اوجلان رغم مضي 10 اعوام على اختطافه
لايزال مقلقا ومربكا لتركيا
في صبيحة يوم 16|2|1999، استيقظت تركيا على مؤتمر صحفي، صرَّح فيه رئيس الوزراء التركي الأسبق، وزعيم حزب اليسار الديمقراطي، بلند أجويد، حرفيَّاً: "أزفُّ إليكم هذا الخبر؛ زعيم الإرهابيين، عبدالله أوجلان، هو بين أيدينا الآن". فبعد ضغوط حثيثة، وتلويح أنقرة بدنو إعلان الحرب على دمشق،
إنْ هي بقيت تأوي أوجلان ودخول مصر على خطّ الأزمة، أبرمت سورية اتفاقيَّة أضنة الأمنيَّة مع تركيا، والتي بموجبها، خرج أوجلان من دمشق.
والآن، وبعد مضي عشرة أعوام، وحيداً بين أربعة جدران، في جزيرة نائية معزولة، في عرض بحر مرمرة، يحرسها حوالي ألفي جندي تركي، يقضي أحد أبرز القادة الأكراد في القرن العشرين، سجيناً لدى السلطات التركيَّة. ولا زال هذا الرجل محافظاً على دوره الحيوي في إدارة الملفّ الكردي في تركيا، ملقياً بظلاله على الحراك الكردي، عبر تفعيل الامتدادات السياسيَّة، والاستقطابات الجماهيريَّة الواسعة النطاق لحزبه في العراق وإيران وسورية وأوروبا، سعياً وراء حصول الأكراد في البلدان التي تقتسم الخارطة الجغرافيَّة والبشريَّة الكرديَّة، على حقوقهم القوميَّة والثقافيَّة والسياسيَّة، تحت السقف الوطني لهذه البلدان. دون المسّ بحدودها.
من هو أوجلان؟
ولد عبدالله أوجلان في 4/4/ 1948 في قرية عمرلي بمنطقة أورفا، جنوب شرق تركيا، من أسرة فقيرة لديها سبعة أطفال، ما اضطرَّه للعمل الشاق منذ نعومة أظفاره، في حقول القطن وأعمال الحصاد، إلى جانب دراسته. ثم عمل موظفاً في دائرة المصالح العقارية في مدينة ديار بكر بين 1960 إلى 1970.
التحق بكليَّة الحقوق في جامعة إسطنبول، لكنه تحوَّل لدراسة العلوم السياسيَّة في جامعة أنقرة. اعتقل في 7/4/1973، بسبب نشاطه السياسي، ليقضي سجيناً سبعة أشهر في سجن "ماماك". مرحلة السجن هذه، دفعته للاحتكاك بحركات اليسار التركي الناشطة آنئذ، وانخرط في نشاط بعض منها، إلا أنه لمس فيها نزوعاً قوميَّاً تركيَّاً، في تجنُّبها للخوض في الملفّ الكردي، بداعي الأمميَّة، فانكفأ عنها، وبدأت تتبلور لديه أفكار جديدة، لجهة تشكيل تنظيم سياسي كردي يساري. وحال إطلاق سراحه، سكن مع حقي قارار وكمال بير، (وهما من أصول تركيَّة) وشرعوا بتأسيس الخليَّة الأيديولوجيَّة لحزبه، والتي ضمت خمسة أشخاص. يقول أوجلان عن هذه الخليَّة بأنها عقدت أول اجتماع لها حول عبارة: "كردستان هي مستعمرة"، وينبغي تحريرها. تزوج أوجلان من كسيرة علي يلدريم (من العلويين الأكراد) في 24/5/1978، ودفع بزوجته للانخراط في صفوف الحزب، وحتى ضمن النشاط المسلح. لكن زواجه منها انتهى بالطلاق سنة 1986، بعد أن لمس من "فاطمة" (اسمها الحركي)، استثماراً لسلطته كزعيم للحزب، ومحاولتها لفرض آرائها على رفاقه.
المواجهة مع الأتاوركيَّة
بعد تأسيسه لحزبه 27/11/1978، وإعلانه الكفاح المسلَّح ضد السلطات التركيَّة يوم 15/8/1984، والذي جوبه ببيان استنكار وتنديد شديد، وقع عليه معشر مع الأحزاب الكرديَّة والعربيَّة والتركَّية، والقوميَّة منها واليساريَّة، (أحزاب شيوعيَّة عراقيَّة وسوريَّة...) واصفين تلك الخطوة، بنفس الأوصاف التي يطلقونها الآن على مقاومته المسلحة، وعدم تركه للسلاح، دون ضمانات دستوريَّة، كـ"التصرف الطفولي اليساري، الغوغائي، التدميري، التهوري، المغامراتي، الطائش..."، واعتبروا العمال الكردستاني وقتها: "أداة في يد الإمبرياليَّة والصهيونيَّة!". رغم ذاك، استطاع أوجلان، وخلال فترة قصيرة نسبياً، إجراء تحوّل نوعي في بنية المجتمع الكردي في تركيا، من شأنه إعادة الشعور القومي لأكراد تركيا، وزجَّهم في حرب ضروس، مازالت مستمرَّة، بعد قطيعة شبه كاملة لأكراد تركيا عن الحراك القومي، لفترة دامت قُرابة نصف قرن، ابتداءاً من سحق الأتراك لآخر انتفاضة مسلحة للأكراد سنة 1938 ولغاية إعلان حزب أوجلان الكفاح المسلَّح. ومعلوم أن تلك القطيعة كانت نتيجة حملات القمع والصهر القومي الرهيبة التي مارسها النظام الأتاتوركي على الأكراد. والجدير ذكره هنا، إن الأتراك حين سحقوا انتفاضة جبل آغري سنة 1930، حفروا قبراً رمزيَّاً في قمَّة الجبل، كتبوا على شاهدته: "هنا دفنا كردستان"، وبعد إعلان حزب العمال الكفاح المسلح، وصول مقاتلوه لذلك القبر الرمزي، وقاموا بنسفه، معلنين أنه "من هنا تبدأ كردستان".
منذ نهاية الثمانينات ومطلع التسعينات، بدأ نجم أوجلان يسطع في الساح الكرديَّة كزعيم كردي ثوري تحرري، لم يستطع استقطاب ملايين من الأكراد الموزَّعين في تركيا وسورية والعراق وإيران وأوروبا للحراك السياسي والعسكري الذي تزعَّمه حزبه وحسب، وبل نجح في جذب مواطنين أتراك وعرب وفرس وأرمن وسريان وألمان وروس، ومن قوميات أخرى للقتال في صفوف حزبه، دفاعاً عن القضيَّة الكرديَّة. ورغم أن حركة أوجلان كانت يساريَّة، ورغم وجود تركيا في الحلف الغربي المعادي للاتحاد السوفياتي السابق، إلا أن الأخير وملاحقه الشرق أوسطيَّة، وخلافاً لعادتهم وعقيدتهم، لم يقدم أيَّ دعم مادي أو معنوي لها، في وقت كان الأمريكيون ولا زالوا يعادونها، ويؤمِّنون لتركيا الدعم العسكري والاستخباري والمظلَّة السياسيَّة لحربها على الأكراد.
انعطافات
في بداياته، كان أوجلان رجلاً متديناً، ملتزماً، تأثرَّ بأفكار بديع الزمان النورسي (الكردي الأصل)، لكن، مرحلة الاعتقال الأولى والدراسة الجامعيَّة، جعلته يتحوَّل نحو اليسار، وتبنِّي الأفكار الماركسيَّة. ونتيجة الكاريزما القويَّة التي كان يتمتَّع بها، استطاع أن يقدم نموذجاً جديداً للقائد الكردي، تجاوز النماذج التقليديَّة للقيادات الكرديَّة في كردستان العراق، من حيث الفاعليَّة وقوَّة التأثير وحجم الاستقطاب الجماهيري الذي تجاوز أكراد تركيا، ووصلت لمناطق نفوذ تلك القيادات، ما خلق نوعاً من التشاحن بينها وبين أوجلان، وصلت في بعض الأحيان إلى الاقتتال الكردي _ الكردي. وعليه، لم يستند أوجلان في حراكه، على أيَّة خلفيَّة عشائريَّة قبليَّة، أو دينيَّة أو مذهبيَّة أو طريقاتيَّة (نقشبنديَّة، قادريَّة) أو عائليَّة...، كما كان ومازال سائداً في كردستان العراق وفي تركيا، بل اعتمد على جهده الشخصي، في خضم العداء التركي والأمريكي، والتجاهل الروسي والأوروبي، والممانعة المبطّنَة حيناً والمعلنة أحياناً من القيادات الكرديَّة التقليديَّة له. واستطاع أن يحرك الملفّ الكردي في تركيا، وأن يكون رقماً صعباً ومؤثراً ليس كردياً وحسب، وبل إقليميَّاً أيضاً، ما أسهم في ازدياد حجم النقمة الإقليميَّة والدوليَّة عليه، لأنه بات يشكل تهديداً حقيقيَّاً لمصالح الدول الكبرى في المنطقة. واتسمت تجربته بالانزياح والانعطاف الفكري والسياسي. فبدأ متديَّناً، وانتهى يساريَّاً، لدرجة الستالينيَّة. وحين كان شعار "كردستان حرة مستقلة" مستهجناً وضرباً من الوهم والخرافة والمجازفة...، بين الأكراد، تبنَّى أوجلان هذا الشعار، ونظرَّ له، وقاتل في سبيله. وحين أصبح النزوع القومي الكردي في أوجه، اتَّجه أوجلان لتبنِّي الدولة الوطنيَّة الديموقراطيَّة، وضرورة حلّ القضيَّة الكرديَّة في إطار البلدان التي يتوزَّع عليها الأكراد، بشكل سلمي ديموقراطي. كان أوجلان من أشد الناقمين والمنتقدين للأتاتوركيَّة، لكنه لمس فيها، فيما بعد، بعض الثغرات التي يمكن من خلالها دحض الأتاتوركيين بمبادئ الأتاتوركيَّة، سعياً لإيجاد مخرج للقضيَّة الكرديَّة سلميَّاً. وحين لمس أن حزبه بدأ يعاني من التخمة اليساريَّة _ القوميَّة، سعى حثيثاً ليحوَّله إلى نموذج مصغَّر للدولة التي يحلم بها. وأدخل حزبه ضمن عمليات تحوَّل عديدة، فتغيَّر العمال الكردستاني PKK، إلى مؤتمر الديمقراطيَّة والحريَّة الكردستاني KADEK، ثم إلى مؤتمر الشعب الكردستاني Kongra Gel، ثم إلى الكونفدراليَّة الديموقراطيَّة الكردستانيَّة KKK، وحالياً، منطومة المجتمع الكردستاني KCK. ومجمل هذه التحولات، كان الهدف منها، إبعاد الحركة عن اليساريَّة الفجَّة والدوغمائيَّة، وإكساب الحركة المزيد من المرونة، والتقليل من تأثير الذهنية الدولتيَّة عليها، فتحوَّلت حركة أوجلان إلى شبكة واسعة النطاق، وفي غاية التعقيد من الأحزاب والهيئات والمؤسَّسات واللجان المدنيَّة والأهليَّة، المنضوية في حراك سياسي، ليس في تركيا وحسب، وبل في سورية والعراق وإيران ولبنان والخليج وليبيا وروسيا وجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، وأوروبا وحتى أمريكا. يرى أوجلان أن حلَّ القضايا الشرق أوسطيَّة، ومنها الكرديَّة، لن يكون إلا بإتباع النظام الكونفدرالي الديموقراطي بين شعوب المنطقة، ويمكن تلخيص أطروحته في التالي: "قليل من الدولة وكثير من المجتمع". والحقُّ أن أوجلان ظلم مرتين، الأولى: حين اعتبره خصومه والمنشقين عليه وأعدائه من الأكراد وغيرهم، بأنه "شيطان رجيم"، ينبغي نبذه ولفظه، وتناسيه، وتركه يواجه مصريه في سجنه". والثانيَّة: حين أعتبره مناصره أنه "لا ينطق عن الهوى"، وأضفوا حوله هالة من القداسة، كثيراً ما كان يرفضها أوجلان نفسه.
من الزعامة إلى السجن
بعد فشل تركيا بترسانتها العسكريَّة والدعم الأطلسي لها، في تصفية حركة أوجلان عسكريَّاً، تدخَّلت تلك الدول بشكل مباشر، وضغطت على سورية لإجبارها على "طرده"، وعقد صفقة ما تركيا، فيما عُرف بـ"اتفاقيَّة أضنا" الأمنيَّة، فخرج أوجلان من دمشق في 9/10/1998، متجهاً لروسيا، وبعد أن وجَّه مجلس الدوما الروسي دعوى له، لكن الضغوط التركيَّة _ الأمريكيَّة على روسيا حالت دون منحه حق اللجوء السياسي، فاتجه لليونان، بعد أرسل البرلمان اليوناني دعوى له، لكن اليونان رضخت هي أيضاً للضغوط الأمريكيَّة، فاتجه إلى روما التي كان يحكمها وقتئذ تحالف غصن الزيتون "اليساري" برئاسة ماسيمو دلاليما، لكن التهديدات التركيَّة، والضغوط الأمريكيَّة حالت دون منحه اللجوء السياسي هناك، فعاد لليونان التي أرسلته للإقامة في منزل سفيرها في نيروبي، ريثما تهيئ له مكاناً في هولندا، حسبما وعدته. وانتهت فصول المؤامرة على أوجلان باختطافه من نيروبي إلى تل أبيب، من ثم إلى أنقرة في 15/2/1999.
خلق اعتقال أوجلان فورة جماهيريَّة كرديَّة عارمة في العالم، وغصَّة حارقة، لا زالت تعتمل الحلق الكردي، ما دفع أكثر من 40 رجل وامرأة كردية أن يقضوا، بعد أن أضرموا النار بأنفسهم احتجاجاً وتنديداً على المؤامرة الدوليَّة التي استهدفت قائدهم. وحجم التأييد الهائل الذي حظي به أوجلان غداة اعتقاله، بدأ يتراجع، عقب محاكمته، و"الانقلاب الفكري والسياسي" الذي أحدثته طروحاته الجديدة، والفروق الكبيرة بينها، قبل وبعد اعتقاله، إلى درجة أنه اتهمه بعض الأكراد بـ"الخيانة وتصفية القضيَّة الكرديَّة" في تركيا، واعتبروا أفكاره الجديدة "استسلاميَّة"، الهدف من وراءها إنقاذ عنقه من حبل المشنقة، علماً أن تنفيذ حكم الإعدام في تركيا مجمَّد منذ منتصف الثمانينات.
من السجن إلى الزعامة
حملة الاعتراض الشديدة على طروحاته الجديدة من بعض القوميين واليساريين الأكراد، والتي تخلَّى فيها عن الدولة القوميَّة، واتجه للدولة الوطنيَّة الديموقراطيَّة، لم تجعل أوجلان يحيد عن أفكاره. ومثلما نجح في استنهاض الاكراد وتعبئتهم قوميَّاً، إلى درجة "التطرف"، قبل اعتقاله، وتزعم تلك المرحلة كـ"قائد قومي"، استطاع من معتقله، أن يؤسِّس لأفكاره الجديدة في الديموقراطية والتعايش السلمي بين الشعوب، وخلق حراك جماهيري، (قد لا يوازي حراكه السابق)، إلا أنه مؤمن بهذه الأفكار والطروحات، ويسعى لتحقيقها. وعليه، بقي أوجلان محافظاً على دوره كقائد أيديولوجي وسياسي، يدير الملف الكردي، وكلاعب فاعل ومؤثر في قواعد اللعبة السياسيَّة التركيَّة والإقليميَّة، حتى وهو في سجنه الانفرادي.
فرادة أوجلان
الكثير من التحليلات والدراسات السياسيَّة الكرديَّة تؤكِّد أن أحد أهم أسباب فشل الثورات الكرديَّة، هو افتقارها للقيادة الحكيمة، ودورها في تحويل النضالات والتضحيات التي يتميز بها الشعب الكردي إلى منجزات سياسيَّة. وربما، لا يمكننا الحديث حالياً عن منجزات سياسيَّة كبيرة لأوجلان، رغم كل التعديلات والتغييرات التي أجراها على حزبه، ورغم حجم التنازلات السياسيَّة التي قدمها للسلطات التركية، وعدم اكتراث الأخيرة بنداءاته السلميَّة المتكررة، إلا أن الميزة الأبرز له، تكمن في أنه لم يلق السلاح، وينهِ ثورته، بمجرد اعتقاله، خلافاً لما فعله القائد التاريخي للأكراد الملا مصطفى بارزاني، حين أعلن فشل الثورة الكرديَّة، لمجرد أن شاه إيران قطع الامدادات عنها، نتيجة "اتفاقية الجزائر" بينه وبين النظام العراقي السابق سنة 1975، علماً أن بارزاني كان يمتلك وقتها، أكثر من 100 ألف مقاتل مسلحين بأسلحة خفيفة وثقيلة.
المراجعات النقديَّة
إن النزوع القومي لحركة أوجلان، والماركسيَّة التي كان يعتمدها، و"العنف الثوري" الذي مارسته، وظروف الحرب التي مرَّت بها حركته، أدت إلى بروز "الستالينية" في الطباع والسلوك والفكر الأوجلاني، قبل الاعتقال. لكن، طرأ تغيير نوعي عليه، عقب الاعتقال، فأصبح منحازاً للدولة الوطنيَّة والأفكار الديموقرطيَّة، ويرجِّح الحلول السلميَّة للقضيَّة الكرديَّة، على الحلول العنفيَّة، عموماً، وفي تركيا خصوصاً، محاولاً إخراج حزبه من الطابع والتأثير العسكري الذي تميَّز به، عبر دفعه نحو التحوّل المدني، بشكل تدريجي. وذلك، بجعل النضال السياسي الديموقراطي السلمي خياراً استراتيجياً لحركته، دون إلقاء السلاح بشكل مجَّاني، وبلا ضمانات، وحصر استخدامه في عملية "الدفاع المشروع" عن النفس. وقد خطى في هذا الاتجاه خطوات هامَّة، عبر أدلجة هذا السلوك النضالي لحركته، وكتب في معتقله مؤلَّفين هامَّين، يعتبران بمثابة المرجعية الأيديولوجية الجديدة للعمال الكردستاني، وهما: "من جمهوريَّة الرهبان السومريَّة، نحو الحضارة الديموقراطيَّة" سنة 2001، (636 صفحة من القطع الكبير، قدَّمه كمرافعة لمحكمة حقوق الإنسان الأوروبيَّة، التي حكمت في 12/5/2005 بانتفاء شروط العدالة في المحاكمة التي أجريت له في تركيا، وضرورة إعادة محاكمته)، و"دفاعاً عن شعب"، ( 460 صفحة من القطع الكبير، شباط 2005، ترجمة للعربيَّة زاخو شيار). وهذان الكتابان الضخمان، هما عبارة عن مراجعة تحليليَّة سياسيَّة وفكريَّة نقديَّة لتاريخ المنطقة عموماً والأكراد وتجربة حزب العمال خصوصاً. حيث يقوم أوجلان بتوجيه انتقادات لاذعة لنفسه ولحزبه، وللأنساق والتجارب السياسيَّة في المنطقة، معيداً النظر في الكثير من المفاهيم كـ"الثورة، السلطة، الدولة، الحرب، الحرية، الديموقراطيَّة...". ويرى أوجلان أن حلّ القضايا القوميَّة في منطقة الشرق الأوسط، لن يتمَّ وفق الأشكال التقليديَّة للدولة القوميَّة، ويعتبر أن الكونفدراليَّة الديمقراطيَّة بين شعوب المنطقة، سيجنِّبها ويلات الحروب القوميَّة والمذهبيَّة والطائفيَّة. ويحصر إمكانيَّة تحقق الديمقراطيَّة في الشرق الأوسط على الحوامل الثلاث "النهضة والتنوير والإصلاح".
أوجلان ثقافيَّاً
في بداياته، كانت كتابات وتحليلات أوجلان لا تخرج التنظير للمقاومة والثورة والكفاح المسلح والنضال والتحرر الوطني، وفق الصيغ اليساريَّة المتعارفة عليها. وأثارت أولى كتاباته المترجمة للعربيَّة "دور العنف في كردستان"، و"مسألة الشخصيَّة في كردستان"، و"قضية التحرر الوطني الكردستاني _ طريق الحل"، ترحيباً واسعاً بين أوساط الشباب الكردي في سورية ولبنان، وقتها. وانتقد أوجلان النظام الاشتراكي في الاتحاد السوفياتي السابق، وتنبأ بانهياره في كرَّاس صغير، ترجم للعربيَّة سنة 1988 تحت عنوان: "الاشتراكيَّة المشيَّدة"، أثارت عليه ردود أفعال غاضبة من الأحزاب الشيوعيَّة واليساريَّة الكرديَّة والتركيَّة والعربيَّة وقتئذ. إذ كيف يمكن التكهُّن بانهيار الإمبراطوريَّة الحمراء، من قبل حزب صغير، يزعم اليساريَّة وقتها!؟. فاتهموه الكثير بـ"الهرطقة" و"الجنون". ومنذ منتصف التسعينات، بدأت كتابات أوجلان تتَّجه نحو المنحى الاجتماعي، وتنفتح على الديموقراطيَّة الاشتراكيَّة، فكتب: "المرأة والعائلة" و"كيف نعيش، 3 أجزاء"، و"حقيقة الثورة بين النظريَّة والتطبيق"، فضلاً عن العشرات من الكتب التي لم يتم ترجمها، ومئات من الحوارات الصحفيَّة التي تحولت إلى كتب. ما يعني، أنه أغزر الرموز والقادة الكرد الذين تركوا إرثاً فكريَّاً وثقافيَّاً، ساهم في تحريك المياه الفكريَّة الكرديَّة الراكدة. وتالياً، كان ولا زال أوجلان، شخصيَّة إشكاليَّة، تثير الأسئلة، أكثر مما تطرح أجوبة، حتى على الصعيد الثقافي.
أوجلان والمساعي السلميَّة
لماذا اختار أوجلان الاتجاه إلى أوروبا، ولم يتَّجه إلى جبال كردستان، أثناء خروجه من دمشق سنة 1998؟ هل فعلاً لأنه كان يخشى على حياته؟، مثلما أتهمه الكثير من الأكراد؟ سؤالٌ، لا زال يشغل ويربك الوعي السياسي والثقافي الكردي. يرى البعض، إنه في حال ذهابه إلى الجبال، كان سيصبح "نقمة" على رفاقه، الذين ستزداد الهجمات التركيَّة عليهم، لإبادتهم، وتطوى صفحة أخرى من النضال الكردي، وتنتهي معضلة العمال الكردستاني وأوجلان في تلك الجبال النائية، تحت سمع وبصر العالم، ولا أحد يحرِّك ساكناً، كعادة الانتفاضات الكرديَّة السابقة. أمَّا القضيَّة الكرديَّة في تركيا، فتؤجَّل لانتفاضة أخرى، قد تندلع بعد نصف قرن آخر، ربما يمكنها إقناع الأتراك بضرورة حلّ هذه القضيَّة. وعليه، لن يجني الأكراد، إلا خيبة جديدة، ويصبح أوجلان ورفاقه أبطال بعض الأغاني الشعبيَّة التي تتغنَّى بالتراجيديا الكرديَّة وانتكاساتها المتواصلة. لكنه، اختار أوروبا، كي يضعها أمام مسؤولياتها ومبادئها ودورها في مآسي الأكراد، ودفع كرة النَّار الكرديَّة إلى قلب أوروبا، كي تساهم الأخيرة في إخماد منشأها التركي، الذي كانت ولا زالت تدعمه. فساهم أوجلان بسلكه طريق أوروبا، في تدويل القضيَّة الكرديَّة، وعرَّى الكثير من جوانب الشراكة الأوربيَّة _ التركيَّة في معاناة الأكراد، بقاء القضيَّة الكرديَّة دون حلّ، ابتداءاً من معاهدة لوزان سنة 1923، وليومنا هذا. وبذا، أبقى أوجلان على جذوة القضيَّة الكرديَّة متقدة، وجعل قضيَّة شعبه شأناً أوروبيَّاً، لا مناص من حلِّها سليمَّاً.
الحقُّ أن أولى خطوات أوجلان نحو إيجاد مخارج سلميَّة للقضيَّة الكرديَّة في تركيا بدأت منذ مطلع التسعينات، حين لبَّ طلب الرئيس التركي الراحل تورغوت أوزال، وأعلن عن وقف إطلاق النار من جانب واحد في آذار 1993، عبر وساطة الرئيس العراقي الحالي جلال طالباني. توفيَّ أوزال بشكل مفاجئ وغامض، ولم تستجب تركيا لتلك الخطوة. وسنة 1997، على عهد حكومة نجم الدين أربكان الإسلاميَّة، أعلن أوجلان عن وقف إطلاق نار ثاني من جانب واحد، بعد رسالة وجهها أربكان له، عبر الحركة الإسلاميَّة اللبنانيَّة. لكن حدث انقلاب أبيض على أربكان، وحظر حزبه، وأبعد عن الحياة السياسيَّة. وسنة 1999، طلب أوجلان من حزبه أن يعلن وقفاً لإطلاق نار جديد من جانب واحد، فاستجاب الحزب، وطلب أوجلان سحب القوات الكرديَّة خارج الحدود التركيَّة، فاستجاب الحزب، وطلب أيضاً إرسال مجموعتين من المقاتلين وكوادر الحزب للاستسلام للسلطات التركيَّة، واحدة من الجبال والثانيَّة من أوروبا، فوافق الحزب. لكن تركيا لم تستجب لأيٍّ من نداءاته، وزجَّ بالمجموعتين الآنفتي الذكر في السجون، وعاد الكردستاني في 2004 للقتال. ثم طالب مرَّة أخرى حزبه بوقف إطلاق النار في 1/10/2006، فوافق الحزب، لكن تركيا ردَّت بالمزيد من حملات التمشيط العسكريَّة، وتطبيق العزلة والتجريد على أوجلان، بتهمة توجيه الأوامر لحزبه من السجن، ومنعت أهله ومحاميه من زيارته لأشهر. وكشف محاموه عن تعرضيه لحملة تسميم ممنهجة، بغية تصفيته بشكل بطيء. وبعد مظاهرات واعتصامات عديدة، اضطرت منظمة مناهضة التعذيب الأوروبيَّة إلى زيارته في سجنه للكشف عن حقيقة وضعه الصحي. وبعد أكثر من 5 أشهر، ورغم كل المناشدات والمظاهرات والاعتصامات الكرديَّة في استراسبورغ، والمنظمة الأوروبيَّة لمناهضة التعذيب، تكتِّمت على فحوى الفحوصات الطبيَّة التي أجريتها له. ثم ذكرت؛ أن نسبة السموم في دم أوجلان عالية، إلا أنها لا تشكل خطر على حياته، دون أن تكشف عن طرق ووسائل وصول السموم إلى دمه!.
مآل القول: إن اعتقال أوجلان، لم يسعف تركيا في تصفية الحركة والقضيَّة الكرديتين، بل وضعها في ورطة ومأزق حرج، فلا هي قادرة على إعدام أوجلان مباشرةً، ولا تستطيع لجم دوره كزعيم لحراك نضالي سياسي وعسكري ومدني يتعاظم، حتى وهو سجين. وبدلاً من أن يسهم اعتقاله في تصفية القضيَّة، تحوَّل أوجلان إلى أهم محاورها وأجزائها، وبات بمثابة "مانديلا الأكراد"، والسجين السياسي الكردي رقم واحد، ليس في تركيا وحسب، وبل في أوروبا، وبدأت شخصيته كمُفكِّر تتبلور وتظهر للعيان.
بيروت_ - هوشنك أوسي


في صبيحة يوم 16|2|1999، استيقظت تركيا على مؤتمر صحفي، صرَّح فيه رئيس الوزراء التركي الأسبق، وزعيم حزب اليسار الديمقراطي، بلند أجويد، حرفيَّاً: "أزفُّ إليكم هذا الخبر؛ زعيم الإرهابيين، عبدالله أوجلان، هو بين أيدينا الآن". فبعد ضغوط حثيثة، وتلويح أنقرة بدنو إعلان الحرب على دمشق،
إنْ هي بقيت تأوي أوجلان ودخول مصر على خطّ الأزمة، أبرمت سورية اتفاقيَّة أضنة الأمنيَّة مع تركيا، والتي بموجبها، خرج أوجلان من دمشق.
والآن، وبعد مضي عشرة أعوام، وحيداً بين أربعة جدران، في جزيرة نائية معزولة، في عرض بحر مرمرة، يحرسها حوالي ألفي جندي تركي، يقضي أحد أبرز القادة الأكراد في القرن العشرين، سجيناً لدى السلطات التركيَّة. ولا زال هذا الرجل محافظاً على دوره الحيوي في إدارة الملفّ الكردي في تركيا، ملقياً بظلاله على الحراك الكردي، عبر تفعيل الامتدادات السياسيَّة، والاستقطابات الجماهيريَّة الواسعة النطاق لحزبه في العراق وإيران وسورية وأوروبا، سعياً وراء حصول الأكراد في البلدان التي تقتسم الخارطة الجغرافيَّة والبشريَّة الكرديَّة، على حقوقهم القوميَّة والثقافيَّة والسياسيَّة، تحت السقف الوطني لهذه البلدان. دون المسّ بحدودها.
من هو أوجلان؟
ولد عبدالله أوجلان في 4/4/ 1948 في قرية عمرلي بمنطقة أورفا، جنوب شرق تركيا، من أسرة فقيرة لديها سبعة أطفال، ما اضطرَّه للعمل الشاق منذ نعومة أظفاره، في حقول القطن وأعمال الحصاد، إلى جانب دراسته. ثم عمل موظفاً في دائرة المصالح العقارية في مدينة ديار بكر بين 1960 إلى 1970.
التحق بكليَّة الحقوق في جامعة إسطنبول، لكنه تحوَّل لدراسة العلوم السياسيَّة في جامعة أنقرة. اعتقل في 7/4/1973، بسبب نشاطه السياسي، ليقضي سجيناً سبعة أشهر في سجن "ماماك". مرحلة السجن هذه، دفعته للاحتكاك بحركات اليسار التركي الناشطة آنئذ، وانخرط في نشاط بعض منها، إلا أنه لمس فيها نزوعاً قوميَّاً تركيَّاً، في تجنُّبها للخوض في الملفّ الكردي، بداعي الأمميَّة، فانكفأ عنها، وبدأت تتبلور لديه أفكار جديدة، لجهة تشكيل تنظيم سياسي كردي يساري. وحال إطلاق سراحه، سكن مع حقي قارار وكمال بير، (وهما من أصول تركيَّة) وشرعوا بتأسيس الخليَّة الأيديولوجيَّة لحزبه، والتي ضمت خمسة أشخاص. يقول أوجلان عن هذه الخليَّة بأنها عقدت أول اجتماع لها حول عبارة: "كردستان هي مستعمرة"، وينبغي تحريرها. تزوج أوجلان من كسيرة علي يلدريم (من العلويين الأكراد) في 24/5/1978، ودفع بزوجته للانخراط في صفوف الحزب، وحتى ضمن النشاط المسلح. لكن زواجه منها انتهى بالطلاق سنة 1986، بعد أن لمس من "فاطمة" (اسمها الحركي)، استثماراً لسلطته كزعيم للحزب، ومحاولتها لفرض آرائها على رفاقه.
المواجهة مع الأتاوركيَّة
بعد تأسيسه لحزبه 27/11/1978، وإعلانه الكفاح المسلَّح ضد السلطات التركيَّة يوم 15/8/1984، والذي جوبه ببيان استنكار وتنديد شديد، وقع عليه معشر مع الأحزاب الكرديَّة والعربيَّة والتركَّية، والقوميَّة منها واليساريَّة، (أحزاب شيوعيَّة عراقيَّة وسوريَّة...) واصفين تلك الخطوة، بنفس الأوصاف التي يطلقونها الآن على مقاومته المسلحة، وعدم تركه للسلاح، دون ضمانات دستوريَّة، كـ"التصرف الطفولي اليساري، الغوغائي، التدميري، التهوري، المغامراتي، الطائش..."، واعتبروا العمال الكردستاني وقتها: "أداة في يد الإمبرياليَّة والصهيونيَّة!". رغم ذاك، استطاع أوجلان، وخلال فترة قصيرة نسبياً، إجراء تحوّل نوعي في بنية المجتمع الكردي في تركيا، من شأنه إعادة الشعور القومي لأكراد تركيا، وزجَّهم في حرب ضروس، مازالت مستمرَّة، بعد قطيعة شبه كاملة لأكراد تركيا عن الحراك القومي، لفترة دامت قُرابة نصف قرن، ابتداءاً من سحق الأتراك لآخر انتفاضة مسلحة للأكراد سنة 1938 ولغاية إعلان حزب أوجلان الكفاح المسلَّح. ومعلوم أن تلك القطيعة كانت نتيجة حملات القمع والصهر القومي الرهيبة التي مارسها النظام الأتاتوركي على الأكراد. والجدير ذكره هنا، إن الأتراك حين سحقوا انتفاضة جبل آغري سنة 1930، حفروا قبراً رمزيَّاً في قمَّة الجبل، كتبوا على شاهدته: "هنا دفنا كردستان"، وبعد إعلان حزب العمال الكفاح المسلح، وصول مقاتلوه لذلك القبر الرمزي، وقاموا بنسفه، معلنين أنه "من هنا تبدأ كردستان".
منذ نهاية الثمانينات ومطلع التسعينات، بدأ نجم أوجلان يسطع في الساح الكرديَّة كزعيم كردي ثوري تحرري، لم يستطع استقطاب ملايين من الأكراد الموزَّعين في تركيا وسورية والعراق وإيران وأوروبا للحراك السياسي والعسكري الذي تزعَّمه حزبه وحسب، وبل نجح في جذب مواطنين أتراك وعرب وفرس وأرمن وسريان وألمان وروس، ومن قوميات أخرى للقتال في صفوف حزبه، دفاعاً عن القضيَّة الكرديَّة. ورغم أن حركة أوجلان كانت يساريَّة، ورغم وجود تركيا في الحلف الغربي المعادي للاتحاد السوفياتي السابق، إلا أن الأخير وملاحقه الشرق أوسطيَّة، وخلافاً لعادتهم وعقيدتهم، لم يقدم أيَّ دعم مادي أو معنوي لها، في وقت كان الأمريكيون ولا زالوا يعادونها، ويؤمِّنون لتركيا الدعم العسكري والاستخباري والمظلَّة السياسيَّة لحربها على الأكراد.
انعطافات
في بداياته، كان أوجلان رجلاً متديناً، ملتزماً، تأثرَّ بأفكار بديع الزمان النورسي (الكردي الأصل)، لكن، مرحلة الاعتقال الأولى والدراسة الجامعيَّة، جعلته يتحوَّل نحو اليسار، وتبنِّي الأفكار الماركسيَّة. ونتيجة الكاريزما القويَّة التي كان يتمتَّع بها، استطاع أن يقدم نموذجاً جديداً للقائد الكردي، تجاوز النماذج التقليديَّة للقيادات الكرديَّة في كردستان العراق، من حيث الفاعليَّة وقوَّة التأثير وحجم الاستقطاب الجماهيري الذي تجاوز أكراد تركيا، ووصلت لمناطق نفوذ تلك القيادات، ما خلق نوعاً من التشاحن بينها وبين أوجلان، وصلت في بعض الأحيان إلى الاقتتال الكردي _ الكردي. وعليه، لم يستند أوجلان في حراكه، على أيَّة خلفيَّة عشائريَّة قبليَّة، أو دينيَّة أو مذهبيَّة أو طريقاتيَّة (نقشبنديَّة، قادريَّة) أو عائليَّة...، كما كان ومازال سائداً في كردستان العراق وفي تركيا، بل اعتمد على جهده الشخصي، في خضم العداء التركي والأمريكي، والتجاهل الروسي والأوروبي، والممانعة المبطّنَة حيناً والمعلنة أحياناً من القيادات الكرديَّة التقليديَّة له. واستطاع أن يحرك الملفّ الكردي في تركيا، وأن يكون رقماً صعباً ومؤثراً ليس كردياً وحسب، وبل إقليميَّاً أيضاً، ما أسهم في ازدياد حجم النقمة الإقليميَّة والدوليَّة عليه، لأنه بات يشكل تهديداً حقيقيَّاً لمصالح الدول الكبرى في المنطقة. واتسمت تجربته بالانزياح والانعطاف الفكري والسياسي. فبدأ متديَّناً، وانتهى يساريَّاً، لدرجة الستالينيَّة. وحين كان شعار "كردستان حرة مستقلة" مستهجناً وضرباً من الوهم والخرافة والمجازفة...، بين الأكراد، تبنَّى أوجلان هذا الشعار، ونظرَّ له، وقاتل في سبيله. وحين أصبح النزوع القومي الكردي في أوجه، اتَّجه أوجلان لتبنِّي الدولة الوطنيَّة الديموقراطيَّة، وضرورة حلّ القضيَّة الكرديَّة في إطار البلدان التي يتوزَّع عليها الأكراد، بشكل سلمي ديموقراطي. كان أوجلان من أشد الناقمين والمنتقدين للأتاتوركيَّة، لكنه لمس فيها، فيما بعد، بعض الثغرات التي يمكن من خلالها دحض الأتاتوركيين بمبادئ الأتاتوركيَّة، سعياً لإيجاد مخرج للقضيَّة الكرديَّة سلميَّاً. وحين لمس أن حزبه بدأ يعاني من التخمة اليساريَّة _ القوميَّة، سعى حثيثاً ليحوَّله إلى نموذج مصغَّر للدولة التي يحلم بها. وأدخل حزبه ضمن عمليات تحوَّل عديدة، فتغيَّر العمال الكردستاني PKK، إلى مؤتمر الديمقراطيَّة والحريَّة الكردستاني KADEK، ثم إلى مؤتمر الشعب الكردستاني Kongra Gel، ثم إلى الكونفدراليَّة الديموقراطيَّة الكردستانيَّة KKK، وحالياً، منطومة المجتمع الكردستاني KCK. ومجمل هذه التحولات، كان الهدف منها، إبعاد الحركة عن اليساريَّة الفجَّة والدوغمائيَّة، وإكساب الحركة المزيد من المرونة، والتقليل من تأثير الذهنية الدولتيَّة عليها، فتحوَّلت حركة أوجلان إلى شبكة واسعة النطاق، وفي غاية التعقيد من الأحزاب والهيئات والمؤسَّسات واللجان المدنيَّة والأهليَّة، المنضوية في حراك سياسي، ليس في تركيا وحسب، وبل في سورية والعراق وإيران ولبنان والخليج وليبيا وروسيا وجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، وأوروبا وحتى أمريكا. يرى أوجلان أن حلَّ القضايا الشرق أوسطيَّة، ومنها الكرديَّة، لن يكون إلا بإتباع النظام الكونفدرالي الديموقراطي بين شعوب المنطقة، ويمكن تلخيص أطروحته في التالي: "قليل من الدولة وكثير من المجتمع". والحقُّ أن أوجلان ظلم مرتين، الأولى: حين اعتبره خصومه والمنشقين عليه وأعدائه من الأكراد وغيرهم، بأنه "شيطان رجيم"، ينبغي نبذه ولفظه، وتناسيه، وتركه يواجه مصريه في سجنه". والثانيَّة: حين أعتبره مناصره أنه "لا ينطق عن الهوى"، وأضفوا حوله هالة من القداسة، كثيراً ما كان يرفضها أوجلان نفسه.
من الزعامة إلى السجن
بعد فشل تركيا بترسانتها العسكريَّة والدعم الأطلسي لها، في تصفية حركة أوجلان عسكريَّاً، تدخَّلت تلك الدول بشكل مباشر، وضغطت على سورية لإجبارها على "طرده"، وعقد صفقة ما تركيا، فيما عُرف بـ"اتفاقيَّة أضنا" الأمنيَّة، فخرج أوجلان من دمشق في 9/10/1998، متجهاً لروسيا، وبعد أن وجَّه مجلس الدوما الروسي دعوى له، لكن الضغوط التركيَّة _ الأمريكيَّة على روسيا حالت دون منحه حق اللجوء السياسي، فاتجه لليونان، بعد أرسل البرلمان اليوناني دعوى له، لكن اليونان رضخت هي أيضاً للضغوط الأمريكيَّة، فاتجه إلى روما التي كان يحكمها وقتئذ تحالف غصن الزيتون "اليساري" برئاسة ماسيمو دلاليما، لكن التهديدات التركيَّة، والضغوط الأمريكيَّة حالت دون منحه اللجوء السياسي هناك، فعاد لليونان التي أرسلته للإقامة في منزل سفيرها في نيروبي، ريثما تهيئ له مكاناً في هولندا، حسبما وعدته. وانتهت فصول المؤامرة على أوجلان باختطافه من نيروبي إلى تل أبيب، من ثم إلى أنقرة في 15/2/1999.
خلق اعتقال أوجلان فورة جماهيريَّة كرديَّة عارمة في العالم، وغصَّة حارقة، لا زالت تعتمل الحلق الكردي، ما دفع أكثر من 40 رجل وامرأة كردية أن يقضوا، بعد أن أضرموا النار بأنفسهم احتجاجاً وتنديداً على المؤامرة الدوليَّة التي استهدفت قائدهم. وحجم التأييد الهائل الذي حظي به أوجلان غداة اعتقاله، بدأ يتراجع، عقب محاكمته، و"الانقلاب الفكري والسياسي" الذي أحدثته طروحاته الجديدة، والفروق الكبيرة بينها، قبل وبعد اعتقاله، إلى درجة أنه اتهمه بعض الأكراد بـ"الخيانة وتصفية القضيَّة الكرديَّة" في تركيا، واعتبروا أفكاره الجديدة "استسلاميَّة"، الهدف من وراءها إنقاذ عنقه من حبل المشنقة، علماً أن تنفيذ حكم الإعدام في تركيا مجمَّد منذ منتصف الثمانينات.
من السجن إلى الزعامة
حملة الاعتراض الشديدة على طروحاته الجديدة من بعض القوميين واليساريين الأكراد، والتي تخلَّى فيها عن الدولة القوميَّة، واتجه للدولة الوطنيَّة الديموقراطيَّة، لم تجعل أوجلان يحيد عن أفكاره. ومثلما نجح في استنهاض الاكراد وتعبئتهم قوميَّاً، إلى درجة "التطرف"، قبل اعتقاله، وتزعم تلك المرحلة كـ"قائد قومي"، استطاع من معتقله، أن يؤسِّس لأفكاره الجديدة في الديموقراطية والتعايش السلمي بين الشعوب، وخلق حراك جماهيري، (قد لا يوازي حراكه السابق)، إلا أنه مؤمن بهذه الأفكار والطروحات، ويسعى لتحقيقها. وعليه، بقي أوجلان محافظاً على دوره كقائد أيديولوجي وسياسي، يدير الملف الكردي، وكلاعب فاعل ومؤثر في قواعد اللعبة السياسيَّة التركيَّة والإقليميَّة، حتى وهو في سجنه الانفرادي.
فرادة أوجلان
الكثير من التحليلات والدراسات السياسيَّة الكرديَّة تؤكِّد أن أحد أهم أسباب فشل الثورات الكرديَّة، هو افتقارها للقيادة الحكيمة، ودورها في تحويل النضالات والتضحيات التي يتميز بها الشعب الكردي إلى منجزات سياسيَّة. وربما، لا يمكننا الحديث حالياً عن منجزات سياسيَّة كبيرة لأوجلان، رغم كل التعديلات والتغييرات التي أجراها على حزبه، ورغم حجم التنازلات السياسيَّة التي قدمها للسلطات التركية، وعدم اكتراث الأخيرة بنداءاته السلميَّة المتكررة، إلا أن الميزة الأبرز له، تكمن في أنه لم يلق السلاح، وينهِ ثورته، بمجرد اعتقاله، خلافاً لما فعله القائد التاريخي للأكراد الملا مصطفى بارزاني، حين أعلن فشل الثورة الكرديَّة، لمجرد أن شاه إيران قطع الامدادات عنها، نتيجة "اتفاقية الجزائر" بينه وبين النظام العراقي السابق سنة 1975، علماً أن بارزاني كان يمتلك وقتها، أكثر من 100 ألف مقاتل مسلحين بأسلحة خفيفة وثقيلة.
المراجعات النقديَّة
إن النزوع القومي لحركة أوجلان، والماركسيَّة التي كان يعتمدها، و"العنف الثوري" الذي مارسته، وظروف الحرب التي مرَّت بها حركته، أدت إلى بروز "الستالينية" في الطباع والسلوك والفكر الأوجلاني، قبل الاعتقال. لكن، طرأ تغيير نوعي عليه، عقب الاعتقال، فأصبح منحازاً للدولة الوطنيَّة والأفكار الديموقرطيَّة، ويرجِّح الحلول السلميَّة للقضيَّة الكرديَّة، على الحلول العنفيَّة، عموماً، وفي تركيا خصوصاً، محاولاً إخراج حزبه من الطابع والتأثير العسكري الذي تميَّز به، عبر دفعه نحو التحوّل المدني، بشكل تدريجي. وذلك، بجعل النضال السياسي الديموقراطي السلمي خياراً استراتيجياً لحركته، دون إلقاء السلاح بشكل مجَّاني، وبلا ضمانات، وحصر استخدامه في عملية "الدفاع المشروع" عن النفس. وقد خطى في هذا الاتجاه خطوات هامَّة، عبر أدلجة هذا السلوك النضالي لحركته، وكتب في معتقله مؤلَّفين هامَّين، يعتبران بمثابة المرجعية الأيديولوجية الجديدة للعمال الكردستاني، وهما: "من جمهوريَّة الرهبان السومريَّة، نحو الحضارة الديموقراطيَّة" سنة 2001، (636 صفحة من القطع الكبير، قدَّمه كمرافعة لمحكمة حقوق الإنسان الأوروبيَّة، التي حكمت في 12/5/2005 بانتفاء شروط العدالة في المحاكمة التي أجريت له في تركيا، وضرورة إعادة محاكمته)، و"دفاعاً عن شعب"، ( 460 صفحة من القطع الكبير، شباط 2005، ترجمة للعربيَّة زاخو شيار). وهذان الكتابان الضخمان، هما عبارة عن مراجعة تحليليَّة سياسيَّة وفكريَّة نقديَّة لتاريخ المنطقة عموماً والأكراد وتجربة حزب العمال خصوصاً. حيث يقوم أوجلان بتوجيه انتقادات لاذعة لنفسه ولحزبه، وللأنساق والتجارب السياسيَّة في المنطقة، معيداً النظر في الكثير من المفاهيم كـ"الثورة، السلطة، الدولة، الحرب، الحرية، الديموقراطيَّة...". ويرى أوجلان أن حلّ القضايا القوميَّة في منطقة الشرق الأوسط، لن يتمَّ وفق الأشكال التقليديَّة للدولة القوميَّة، ويعتبر أن الكونفدراليَّة الديمقراطيَّة بين شعوب المنطقة، سيجنِّبها ويلات الحروب القوميَّة والمذهبيَّة والطائفيَّة. ويحصر إمكانيَّة تحقق الديمقراطيَّة في الشرق الأوسط على الحوامل الثلاث "النهضة والتنوير والإصلاح".
أوجلان ثقافيَّاً
في بداياته، كانت كتابات وتحليلات أوجلان لا تخرج التنظير للمقاومة والثورة والكفاح المسلح والنضال والتحرر الوطني، وفق الصيغ اليساريَّة المتعارفة عليها. وأثارت أولى كتاباته المترجمة للعربيَّة "دور العنف في كردستان"، و"مسألة الشخصيَّة في كردستان"، و"قضية التحرر الوطني الكردستاني _ طريق الحل"، ترحيباً واسعاً بين أوساط الشباب الكردي في سورية ولبنان، وقتها. وانتقد أوجلان النظام الاشتراكي في الاتحاد السوفياتي السابق، وتنبأ بانهياره في كرَّاس صغير، ترجم للعربيَّة سنة 1988 تحت عنوان: "الاشتراكيَّة المشيَّدة"، أثارت عليه ردود أفعال غاضبة من الأحزاب الشيوعيَّة واليساريَّة الكرديَّة والتركيَّة والعربيَّة وقتئذ. إذ كيف يمكن التكهُّن بانهيار الإمبراطوريَّة الحمراء، من قبل حزب صغير، يزعم اليساريَّة وقتها!؟. فاتهموه الكثير بـ"الهرطقة" و"الجنون". ومنذ منتصف التسعينات، بدأت كتابات أوجلان تتَّجه نحو المنحى الاجتماعي، وتنفتح على الديموقراطيَّة الاشتراكيَّة، فكتب: "المرأة والعائلة" و"كيف نعيش، 3 أجزاء"، و"حقيقة الثورة بين النظريَّة والتطبيق"، فضلاً عن العشرات من الكتب التي لم يتم ترجمها، ومئات من الحوارات الصحفيَّة التي تحولت إلى كتب. ما يعني، أنه أغزر الرموز والقادة الكرد الذين تركوا إرثاً فكريَّاً وثقافيَّاً، ساهم في تحريك المياه الفكريَّة الكرديَّة الراكدة. وتالياً، كان ولا زال أوجلان، شخصيَّة إشكاليَّة، تثير الأسئلة، أكثر مما تطرح أجوبة، حتى على الصعيد الثقافي.
أوجلان والمساعي السلميَّة
لماذا اختار أوجلان الاتجاه إلى أوروبا، ولم يتَّجه إلى جبال كردستان، أثناء خروجه من دمشق سنة 1998؟ هل فعلاً لأنه كان يخشى على حياته؟، مثلما أتهمه الكثير من الأكراد؟ سؤالٌ، لا زال يشغل ويربك الوعي السياسي والثقافي الكردي. يرى البعض، إنه في حال ذهابه إلى الجبال، كان سيصبح "نقمة" على رفاقه، الذين ستزداد الهجمات التركيَّة عليهم، لإبادتهم، وتطوى صفحة أخرى من النضال الكردي، وتنتهي معضلة العمال الكردستاني وأوجلان في تلك الجبال النائية، تحت سمع وبصر العالم، ولا أحد يحرِّك ساكناً، كعادة الانتفاضات الكرديَّة السابقة. أمَّا القضيَّة الكرديَّة في تركيا، فتؤجَّل لانتفاضة أخرى، قد تندلع بعد نصف قرن آخر، ربما يمكنها إقناع الأتراك بضرورة حلّ هذه القضيَّة. وعليه، لن يجني الأكراد، إلا خيبة جديدة، ويصبح أوجلان ورفاقه أبطال بعض الأغاني الشعبيَّة التي تتغنَّى بالتراجيديا الكرديَّة وانتكاساتها المتواصلة. لكنه، اختار أوروبا، كي يضعها أمام مسؤولياتها ومبادئها ودورها في مآسي الأكراد، ودفع كرة النَّار الكرديَّة إلى قلب أوروبا، كي تساهم الأخيرة في إخماد منشأها التركي، الذي كانت ولا زالت تدعمه. فساهم أوجلان بسلكه طريق أوروبا، في تدويل القضيَّة الكرديَّة، وعرَّى الكثير من جوانب الشراكة الأوربيَّة _ التركيَّة في معاناة الأكراد، بقاء القضيَّة الكرديَّة دون حلّ، ابتداءاً من معاهدة لوزان سنة 1923، وليومنا هذا. وبذا، أبقى أوجلان على جذوة القضيَّة الكرديَّة متقدة، وجعل قضيَّة شعبه شأناً أوروبيَّاً، لا مناص من حلِّها سليمَّاً.
الحقُّ أن أولى خطوات أوجلان نحو إيجاد مخارج سلميَّة للقضيَّة الكرديَّة في تركيا بدأت منذ مطلع التسعينات، حين لبَّ طلب الرئيس التركي الراحل تورغوت أوزال، وأعلن عن وقف إطلاق النار من جانب واحد في آذار 1993، عبر وساطة الرئيس العراقي الحالي جلال طالباني. توفيَّ أوزال بشكل مفاجئ وغامض، ولم تستجب تركيا لتلك الخطوة. وسنة 1997، على عهد حكومة نجم الدين أربكان الإسلاميَّة، أعلن أوجلان عن وقف إطلاق نار ثاني من جانب واحد، بعد رسالة وجهها أربكان له، عبر الحركة الإسلاميَّة اللبنانيَّة. لكن حدث انقلاب أبيض على أربكان، وحظر حزبه، وأبعد عن الحياة السياسيَّة. وسنة 1999، طلب أوجلان من حزبه أن يعلن وقفاً لإطلاق نار جديد من جانب واحد، فاستجاب الحزب، وطلب أوجلان سحب القوات الكرديَّة خارج الحدود التركيَّة، فاستجاب الحزب، وطلب أيضاً إرسال مجموعتين من المقاتلين وكوادر الحزب للاستسلام للسلطات التركيَّة، واحدة من الجبال والثانيَّة من أوروبا، فوافق الحزب. لكن تركيا لم تستجب لأيٍّ من نداءاته، وزجَّ بالمجموعتين الآنفتي الذكر في السجون، وعاد الكردستاني في 2004 للقتال. ثم طالب مرَّة أخرى حزبه بوقف إطلاق النار في 1/10/2006، فوافق الحزب، لكن تركيا ردَّت بالمزيد من حملات التمشيط العسكريَّة، وتطبيق العزلة والتجريد على أوجلان، بتهمة توجيه الأوامر لحزبه من السجن، ومنعت أهله ومحاميه من زيارته لأشهر. وكشف محاموه عن تعرضيه لحملة تسميم ممنهجة، بغية تصفيته بشكل بطيء. وبعد مظاهرات واعتصامات عديدة، اضطرت منظمة مناهضة التعذيب الأوروبيَّة إلى زيارته في سجنه للكشف عن حقيقة وضعه الصحي. وبعد أكثر من 5 أشهر، ورغم كل المناشدات والمظاهرات والاعتصامات الكرديَّة في استراسبورغ، والمنظمة الأوروبيَّة لمناهضة التعذيب، تكتِّمت على فحوى الفحوصات الطبيَّة التي أجريتها له. ثم ذكرت؛ أن نسبة السموم في دم أوجلان عالية، إلا أنها لا تشكل خطر على حياته، دون أن تكشف عن طرق ووسائل وصول السموم إلى دمه!.
مآل القول: إن اعتقال أوجلان، لم يسعف تركيا في تصفية الحركة والقضيَّة الكرديتين، بل وضعها في ورطة ومأزق حرج، فلا هي قادرة على إعدام أوجلان مباشرةً، ولا تستطيع لجم دوره كزعيم لحراك نضالي سياسي وعسكري ومدني يتعاظم، حتى وهو سجين. وبدلاً من أن يسهم اعتقاله في تصفية القضيَّة، تحوَّل أوجلان إلى أهم محاورها وأجزائها، وبات بمثابة "مانديلا الأكراد"، والسجين السياسي الكردي رقم واحد، ليس في تركيا وحسب، وبل في أوروبا، وبدأت شخصيته كمُفكِّر تتبلور وتظهر للعيان.
بيروت_ - هوشنك أوسي