم .
_ لم نفعل أكثر من الواجب , كان بودنا أن تبقى لفترة أطول بيننا , لكن ظروفك حالت دون ذلك .
مد سعيد يده على جيبه وأخرج منها علبة صغيرة يستخدمها بائعو المجوهرات ودسها في جيب شفان قائلا :
_ هذه هدية أبي لكنتنا .
شعر شفان وبيريفان بالخجل لكنهما تقبلا الموقف فالهدية في العادة علامة المحبة ولا يمكن أن ترد , شكراه ثم
تعانق الرجلان ورسم كل منهما قبلة الوداع على وجه الآخر, وصافح سعيد بيريفان , وتمنى لهما سفرا سعيدا وطلب منهما أن يكونا على اتصال دائم , ثم صعد الزوجان إلى الباص بينما كان سعيد يلوح لهما بيده حتى انطلقت السيارة .
شقا طريقهما صباح اليوم التالي في اسطنبول وسط زحمة المسافرين القادمين والمغادرين من وإلى كل الولايات التركية والدول المجاورة , خرجا من كراج الباصات سيرا على الأقدام يستطلعان , بدت لهما الحياة مختلفة في هذه المدينة العملاقة , شوارع معبدة بإحكام ونظيفة , وأرصفة مبلطة , وأبنية ذات طراز معماري بديع , سيارات حديثة تجوب الشوارع لا يسمع زعيق مزاميرها , أناس تبدو عليهم علائم الثراء , أسواق فخمة فيها كل ما تشتهي الأنفس , شباب وبنات يرتدون ما يشاؤون من الموضة يتحادثون ويتمازحون بعفوية , حدائق مزركشة بالأزهار تفوح منها الروائح العطرة , سفن جميلة تشق عباب بحر إيجة , طائرات تحلق في السماء . إنها اسطنبول ! قبلة العشاق ومرتع الباحثين عن الجمال ومأوى المال والأعمال وضالة طالبي العلم , تملكت الدهشة الزوجين بما رأياها وشعرا أنهما سافرا من دولة إلى دولة أخرى .
كانت رائحة المطاعم تغزو الأنوف وتجذب أصحابها إلى تذوق الكباب والشاورما والدجاج والسمك المشوي على السيخ وعلى الفحم , إنه وقت الغداء فقد بلغت الساعة الثانية , دخلا إلى مطعم وطلبا كبابا , واحتسيا بعده شايا