[/font]الكون كله منذ فجر الحياة مسرح للصور المتضاد والمظاهر المتناقضة . فهذا الليل[font="] [/font]والنهار ، والنور والظلام ، هذه الشمس المتوهجة والظلال الوارفة ، هذا الهجر[font="] [/font]والوصال ، والمآتم والأعراس ، هذه المآسي والأفراح ، وهذا البؤس والنعيم ، هذه[font="] [/font]الورود الناعمة بين أشواكها الدامية - كل ذلك نماذج لمشهد هذا الكون المتناقض أبدعه[font="] [/font]الله كذلك ليوجد في كل من الخير والشر معناه ، وليستبين كل منهما بالآخر ويتميز كل[font="] [/font]عنصر بنقيضه ثم لكي تشيع في الكون روح الحركة والكفاح ولترتبط هذة الخلائق بنظام[font="] [/font]السعي والتعاون[font="] .
[/font]ويأبى هذا السنن في الكون إلا أن يجري في قصتنا أيضا ، فيجمع فيها عنصري الخير[font="] [/font]والشر ويمزج فرحة السعادة بدموع البؤس ... وعنصر الشر في هذه القصة هو حاجب خاص[font="] [/font]لديوان الأمير ، أما اسمه ’’ بكر ‘‘ وأما اسم أبيه فلم يكن يعرف من هو حتى يعرف[font="] [/font]اسمه . كانت لهذا الحاجب نفس تنطوي على أشد ألوان الخبث والمكر . وكأنما غذيت روحه[font="] [/font]بحب الفتنة فهو يتعشق الولوج فيها حيثما لاح له بابها . ولم يكن في مظهره قصيرا[font="] [/font]وقميئا فقط ، بل كان إلى ذلك أجرد الشكل باهت السحنة ذا عينيت تشعان بمزيج من الحقد[font="] [/font]والكراهية والحسد[font="] .
[/font]وكثيرا ما كان يقترح تاج الدين للأمير أن لو استغنى عن هذا الماكر الخبيث واستبدل[font="] [/font]به آخر يكون أليق بالقصر ، وأشرف منه خلقا وأصلا . وكان يقول له عنه فيما يقول[font="] :
’’ ... [/font]إن الحاجب يا مولاي وإن كان لا يرجى منهم فوق ما يرجى من أن الكلاب فيها[font="] [/font]طبيعة الإخلاص والوفاء أما هذا فإنه لا يعنيه شيء سمى أن يكون وغدا خبيثا
[font="]...‘‘
[/font]فكان الأمير يهز رأسه لكلامه ، ثم يبتسم إليه قائلا[font="] :
’’ [/font]إن حياتنا يا تاج الدين تضطرنا إلى سفيه من هذا النوع ... فإن لنا خارج هذا[font="] [/font]القصر شؤونا ومصالح ... ولنا أيضا هناك مشكلات ذات عقد ... قد نحتاج إلى متاعب[font="] [/font]كثيرة في حلها لو لم نحو من حولنا سفهاء من هذا القبيل . وإن كل هؤلاء الحجاب[font="] [/font]والحراس الذين تراهم من حول قصور الأمراء والحكام ، لا يراد منهم أن يكونوا حجابا[font="] [/font]بمقدار ما يراد منهم أن يكونوا أداة بارعة لتسيير شؤونهم وحل معضلاتهم . أما أنه[font="] [/font]غير ذي نسب وأصل ، فلن يضير شيء من ذلك في مصالحنا ما دامت تقضى ، وأما أنه ذو فتنة[font="] [/font]و خبث فإن شيئا من خبثه وفتنته لن يتطاول إلينا بمكروه أو ضرر[font="] .‘‘
[/font]وهكذا أصر الأمير على استبقائه ، ولك يستطع تاج الدين أن يقنعه بوجود ما يدعو إلى[font="] [/font]طرده والاستبدال به[font="] .
[/font]ومضت الأيام لك يَخْفَ فيها على بكر أن تاج الدين يكنُّ له كراهية وبغضا ، فطوى في[font="] [/font]قرارة نفسه أمرا ، وراح يضع بين عينيه خيوطا لفتنة يثيرها على رأس تاج الدين[font="] ... [/font]ومضى يتحين لذلك الفرص السانحة ، إلى أن كانت ذات أمسية[font="] ....
[/font]كان الأمير إذ ذاك جالسا على انفراد في جانب من حديقة قصره ، وليس من أحد حوله إلا[font="] [/font]حاجبه بكر الذي كان منهمكا على مقربة منه في تقليم بعض الأغصان اليابسة من أشجار[font="] [/font]الحديقة وتنسيقها[font="] .
[/font]ولاحت لبكر فرصة سانحة عندما سأله الأمير : ’’ أجاء تاج الدين في ذلك اليوم إلى[font="] [/font]القصر أم لا ؟ ‘‘ ... فقد أجابه قائلا[font="] :
’’ [/font]إن تاج الدين يا مولاي لم يمر بالقصر منذ أربعة أيام[font="] .‘‘
[/font]وسكت هنيهة ، ثم عاد فقال[font="] :
’’ [/font]كأني أرى يا مولاي أن تاج الدين لم يعد يفرغ للتردد على الديوان كسابق عهده[font="] ‘‘ !
[/font]فسأله الأمير[font="] :
’’ [/font]وما الذي أصبح يشغله ؟[font="] ‘‘
’’ [/font]لا أدري ، قد يكون مجرد أنه لم يجد داعيا لأن يتردد كثيرا ...‘‘ ثم انتهز فرصة[font="] [/font]تفكير بدت ملامحه على وجه الأمير ودنا إليه قائلا[font="] :
’’ [/font]الواقع يا مولاي أنه لم يكن يمكن أحد من الناس أن يصدق بأن الأميرة ستي يمكن أن[font="] [/font]تقدم رخيصة بهذا الشكل لمثل تاج الدين في حين أن جميع أمراء كردستان وسلاطينها[font="] [/font]كانوا يتمنون هذا الشرف لقاء جميع ما تمتد أيديهم من مجد ومال[font="] ‘‘.
[/font]فأجابه الأمير وقد بدا عليه التقزز من كلامه[font="]:
’’ [/font]ومن يكون هؤلاء الذين يحسبون ويظنون ..؟ بل من يكون أولئك الأمراء والسلاطين[font="] [/font]أمام كل من تاج الدين وشقيقيه ..؟ إن كل واحد من هؤلاء الأشقاء الأبطل يساوي عندنا[font="] [/font]في يوم واحد من أيام الحرب الكريهة جميع ذلك الركام من الأموال والسلاطين[font="] ‘‘.
[/font]فلما سمع بكر هذه اللهجة من الأمير أيقن أن ذلك الإسلوب لن يفيده فيما يريد . فغير[font="] [/font]مجرى الحديث وقال وهو يتشاغل بما بين يديه[font="] :
’’ [/font]لا شك أنه يجمل بالسادة أن يشجعوا غلكمانهم على المزيد من الاستقامة والخدمة عن[font="] [/font]طريق إكرامهم وإشراكهم في مجالس صفوهم وأنسهم ، ولكن بشرط أن لا ينسيهم الأنس[font="] [/font]حقيقتهم ولا يسكرهم عن أداء واجباتهم ، وأن تظل انحناآتهم للأوامر في ساعات الصفو[font="] [/font]والمرح ، موجودة بنفسها عند الشدائد وفي ساعة الكر والفر[font="] .
[/font]غير أنني أخشى يا مولاي أن يكون بعض هذا التفضل منصرفا إلى غير أهله فتكون نتيجته[font="] [/font]الكفران والطغيان . إن البخيل يا مولاي لا تليق بين يديه النعمة والثراء ، والحقير[font="] [/font]لا يلائمه[font="] ...‘‘
[/font]وهنا قاطعه الأمير بحدة شديدة قائلا[font="] :
’’ [/font]صه أيها لاقذر ، فما الحقير غيرك . إنني أعلم من هو تاج الدين في حبه وإخلاصه ،[font="] [/font]وأعلم ما يجب عليَّ فعله ، فلا تتماد فيما ليس من شأنك[font="] ‘‘ ...
[/font]فتصاغر بكر حول نفسه ، وتمتم قائلا[font="] :
’’ [/font]لقد كنت أظن فيه هذا الإخلاص ...لولا أني اطلعت منه على أمر لعل مولاي الأمير لم[font="] [/font]يطلع عليه[font="] ..‘‘
[/font]فقال له الأمير في اشمئزاز[font="] :
’’ [/font]وما هو هذا الذي اطلعت عليه ؟[font="] ‘‘
- ’’ [/font]لقد أصبح يا مولاي منذ أوليتموه شرف هذا القرب يستقل بالتصرف في كثير من شؤون[font="] [/font]القصر الخاصة ... ولقد كان أول ما أذهلني من تصرفاته في ذلك هو أن راح يقدم الأميرة[font="] ’’ [/font]زين ‘‘ إلى صديقه ممو ، ويده بتزويجها منه[font="] ...!‘‘
[/font]وما إن سمع الأمير هذا الكلام حتى أخ الذهول منه كل مأخذ ، وهب من مكانه يدير عينيه[font="] [/font]فيما حوله من الفضاء قائلا[font="] :
’’ [/font]ماذا ؟ تاج الدين ... يتصرف في مثل هذا الشأن دون أن أعلم ..؟ تاج الدين يقوم[font="] [/font]بتزويج شقيقتي لمن يريد . دون أن يستشيرني على الأقل ؟ أم يبدو والله قد أسرفت في[font="] [/font]العطف عليه حتى لم تبق في نفسه أية رهبة مني ولا خوف[font="] ‘‘.
[/font]فدنا منه بكر قائلا[font="] :
’’ [/font]أليس يدري مولاي من هو تاج الدين ..؟ إنه ذلك المعتز بنفسه ، المغرور برأسه حتى[font="] [/font]قبل أن يحظى من مولاي بهذا العطف ... فكيف وقد نُفح غروره اليوم ؟ وإن أشد ما أخشاه[font="] [/font]والله يا مولاي أن يكون هذا الرجل يهدف من وراء استبداده الطائش إلى غرس نفوذه[font="] [/font]ونفوذ ذويه في رحاب القصر عن طريق المناسبة والمصاهرة ، ليعلم بعد ذلك الإمارة[font="] [/font]لنفسه ، ويسلسلها من لدن آبائه وأجداده[font="] ..‘‘
[/font]وعاد الأمير فجلس في مكانه وهو يقول[font="] :
’’ [/font]لقد كان لي عزم والله على أن أجعل زينا من نصيب ممو ، وأن أقيم أفراحهما عما[font="] [/font]قريب . ولكن ها أنذا أقسم اليوم بفخر أجدادي فوق هذه الأرض ألا أدع ذلك يكون ، ولو[font="] [/font]جرت في سبيله سيول من الدماء حولي . فليتقدم إليّ إن شاء كل من ضجر من حمل رأسه[font="] [/font]ليتوسط أو يستعمل نفوذه في ذلك[font="] .‘‘
[/font]وهكذا أقام الأمير ، بفتنة حاجبه الخبيث ، أصلب حاجز بينه وبين كل من كانوا يريدون[font="] [/font]أن يتوسطوا إليه في تزويج ’’ زين ‘‘ لصديق تاج الدين ، وهدم آخر ساف من الأمل في[font="] [/font]إقامة فرح هذين الحبيبين ، ولكن دون أن يعلم ممو أو تاج الدين أو أي واحد من[font="] [/font]أصدقائهما هذه الوشاية التي تسببت في ذلك .. وهذا الدور الخبيث الذي لعبه بكر[font="] [/font]للوصول باأمير إلى تلك القسوة في الموضوع . غاية الأمر أنه كان يصد إليه كل من كان[font="] [/font]يفاتحه في هذا الشأن ، أو يحاول الرجاء أو التوسل إليه لتزويج ممو من شقيقته زين[font="] [/font]وكان آخر ما قاله في مجلس ضم تاج الدين وشقيقيه وجمعا كبيرا من أصدقائهم ، يحاولون[font="] [/font]فيه استرضاءه بشتى الوسائل ، هو أن قال[font="] :
’’ ... [/font]تأكدوا جميعا أنه قد يمكن أن تظل زين طوال حياتها عزبة في القصر ، ولكن لا[font="] [/font]يمكن أبدا أن أجعلها يوما ما من نصيب ممو ولا داعي أيضا إلى أن تعرفوا سببا لذلك[font="] [/font]أكثر من أنني هكذا أردت . ولا داعي أيضا إلى أن تعيدوا بعد اليوم إلى سمعي هذا[font="] [/font]الحديث ، إلا إذا رأيتم داعيا إلى إثارة شر أنتم اليوم في غنى عنه[font="] ..‘‘
[/font]ولقد كاد تاج الدين أن يعلن للأمير إذ ذاك أنهم ليسوا في غنى عن هذا الشر ما دام هو[font="] [/font]وحده الثمن لما تقدموا إليه برجاء تحقيقه ، لولا أنه كان ذا أمل في تطورات المستقبل[font="] [/font]التي قد تسهل الموضوع ، ولولا أنه كان يرجو استرضاء الأمير يوما ما عن طريق السياسة[font="] [/font]واللين عوضا عن الثورة والشدة[font="] .
[/font]في محراب الأحزان[font="]
[/font]الأيام تمر على ستي وتاج الدين صافية مشرقة ، والدهر يبتسم لهما بألوان من الصفو[font="] [/font]والسرور ، ويمد من حولهما حياتهما الجديدة ظلالا وارفة من النعيم ، ويقدم كؤوسا[font="] [/font]مترعة من السعادة التي أنستهما أيام اللوعة والفراق[font="] .
[/font]والحبيبان الآخران لا يزالان في لظى من نار صبرهما وحرمانهما . يقضي كل منهما[font="] [/font]الليالي والأيام في صومعة انفراده لا يبصر من حوله أي مؤنس ولا ينتهي إلى سمعه صوت[font="] [/font]أي راحم[font="] .
[/font]والهموم إذا لم تجد صاحبا يخفف من آلامها ، والزفرات إن لم تصادف مواسيا يبرد من[font="] [/font]حرها ، فأنى لصاحب هذه الهموم والزفرات أن يتحمل ؟ وأنى للتجمل والهدوء أن يجد[font="] [/font]وسيلة إلى القلب ؟ لا بد للأفراح لكي تصبح مشرقة ، ولا بد للأحزان لكي تكون متحملة[font="] [/font]من صاحب وشريك فيهما . وإلا فما أحرى بالهموم التي تحيط بها الوحشة والنفراد أن[font="] [/font]تصبح سببا للهياج والجنون[font="] .
[/font]كان تاج الدين فيما مضى أليف ممو لدى سروره وأحزانه فكان خير طبيب ومواس لقلبه كلما[font="] [/font]هاج به الشوق . وكانت ستي أيضا هي وحدها مأوى الآلام والأفراح لأختها زين ،[font="] [/font]فمدامعها لا تنسكب إلا بين أحضانها ، وسرورها لا يتم إلا إلى جانبها[font="] .
[/font]أما اليوم فقد مضى هذان الاثنان إلى سبيل سعادتهما ، وانشغل كل منهما بالفرحة[font="] [/font]بالآخر ... وبقي ممو لوحدته الموحشة ، يشكو فلا يجد من حوله من يتوجع إله ، ويتأوه[font="] [/font]فلا يرى أمامه من يواسيه . كما بقيت زين أيضا منطوية على آلامها دون أن يدرك أحد ما[font="] [/font]بها ، فهي دائما مختلية في غرفتها ، تسكب مدامعها بين ظلمات الوحشة والنفراد ،[font="] [/font]تتأوه آنا من وحشتها في ذلك القصر ، وتبكي آنا آخر حظها التعس المشؤوم[font="] .
[/font]ومضى على زين من عرس أختها أربعون يوما ... وهي تقاسي آلاما ولواعج تحرق ضلوعها ،[font="] [/font]ولا تكشف إلى أحد من المخلوقات سرها[font="] .
[/font]أربعون يوما ... كانت زين في خلالها شاردة اللب ، قد اتخذت من غرفتها محربا للبكاء[font="] [/font]والزفرات ، طعامها كله غصه ، وشرابها مزيج بالدموع[font="] .
[/font]أربعون يوما ... بدت من ورائها تلك الغادة التي طالما سحر جمالها وأسكر ، وقد ذبل[font="] [/font]منها ذلك الجمال وتهدل ، وعاد كأنه البدر إذ يسري بعد تألقه نحو الرقة والذوبان[font="] .
[/font]ولم يعد يخفي على إحدى فتيات القصر وجواريه ما انتهى إليه حالها . فكن يعجبن من[font="] [/font]أمرها ، ويرثين لشأنها . ولم تكن تشك إحداهن في أنها تقاسي هذه الآلام لفراق أختها[font="] [/font][font="][/font]
[font="] [/font]
التي تحبها حبا شديدا .. فكانت كثيرا ما تنتهز إحداهن المناسبات لتخفف عنها وطأة[font="] [/font]هذه الذكرى لشقيقتها ، ولكن دون أي جدوى[font="] .
[/font]وفي ذات يوم تجمعن كلهن ، وذهبن إليها في غرفتها التي تظل مختلية فيها ، وجلسن من[font="] [/font]حولها يواسينها ويقلن لها في رقة وعطف[font="] :
’’ [/font]كم لك أيتها الأميرة الصغيرة تسكبين هذه الدموع في غزارة وألم ؟! وإلى متى[font="] [/font]تعيشين مع هذه الأحزان وتتوسدين هذا الهم ؟[font="]!
[/font]إن أختك وإن تكن فارقتك غير أنها انطلقت سعيدة مبتهجة بشريك حياتها . فبأي سبب[font="] [/font]تتقلب هي هناك في سعادتها وأنسها ، وأنت ههنا تجلسين بين الدموع والأجزان ؟[font="]
[/font]حسبك يا مولاتي ... حسبك هذا الجزع الذي لا داعي إليه . قومي .. فاقتلعي من قلبك[font="] [/font]هذه الهموم والآلام ، وأزيحي عن مفاتنك قتام هذه الأحزان . جففي لحظيك من هذه[font="] [/font]الدموع ليعود إليهما سحرهما ، وأزيلي عن وجهك ضباب هذه الوحشة ليرجع إليه إشراقه[font="] ... [/font]اغسلي عن هذا القدح الرقراق من آثار الدموع ليمتلىء كما كان بياوقت الرحيق ،[font="] [/font]فقد آن أن تعود السكرة إلى الرؤوس وتطوف النشوة بالقلوب . دعي هذه الغرفة التي جعلت[font="] [/font]منها بزفراتك جحيما ، ولينبعث كم هذه القوام رشاقته وسط أبهاء القصر وقيعانة فقد[font="] [/font]طالت عليه فترة الكمود . مزقي عن الورود حجاب هذا الإنقباض ليتجلى بهاؤها . دعي هذه[font="] [/font]الجدائل تنفرد متهادية على كتفيك في دلال ، وائذني للسوالف من حول صدغيك والخصل[font="] [/font]الملتوية من فوق جبينك أن تهتز بهما نسمات الإغراء . أعيدي إلى رونق هذا النحر عقده[font="] [/font]، وليتدل على الجانبين من ليل هذا الشعر قرطاه[font="] .
[/font]هذه الدنيا وزينتها ... هذه الطبيعة وبهجتها .. هذه الأيام من العمر التي تطل عليك[font="] [/font]بثغر ملؤه البهجة والسعادة .. لا تدعي كل ذلك يفوتك وأنت مطرقة.. لا تسكري نفسك[font="] [/font]عنها بكؤوس الدمع والأحزان[font="] .
[/font]الحياة جميلة يا مولاتي ، وأنت أجمل منها . والدنيا من حولك مشرقة ، وإشراقك أتم[font="] [/font]منها . فانهضي ... وافرحي .. وابتسمي .. ليتم في الحياة الجمال .. ويتكامل للدنيا[font="] [/font]الإشراق[font="] ..‘‘
[/font]وهنا سكتت الفتيات وقطعن حديثهن . فقد أخذ يتغلب على كلامهن نشيج صدرها ، واختلطت[font="] [/font]أصواتهن في صوت بكائها ، وراحت تجيب حديثهن بوابل من الدموع لم تسكب مثله إلى ذلك[font="] [/font]اليوم[font="] .
[/font]ولا بدع ، فالشوق نار في الفؤاد لا تزيده النصيحة إلا اتقادا ، وهو سر مستكن في[font="] [/font]الجوانح لا يفيده العتب واللوم إلا افتضاح . لا سيما إن كان هذا الناصح لا يدري سر[font="] [/font]الحزن والألم فيمن ينصحه ، فهو يلقي على سمعه كلاما بعيدا عن دنيا قلبه وآلامه ، لا[font="] [/font]ريب أن ذلك ا يزيد في نفسه إلا شعور بالغربة وإحساسا بالوحشة والآلام[font="] .
[/font]ووجمت الفتيات في حزن وأسف ... وتعلقت أنظارهن بشفتي زين ينتظرن منها أية كلمةتشير[font="] [/font]بها إلى سبب كل هذه الحرقة والعذاب . ولكن عبرات عينيها ، ونشيج صدرها ، لم يكن شيء[font="] [/font]من ذلك يدع لها فرصة لأي حديث[font="] .
[/font]ثم نهضن جميعا في ندم شديد مما أقدمت عليه ... وتسللن من غرفتها الواحدة تلو الأخرى[font="] [/font]في هدوء ، وقد ارتسمت على ملامحن مظاهر الدهشة والإنكسار[font="] .
[/font]وأغلق باب غرفتها بعد أن خرجت آخر واحدة منهن ... فرفعت وجهها تحدق النظر فيما أخذ[font="] [/font]يحيط بها من رهبة الوحشة والانفراد ، وأخذت تتراءى من حولها أطياف تلك الفتيات ،[font="] [/font]وقد انقلب كل واحد منها إلى أشباح متجسدة من الهموم والغموم .. وأحست من قرارة[font="] [/font]قلبها المحطم أن هؤلاء هم وحدهم أصدقاؤها الذين ألفوها وألفتهم ، وخالطوا كل حبة من[font="] [/font]قلبها ونفسها . فراحت تتأمل من حولها تلك الأشباح ، وأخذت تحدثها قائلة[font="] :
’’ [/font]مرحبا بكم أيها الأصدقاء .. أيها الأصدقاء للنفوس البائسة والندامى للقلوب[font="] [/font]المكلومة .. أيها الشركاء في سرِّ ما رواء الجوانح المعذبة ، وأطياف الوسن لعيون[font="] [/font]الخواطر الحزينة ... يا كوؤس الراح للحلوق المريرة ، ومظهر البهجة أمام العيون[font="] [/font]القريحة[font="] ...
[/font]العشاق جميعهم قد وصلو إلى محاريب آلامهم ، والسالكون كلهم قد انتهوا إلى مباهج[font="] [/font]أنسهم وسعادتهم . وها هو ذا قلبي المهجور ساكن فيما بينكم خال من اجلكم ، لا يجوب[font="] [/font]أحد غيركم في أركانه[font="] .
[/font]
[font="] [/font]
[font="]لكم اليوم أن ترتعوا فيه كما تشاؤون وان تتصرفوا به كما تريدون ، وأن تتجازوا ذلك[/font][font="] [/font][font="]إلى كل جهة من مشاعري وطرف من جوارحي . عيناي ... سأتخذ منكم شعاع رقادهما ، شفتاي[/font][font="] ... [/font][font="]سأملأ منكم كؤوس خمرها ، أفكاري ... سأجعل إليكم في أيامي السود ، وما أشد شوقي[/font][font="] [/font][font="]إلى الأنس بكم في ليالي الظلماء[/font][font="] .‘‘[/font]
[font="] [/font][font="]ثم يلوح لعينيها بين أشباح تلك الهموم خيال ’’ ستي ‘‘ وكأنها جالسة إليها ،[/font][font="] [/font][font="]تتواسيان وتتشاكيان كما كانتا في أيامهما السابقة ، فتتألق عيناها نحو ذلك الوهم ،[/font][font="] [/font][font="]وتمضي إليه لتعانقه قائلة[/font][font="] :[/font]
[font="] ’’ [/font][font="]أختاه ... يا روح زين ونور بصرها ، يا جليسة أفراحي وهمي ، وشريكة سر قلبي ، يا[/font][font="] [/font][font="]عيش احزان نفسي وجناح المسرة لروحي . لله هذا الدهر الذي جمع نفسينا في طبيعة واحدة[/font][font="] [/font][font="]، ثم فرق بيننا في الحظ والسعادة ؟ ما أعظم شكري لله على أن آتاك الحظ الذي تريدين[/font][font="] [/font][font="]، وأسعدك بالطالع الذي كنت تحلمين . فليبتسم لك الدهر ، فإن في ابتسامته عزاء لهمي[/font][font="] . [/font][font="]ولتسعدك الحياة ، ففي إسعادها تهوين لشقائي[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]أما حظي ، فمهما اشتد سواده الذي به فلن يتجاوز القسمة التي يجب أن أرضى بها وأسكن[/font][font="] [/font][font="]إليها . كانت قسمتي في الأزل هذه الهموم التي تحيط من حولي ، والبؤس الذي يقيم في[/font][font="] [/font][font="]نفسي . ذلك هو المقدر المسطور .. صفو الحياة وأفراحها من أجلك ، وحزنها وآلامها[/font][font="] [/font][font="]لقلبي . لك تاج الدين الذي أعطاك الدنيا فيه أفراحها ، ولي ممو الذي قدمته إليَّ في[/font][font="] [/font][font="]همومها وشقائها . فللّه مني ما شاء من قبول بحكمه ورضى بقسمته[/font][font="] .‘‘[/font]
[font="] [/font][font="]أما الليل فكانت في معظم أوقاتها تأبى أيضا إلا أن تسهر مختلية في غرفتها . وكثيرا[/font][font="] [/font][font="]ما كان يحلو لها أن تجلس إلى جانب شمعة من الشموع المتقدة في أنحائها ، تتأمل[/font][font="] [/font][font="]احتراقها ، وقطراتها التي تجري كالدمع من جهاتها ، وسيرها نحو الذوبان والنتهاء[/font][font="] . [/font][font="]فتشعر في أسى ولوعة ليمة قد غدت شمعة أخرى بين هذه الشموع ، تسير مثلها نحو[/font][font="] [/font][font="]الاضمحلال و الانطفاء . ثم تثبت نظرها مطرقة في تلك الشمعة وتحدثها قائلة[/font][font="] :[/font]
[font="] ’’ [/font][font="]أيتها الأخت القائمة حيالي ، المحترقة بمثل ناري . لك أن تغتبطي وتحمدي الأقدار[/font][font="] [/font][font="]على ما بين آلامي وآلامك من فوق مثل ما بين مشرق الشمس ومغربها . نارك إنما تعلو[/font][font="] [/font][font="]ظاهرا منك فقط ، وناري يتأجج لهيبها من أعماق قلبي وباطني . نارك إنما تمس منك خيط[/font][font="] [/font][font="]هذا اللسان ، ثم لا تتجازه ، وناري يسري لظاها وراء جميع مسالك روحي ، ويقيم لهيبها[/font][font="] [/font][font="]حربا في كل جوانحي وجسمي[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]هو في أعلاك نور يشع من حولك بهجة وضياء . وهو في باطني دكنة تملأ ما حولي ظلمات[/font][font="] [/font][font="]وقتاما[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]هو في لسانك سحر من البلاغة والتعبير والبيان ، وهو في جوانحي وبين ضلوعي آلام[/font][font="] [/font][font="]كاوية تفقدني النطق والكلام[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]ثم أين أنت من أجيج ناري وزفرات نفسي إذ ترقدين منذ لمعة الفجر إلى المساء ، زفرات[/font][font="] [/font][font="]كاوية ... ولظى مستعر .. وأجيج متقد .. لا يكاد شيء من ذلك يريح نفسي ساعة من ليل[/font][font="] [/font][font="]أو نهار ، ليس من فم يطفئه ، أو نسمة تخمده[/font][font="] .‘‘[/font]
[font="] [/font][font="]وتلمح أثناء اطراقتها في ذلك الليل فراشات تطوف حول تلك الشموع ، فتنظر إليها[/font][font="] [/font][font="]بعينين زائغتين بالدمع قائلة[/font][font="] :[/font]
[font="] ’’ [/font][font="]أيها الطائر الهارب من عش الفراق ، والبلبل المولع بأزاهير اللهب ، أيها الحجة[/font][font="] [/font][font="]الصائبة على المدعي الكاذب ، والباذل روحه رخيصة في شجاعة وشوق[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]قل لي ، ألا يدركك الملال ساعة من هذا الدوران ، ألا تشعر بتعب من هذا السعي[/font][font="] [/font][font="]المرتعش الدائب حول هذا المطاف ؟[/font][font="][/font]
[font="] [/font][font="]ولكن أسفا .. أسفا أن يقارن المتجه نحو الموت برزانة وجأش بذاك الذي يسعى إليه في[/font][font="] [/font][font="]ضجر مرتعش[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]كان عليك أن تعلم أن هذا الهلع في السعي مظهر للجزع المعيب ، وأن ارتعاشك الدائب[/font][font="] [/font][font="]طيش لا ينبغي ، وأن تعجلك للفناء قبل أن ينضج منك الجسم بشوقه إنما هو تخلص من[/font][font="] [/font][font="]الصبر وآلامه[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]هلا قعدت تصبر مثلي ، إلى أن يذوب الجسم في بوتقة الحشا ، وتتلاشى المادة في ضرام[/font][font="] [/font][font="]الروح ؟ إذا لبدلت منك هذه الحقيقة الأرضية بروح القدس والخلود ، ولعادت روحا صافية[/font][font="] [/font][font="]في كأس شفافة من النور . وإذا أمكنك أن تعانق هذا اللهب من دون احتراق وأن تتقلب في[/font][font="] [/font][font="]جنباته من غير اكتواء[/font][font="] .‘‘[/font]
[font="] [/font][font="]وهكذا كانت تمر حياة زين ... خلوات مع الأشباح والأطياف وحديث مع الخيالات والأوهام[/font][font="] [/font][font="]، يطوف كل ذلك بها ، ثم يستقر في ذهنها وقلبها وكل مشاعرها شيء واحد ... هو اسم ممو[/font][font="] ... [/font][font="]هو حظها المنكوب الذي أبعداعن أليف روحها ، وأخرجها من أفراح الدنيا ونعيمها[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font]
[font="] [/font]
[font="][/font]
[font="] [/font][font="]آلام ممو[/font][font="][/font]
[font="] [/font]
[font="] [/font][font="]أما ’’ ممو ‘‘ فقد كان عديم الصبر والقرار حتى عندما كان صفيه لا يزال إلى جانبه ،[/font][font="] [/font][font="]يشركه في ألمه ووجده ، فكيف به اليوم ، وقد افتقد من جانبه الصديق ، وغاب عن قلبه[/font][font="] [/font][font="]الأمل ، ولك يبق إلا خيال ’’ زين ‘‘ يشع محياها في ذهنه من خلف ضباب اليأس الأليم[/font][font="] [/font][font="]القاتل[/font][font="] ..!![/font]
[font="] [/font][font="]لقد كانت فترة وجيزة من الأيام ... سرعان ما إختفى فيها ذلك الشاب الرائع ، المعتز[/font][font="] [/font][font="]بقوته وشخصه ، المعجب ببطولته وبأسه وظهر من ورائها إنسان آخر ذو ملامح ذابلة[/font][font="] . [/font][font="]ينظر ما حوله بعينين شاردتين ، كأن فيه عتها أو جنونا ، يهيم على وجهه بياض نهاره[/font][font="] [/font][font="]وسواد ليله ، متنقلا بين الآكام والتلال ، يذرع مرة شواطئ دجلة جيئة وذهابا ،[/font][font="] [/font][font="]ويتسلق أخرى ذرى الجبال صعودا ونزولا . لا يقر له مكان في أي جهة ، ولا يكاد يستأنس[/font][font="] [/font][font="]بأي انسان[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]إنه ممو بعينه .. ذلك العاشق الذي صدمه اليأس في قلبه صدمة واحدة بعد أن شبت الآمال[/font][font="] [/font][font="]في نفسه ، وكادت تزدهر[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]وهو بعينه أيضا صفي تاج الدين .. إنه اليوم يراه فلا يكاد يتبينه ، ويجلس إليه ،[/font][font="] [/font][font="]فلا يرفع رأسه عن إطراقته ، ولا يكلمه بغير آهاته وزفراته[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]وهو بعينه ذاك الذي كان سكرتيرا في ديوان الأمير .. إنه اليوم يدخل الديوان ، ويرى[/font][font="] [/font][font="]الأمير أمامه ، فلا يكاد يستطيع أن يخفي نشيجه[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]ولكنه مع ذلك ظل يكتم سر دائه عن كل مخلوق ، إلا صفيه تاج الدين الذي لم يعد يملك[/font][font="] [/font][font="]أي وسيلة في محاولة إسعاده[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]أما حينما يهيج به الوجد ويضيق به الكتمان فقد كان يأخذ سمته إلى خلوات الشطآن ، أو[/font][font="] [/font][font="]في بعض سفوح الجبال ، حيث يبعث هناك ما شاء من زفراته وأناته ، ويسكب كل ما في[/font][font="] [/font][font="]عينيه من دموع ويتخذ من الرياح السارية من حوله ، والمياه الجارية من أمامه جلساء[/font][font="] [/font][font="]يشكو إليهم همه ويشرح لهم ناره[/font][font="] ...[/font]
[font="] [/font][font="]كان يمضي ساعات على شاطئ دجلة ، جالسا إليه في حديث طويل ، يسكبه على صفحته[/font][font="] [/font][font="]الرقراقة ، قائلا[/font][font="] :[/font]
[font="] ’’ [/font][font="]أيها المتدفق كدمعي ، الهائج مثل نار شوقي[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]ما لي لا أراك في ساعة من ليل أو نهار إلا هائجا زخارا ، لا يقر لك قرار ، ولا يهدأ[/font][font="] [/font][font="]منك البال ؟[/font][font="]![/font]
[font="] [/font][font="]أم يبدو أنك تعاني مثلي ويلات هذا العشق وجنونه ، وينطوي سرك على حبيب أفقدك القرار[/font][font="] [/font][font="]والهدوء فهي الذكرى تثير في طيات جوانحك هذه الثورة الدائبة ؟[/font][font="][/font]
[font="] [/font][font="]ولكن من يكون معشوقك غير هذه الجزيرة الخضراء التي تظل دائرا من حولها ؟ ففيم[/font][font="] [/font][font="]الهياج إذا ؟ وهي نائمة بين ذراعيك منازلها مستقرة في قلبك ، يمناك ملتفة منها حول[/font][font="] [/font][font="]الخصر ، وشمالك مبسوطة فوق عقد النحر[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]كل هذا ، ثم لا تشعر بالنعمة ووجوب شكرها ! ... تظل ترغي وتزبد . هياجك يعلو إلى[/font][font="] [/font][font="]عنان السماء ، وأُوراك ينبعث صداه إلى ديار بغداد ! ألا قل لي ، ما الذي تبغيه بعد[/font][font="] [/font][font="]كل ما أنت فيه ؟ وأي أمل ضاع منك ، حتى تظل حول نفسك من أجله ؟[/font][font="][/font]
[font="] [/font][font="]لقد كان أولى أن يكون نحيبك هذا في حلقي ، وهياجك في نفسي ، ولقد كنت أجدر منك بأن[/font][font="] [/font][font="]تعلو إلى السماء زفراتي ، وأن ينبعث حول هذا البلد أوار قلبي[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]فأنا الذي أظل متحاملا بقلبي على خنجر قد غرس فيه نصله . تراءى لعيني منه ، إذ كان[/font][font="] [/font][font="]بعيدا ، بريق ماء عذب ، ثم استقر منه في فؤادي سم زعاف ليس له دواء له اليوم[/font][font="] ![/font]
[font="] [/font][font="]هو يا دجلة قلب مجدب ، أحرقه وهج اليأس ، فما ضر لو نظرت إليه مرة أو مررت عليه في[/font][font="] [/font][font="]تطوافك حول هذا البساط الأخضر الموشى بالورود وأزهار النرجس والبنفسج ؟ فربما كان[/font][font="] [/font][font="]أخضرّ فيه أيضا غصن ، أو هفت بين سمومه نسمة باردة[/font][font="] .‘‘[/font]
[font="] [/font][font="]ثم يلتفت إلى الرياح التي تظل هافة من حوله ، فيتخذ منها رسولا إلى مليك قلبه ،[/font][font="] [/font][font="]ويروح يلقنها رسالته إليه قائلا[/font][font="] :[/font]
[font="] ’’ [/font][font="]أيها النسيم الساري في رقة الروح ، المفتوح أمامه باب كل عزيز وممنوع . هل لك أن[/font][font="] [/font][font="]تلتفت إلى رجاء يعرضه عليك هذا المقيد الحبوس ؟ إن كان كذلك ، فامض أيها النسيم في[/font][font="] [/font][font="]اتجاه هذا المشرق ، فسترى فيه شدة الروعة والجمال ، ومحراب سعادتي وأنسي . فإذا ما[/font][font="] [/font][font="]وصلت فقف بالأعتاب أولا لتقبلها . ثم ادن إلى مليك ذلك الجمال ، ولكن في تواضع ولطف[/font][font="] [/font][font="]، لكي تؤدي بين يديه الثناء اللائق وتقوم له بالتعظيم الملائم . ثم تراجع خطوات إلى[/font][font="] [/font][font="]الوراء لتعرض عليه رسالة الروح المستعرة .. قل له إنها من مدعوك الذي دمه مداد قلمه[/font][font="] [/font][font="]، وجسمه المتقد صفحة كتابته[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]فإذا ما رأيت رقة بدت ملامحها على وجهه فقل له في أدب ولطف : إنه يا مولاي بائس[/font][font="] [/font][font="]مسكين .. عاش فترة في حلم قصير من عطفك ، ثم سرعان ما تبدد الحلم وضاع العطف ، وغدا[/font][font="] [/font][font="]يتخبط في دياجير البؤس والشقاء . إنه ليس يدري والله أي ذنب ارتكبه ، اللهم إلا[/font][font="] [/font][font="]قلبا يعرف أنه كان يخفق بين جنبيه ، وهو اليوم هارب منه قد افتقده منذ أمد طويل[/font][font="] . [/font][font="]ربما كان وهو يخفق بين جوانحه صاحب هوس وهوى يميل إليه ، وربما كان قد اقترف إذ ذاك[/font][font="] [/font][font="]إثما أو جنى ذنبا ، كأي واحد من هؤلاء الذين خلق معهم النقص والسهو والنسيان . نعم[/font][font="] [/font][font="]، للمالك يا مولاي أن لا يتجاوز عن عصيان عبده ، وأن يتصرف كما يشاء في عقابه[/font][font="] . [/font][font="]ولكن هل من البعيد أيضا أن يتغمده بعطفه ، وأن تدركه الرحمة له فيدينه إلى ظل حماه[/font][font="] [/font][font="]ولطفه ..؟[/font][font="][/font]
[font="] [/font][font="]ثم لا تنس أيها الصبا أن تعود إليّ بغبار من تراب ذلك المكان . عد إليّ ولو بقليل[/font][font="] [/font][font="]منه ، فإن ذراته رائحة قلبي وبلسم دائي[/font][font="] .‘‘[/font]
[font="] [/font][font="]أمّا أشد ما يكون تألما واحتراقا ، فذلك عندما يُرى منطويا على نفسه مطرقا في[/font][font="] [/font][font="]غيبوبة عن كل ما حوله من مظاهر الدنيا وصور الطبيعة وأفراد الناس[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]إنه في تلك الساعة يكون في مشادة دامية مع قلبه . قلبه الذي أدبر عنه مرة واحدة ولم[/font][font="] [/font][font="]يعد يتعرف إليه . إنه يظل يخاطبه في توجع شديد قائلا[/font][font="] :[/font]
[font="] -’’ [/font][font="]أيها الخائن الغدار ... قل لي .. هل تتذكر ..؟[/font][font="][/font]
[font="] [/font][font="]هل تذكر العهود والمواثيق والأيمان ، التي كنت يوما ما تسوقها إليّ جملة واحدة[/font][font="] [/font][font="]لتؤكد[/font][font="] [/font][font="]بها مبلغ وفائك وإخلاصك ؟ هل تذكر إذ كنت تقرر لي في شدة وعزم ، بأنك صادق[/font][font="] [/font][font="]معي في كل أمر ، وأنك مرتبط بي في كل آن ووقت[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]هل تذكر إذ كنت تفتخر أمامي ، مدعيا بملء شدقك أنك ذو بأس عظيم وتحمل شديد في سبيلي[/font][font="] [/font][font="]ومن أجلي ؟[/font][font="][/font]
[font="] [/font][font="]هل تذكر إذ كنت تقعد لتطلعني على مدى غرامك العجيب بي . ذلك الغرام الذي يستحيل أن[/font][font="] [/font][font="]يشغلك عنه أي شاغل أو يصرفك عنه أي صارف ؟[/font][font="][/font]
[font="] [/font][font="]هل تذكر إذ كنت تتصنع الكبرياء والصلف على الناس كلهم من أجلي ، وتشعرني بامتهانك[/font][font="] [/font][font="]لكل من على هذه الأرض في سبيلي ؟[/font][font="][/font]
[font="] [/font][font="]أسفا .. أسفا إذ أطرت كل ذلك اليوم بنفخة من عدرك ، ونسيته مرة واحدة لأول هوى في[/font][font="] [/font][font="]نفسك ، وتركتني إلى حيث لا أجد سبيلا للحاق بك والوصول إليك[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]ألا قل لي بأي حق أيها الطائر الأهوج الصغير تنطلق إلى حيث تشاء تاركا ورائك هذه[/font][font="] [/font][font="]الروح المعذبة في محبسها من هذا الجسد ؟[/font][font="][/font]
[font="] [/font][font="]هذه الروح التي خلقت معها توأمين ، وعشتما معا خير قرينين ، تمد وجودك دائما بسر من[/font][font="] [/font][font="]فيضها ، وتبث فيك الاشراق من نورها .حسبك طيشا أيها القلب . وكفاك ابتعادا وتوغلا[/font][font="] [/font][font="]في المجاهل منفردا عن قبس روحك وسراجها . فإن الطريق ، ويحيك ، مظلمة . والهدف[/font][font="] [/font][font="]أمامك بعيد[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]إنها ، ويحك ، روحك ! روحك التي هي جزء منك إنها أجدر وأولى بحبك من أي روح أخرى[/font][font="] [/font][font="]تسعى ورائها . إن كان مقصدك الجمال ، فما أكثر ما أولتك هذه الروح من جمالها وإن[/font][font="] [/font][font="]كان النور والاشراق ، فمن ذا الذي يغذيك بأكثر من نورها وإشراقها[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]أيها القلب عد . عد لا تخدعنك مفاتن الغرور والأصداغ ولا تصدقن شيئا من ابتسامات[/font][font="] [/font][font="]الثغور والشفاه ، ولا يأخذنك سحر العيون النجل ، أو يجذبنك إشراق الوجوه بين ظلمة[/font][font="] [/font][font="]الشعور الملتوية . فكل هذا الذي يتألق في عينيك نوره إنما هو نرا وجمر ، سرعان ما[/font][font="] [/font][font="]يتوقد عليك لهيبا ، وتهلك في لظاه[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]وإلا ، فإن مثلك ألف بلبل ، يقضي كل ساعات العمر بين الخمائل والورود في نحيب وآلام[/font][font="] .. [/font][font="]ثم لا يكون نصيبه منها إلا كما يكون نصيب الفراشة من اللهب . لظى وضنى واكتواء[/font][font="] .. [/font][font="]ثم هو بعد ذلك قطعة أديم يابسة ملقاة في مهب تلك الورود والأغصان[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]أيها القلب أنت معرض نفسك لمجال الهوى والملذات ، مقصدك الوصول إلى صفوها[/font][font="] [/font][font="]والاستمتاع بنعيمها . ولكني قد عرفت لك مما قاله لي الطبيب الحاذق لهذا الداء أن[/font][font="] [/font][font="]شفاءك إنما هو الاحتماء عن مطارح الشهوات ، ومبتغاك كامن وراء أشواك الرياضة[/font][font="] [/font][font="]والحرمان . لقد حدثني هذا الطبيب بأن الداء هو بعينه ذاك الرحيق العذب الذي تهفو[/font][font="] [/font][font="]وراءه نفسك ، والدواء ليس إلا ذلك العلقم الذي تشتكي منه وتعافه[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]أيها القلب ، كيف أكلمك ، وعمّ أحدثك وماذا أقول ؟ لا أراك إلا مدبرا عني ، لاهيا[/font][font="] [/font][font="]عن حديثي وصوتي ، كأنك لم تكن يوما تعرف صاحب هذا الصوت والرجاء[/font][font="] .‘‘[/font]
[font="] [/font][font="]وهنا لا تلبث أن تتضرم هذه الكلمات نارا على القلب المسكين ، ويتصاعد من سويدائه[/font][font="] [/font][font="]إلى أعلى الرأس فيح كأنما هو الدخان واليحموم ، وسرعان ما يتلبد هذا الفيح مثل سحاب[/font][font="] [/font][font="]مركوم في يوم ممطر . ثم ما هو إلا أن ينهمر بسيل من الدموع الحارة متدفقة من[/font][font="] [/font][font="]العينين ! هنالك يروح ’’ ممو ‘‘ مستسلما لتلك الدموع في نشوة وذهول ، ويظل مستروحا[/font][font="] [/font][font="]بلهيبها ، منتعشا بتدفقها ، بعد أن كادت تخنقه غصة تلك الكلمات في حلقه ، إلى أن[/font][font="] [/font][font="]تجف من العين ، وتنعصر منه الحشاشة والكبد ، حيث يعود ثانية إلى الحرب بين روحه[/font][font="] [/font][font="]وقلبه ، ويختنق مرة أخرى بالأحاسيس القاسية ، ويظل يعاني من غصتها إلى أن ترحمه[/font][font="] [/font][font="]حشاشته بفيض آخر من الدموع . وهكذا تظل القصة تتكرر وتعود[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]بكى ممو حتى تقرحت عيناه .. ولم يزل يتوجع ويتحرق حتى كادت أن تنطفئ جذوة حياته[/font][font="] . [/font][font="]ولم يزل ينهار منه القوى وتخور فيه العزيمة ويصفر منه الشكل إلى أن طرحته الحمى في[/font][font="] [/font][font="]مكان ما على شاطئ دجلة وحيدا إلا من بعض أصدقائه المخلصين الذين كانوا يعودونه[/font][font="] [/font][font="]ويواسونه بين كل فترة وأخرى[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]أما داره في المدينة فقد تركها حتى قبل أن يطرحه المرض ، فقد كان يحاول جاهدا أن لا[/font][font="] [/font][font="]يعلم أحد من الناس سريرة قلبه إلا من كان من خاصة أصحابه كتاج الدين ، خشية أن يبلغ[/font][font="] [/font][font="]الأمير ذلك فيزداد إلى قسوته ضرام الحمية ، ويذهب خياله إلى أبعد من الواقع بكثير[/font][font="][/font]
[font="] [/font]
[font="] [/font]
[font="] [/font][font="]رحلة إلى الصيد[/font][font="][/font]
[font="] [/font]
[font="] [/font][font="]كان ذلك في يوم شمسه مشرقة وسماؤه صافية ، قد ازدانت فيه الطبيعة بأبهى حلة وأبدع[/font][font="] [/font][font="]وشي ، تلاقت فيه بهجة الزمان بابتسام الخمائل والورود الرياض تتألق بسندس أخضر[/font][font="] [/font][font="]وتخفق بنسمات فواحة بالعبير ، والربا أكاليل زمردية فوق جبين الطبيعة نثرت في[/font][font="] [/font][font="]أطرافها يد الخلاق أبدع ألوان الزهر ، والجبال الشم قد نسجت حول قممها الخضر آيات[/font][font="] [/font][font="]خالدة من الجمال والجلال تتطلع إلى عظمة ذلك الجبار الذي أرساها وأقامها ، والأودية[/font][font="] [/font][font="]غاصة بأشجار باسقة ، ينبعث من تلافيف أغصانها غناء مختلف البلابل والأطيار ، وعيون[/font][font="] [/font][font="]المياه تنساب بين كل ذلك في إشراق وبريق ، كأنها وشي من الحلى المتألق في أطراف[/font][font="] [/font][font="]غانية[/font][font="] [/font][font="][/font]
[font="] [/font][font="]وكان قد أطلق منادى الأمير قبل ذلك يعلن في شتى أطراف الجزيرة عزم الأمير على[/font][font="] [/font][font="]الخروج إلى الصيد في ذلك اليوم ، وأن على كل صاحب قوس أو نبل ، أو ساعد وعزيمة أن[/font][font="] [/font][font="]يكون في ركاب الأمير في تلك المباراة التي سيتولى الإشراف عليها والمشاركة فيها[/font][font="] [/font]
[font="] [/font][font="]وفي صبح اليوم الموعود تدفق كل أعيان الجزيرة ووجوهها وذوي البأس والمراس فيها[/font][font="] . [/font][font="]وفي مقدمتهم الأمير وحاشيته إلى خارج المدينة ، وقد تنكب الجميع أقواسهم وصحبوا كل[/font][font="] [/font][font="]لوازم الصيد وأسبابه ، وتبعهم من ورائهم معظم أهل الجزيرة من صغير وكبير ونساء[/font][font="] [/font][font="]ورجال ، ليستمتعوا بمشاهدة تلك المباراة الرائعة التي ستكون تحت إشراف الأمير[/font][font="] ...[/font]
[font="] [/font][font="]وسرعان ما انتشر الجميع بين تلك الأودية والآكام ، وغابوا متفرقين في شعاف الجبال ،[/font][font="] [/font][font="]كل يبحث عما يستطيع أن يفاخر به غيره في المساء . فربما كان نصيب هذا أسداً كاسراً[/font][font="] [/font][font="]أو نمراً عاتياً ، يعرض فيه على الناس مقدار شجاعته وإقدامه . وربما كان نصيب ذاك[/font][font="] [/font][font="]غزلاناً بديعة ، يثبت لهم بها خفته وبراعته . وربما جاء آخر بأشكال نادرة من الطيور[/font][font="] [/font][font="]والحيوانات . وربما ظهرفيهم من تلقف من كل صنف ونوع ، فراح يهز بينهم سنانه وقوسه ،[/font][font="] [/font][font="]ويلوح لهم بساعده القوية ، وقد يأتي من ورائهم من خانه الحظ ولم ينل أي نصيب[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]ويمضي الأمير إذ ذاك موزعا بينهم إعجابه وتقديره ، وموليا كلا من المكافأة والقرب[/font][font="] [/font][font="]ما يستحق[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font]
[font="] [/font]
[font="] [/font]
[font="] [/font][font="]لقاء الحبيبين[/font][font="][/font]
[font="] [/font]
[font="] [/font][font="]ولندع الآن أولئك الذين تفرقوا في تلك الشعاب منهمكين في شأنهم .. ولنعد أدراجنا[/font][font="] [/font][font="]إلى داخل العمران الذي أصبح خاويا من الناس ، ولنأخذ سمتنا إلى القصر .. فسنجد على[/font][font="] [/font][font="]البعد شبح فتاة واقفة في إحدى نوافذه في جمود وإطراق . ومع دنو خطواتنا من القصر[/font][font="] [/font][font="]نتبين أن هذه الفتاة إنما هي ’’ زين ‘‘ . هي تلك الغادة التي كانت في يوم ما تظل[/font][font="] [/font][font="]ترقص جنبات القصر بظرفها وخفتها ومرحها . ها هي اليوم ، تقف على هذه النافذة في[/font][font="] [/font][font="]ذبول وإطراق ، وقد اثّاقل بها الهم والكرب ، ونال منها الشحوب والضنى ، مسندة رأسها[/font][font="] [/font][font="]إلى قبضة كفها ، تتأمل بعين كبار الفلاسفة والحكماء هذا الوجوم المخيم على القصر[/font][font="] [/font][font="]ومعظم ما وراءه من الأزقة والميادين . إنها تقرأ في ذلك المظهر الطارئ من السكون[/font][font="] [/font][font="]والوجوم معنى الفناء والانتهاء الذي ينتظر كل إنسان من وراء ساعات لهوه ومرحه ،[/font][font="] [/font][font="]وتتبين فيه نموذجا عن حالة قلبها المقفر ، الذي طالما ظل مزدهرا بآمال بديعة محفوفة[/font][font="] [/font][font="]بالأحلام الجميلة ، ثم في مثل طرفة العين احترقت كل تلك الآمال وعصف الدهر برمادها[/font][font="] [/font][font="]، وتبددت الأحلام الجميلة ، وأيقظها الزمان على غصة البؤس والحرمان[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]ولاحت تحت عينيها - وهي في تلك الأثناء - حديقة القصر وهي كبيرة شاسعة الأطراف تفنن[/font][font="] [/font][font="]الأمير في تشكيلها وإبداعها . جمع فيها كل أشجار الفاكهة وغيرها . ونسق فيما بين[/font][font="] [/font][font="]ذلك كل أصناف الورود وألوان الأزاهير التي ولدتها الطبيعة فوق أي رابية من الروابي[/font][font="] [/font][font="]، أو على أي شاطئ من الشطآن . تنساب فيما بينها جداول رقراقة تبعث فيما حولها تتمة[/font][font="] [/font][font="]مظهر الرونق والإبداع[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]لاحت لها تلك الحديقة خالية .. هادئة ، لا يجوس خلالها أي إنسان ، ولا يرى من بين[/font][font="] [/font][font="]أغصانها أي مستأنس أو مستمع ، إلا فراشات تجوب بين تلك الورود ، وطيورا يسمع صوتها[/font][font="] [/font][font="]من بين أوراق الأغصان . فحدثها خاطرها - وقد راقها سكون تلك الحديقة ووافق هواها[/font][font="] - [/font][font="]بأن تنتهز فرصة وجود بقية طوق في جسمها وحركة في أطرافها ، فتخرج من محبسها في هذا[/font][font="] [/font][font="]القصر لتمشي قليلا وسط تلك الحديقة علّها تجد بين نسماتها بردا من الراحة والانتعاش[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]واستجابت زين لهذا الخاطر في نفسها ، فنزلت من القصر متجهة نحو الحديقة في تحامل[/font][font="] [/font][font="]وإعياء شديدين ، وقد ارتدت ثوبا بسيطا من الحريرالأبيض الرقيق ، وشدت خصرها من فوقه[/font][font="] [/font][font="]بمنطقة سوداء منمنمة بنقوش متفرقة من خيوط الفضة ، أما شعرها فقد جمعته تحت شارة[/font][font="] [/font][font="]سوداء من القطيفة السميكة في مثل هيئة طربوش قصير يمتد في طرفيه خيطان من الفضة ،[/font][font="] [/font][font="]وقد أمالت طرفه على جبينها بينما ظل الطرف الآخر مرتفعا عن الصدغ وقد بدا من تحته[/font][font="] [/font][font="]شعرها الفاحم المسترسل[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]ودخلت الحديقة ، وراحت تمشي بين جنباتها ، وهي تقلب نظرها في الطيور التي ترفرف بين[/font][font="] [/font][font="]أغصانها قائلة[/font][font="] :[/font]
[font="] ’’ [/font][font="]أيتها الأطيار السعيدة : كان لي بينكم في هذا الروض طائر مسكين ، أسود الحظ ،[/font][font="] [/font][font="]منكوب الطالع ، وقد غاب عنه منذ دهر وحلق في الجو منطلقا ولم يعد ! أفليس منكم من[/font][font="] [/font][font="]يدري في أي روض استوطن ، وعلى أي غصن أقام عشّه ؟... وهل فيكم من يحدثني عنه ، أهو[/font][font="] [/font][font="]حي لا يزال يخفق بجناحيه ، ويغرد فوق أغصانه أم نكبه الدهر مثلي فطرحه وأضناه[/font][font="] ..[/font][font="]؟؟[/font][font="]‘‘[/font]
[font="] [/font][font="]ثم انتهى بها السير عند شجرة وارفة الظلال . فارتمت عندها ، واستندت إلى جذعها ،[/font][font="] [/font][font="]وراحت تتأمل ما حولها من الأزاهير والورود المختلفة الشكل . ثم ثبتت عيناها على[/font][font="] [/font][font="]وردة صفراء ، وقد تميزت ، عن سائر ما حولها من الورود بصفرتها الفاقعة ، فأثار ذلك[/font][font="] [/font][font="]اللون حسرتها وأيقظ آلامها ... وسرعان ما تخيلتها بائسة أخرى مثلها ، قد اصطبغت[/font][font="] [/font][font="]بتلك الصفرة مما قاسته في هذا الروض[/font][font="] [/font][font="]من الوحدة والوحشة ، ليس من يرحمها ، ولا من[/font][font="] [/font][font="]يرق لها ، فراحت تخاطبها في رقة وحنان[/font][font="] :[/font]
[font="] ’’ [/font][font="]أيتها الوردة الصفراء ، إن اصفرارك هذا والله قد أحزنني .حدثيني ، أهو لون بؤسك[/font][font="] [/font][font="]أنت أيضا أيتها المسكينة أم هو التوجع والرحمة لأمثالي من البائسات ؟ أم هي البلابل[/font][font="] . [/font][font="]قد انشغلت جميعها بورودها الحمراء ، فبقيت وحيدة ليس حولك أي مؤنس أو قرين ؟[/font][font="][/font]
[font="] [/font][font="]آآآه ... إنها قصتي ذاتها أيتها المسكينة .! إن لي أختا من أمثال تلك الورود[/font][font="] [/font][font="]المزدهرة الحمراء ، كان لي عندليب طالما توسلت إليه في إسعادي أنا أيضا به ، ولكنه[/font][font="] [/font][font="]أبى ، وأبعدني عنه ، وسقاني في بعده ذل البؤس والهوان[/font][font="] .‘‘[/font]
[font="] [/font]
[font="] [/font][font="]وكأنما شائت الأقدار رحمة لهذين الحبيبين البائسين في ذلك اليوم الذي انصرفت كل[/font][font="] [/font][font="]الناس فيه من دونهما إلى اللهو والمرح فقررت أن ترأف بهما في ظل هذا الهدوء[/font][font="] . .. [/font][font="]فراحت تلقي في تلك الساعة في روع ذلك العاشق المرتمي منذ حين على فراش المرض ، رغبة[/font][font="] [/font][font="]ملحة في الحركة .. في السير .. السير إلى أيّ جهة[/font][font="] ...![/font]
[font="] [/font][font="]فأخذ يتقلب ممو فترة في فراشه ، وهو لا يدري أي سبب لهذا الباعث المفاجئ في نفسه[/font][font="] . [/font][font="]ثم أزاح عن نفسه الغطاء وأخذ يجاهد جسمه المتعب في القيام من الفراش الذي ظل حينا[/font][font="] [/font][font="]من الدهر ملتصقا بجنبه[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]ثم نهض فارتدى عبائته الرقيقة ، فوق الحلة البسيطة التي كان يلبسها .. وأخذ يمشي[/font][font="] ..[/font]
[font="] [/font][font="]أخذ يمشي في الطريق التي تمتد أمام عينيه ، دون أن يحدد لنفسه أي اتجاه ، ولم يزل[/font][font="] [/font][font="]سائرا في تحامل وجهد إلى أن وجد نفسه بين أسواق المدينة الخالية . فأدرك من الهدوء[/font][font="] [/font][font="]السائد في معظم جهاتها أن الناس قد خرجوا وراء الأمير وصحبه في رحلته إلى الصيد[/font][font="] [/font][font="]للنزهة . ولاحت لعينيه خضرة زاهية في بعض نواحي المدينة فهفت نفسه إلى أن يتوجه[/font][font="] [/font][font="]نحوها ، ويتمم سيره إليها ، دون أن ينتبه إلى تلك الخضرة ماذا تكون ، وفي أي مكان[/font][font="] [/font][font="]تقع[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]وبعد قليل كان ممو يقف في جهد وإعياء أمام حديقة الأمير زين الدين ، ينظر من وراء[/font][font="] [/font][font="]سورها إلى جوها الرائع ، ويتأمل هدوئها الكامل ، وخلو جنباتها عما سوى الطيور[/font][font="] . [/font][font="]ووجد في نفسه بعد ذلك النصب الشديد الذي لاقاه شوقا قويا إلى أن يستريح قليلا في[/font][font="] [/font][font="]فيئ شجرة من أشجارها . فمضى متجا نحو بابها المؤدي إلى الداخل ، وقد كاد يسقط من[/font][font="] [/font][font="]الإعياء[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]ولم تكن سوى دقائق حتى لاح لعيني زين - وهي لا تزال في مكانها عند ساق الشجرة - شبح[/font][font="] [/font][font="]ممو على البعد ، قادما من بين الأغصان ..! وكانت المفاجأة شديدة على نفسها[/font][font="] ... [/font][font="]وكانت الفرحة أكبر من قلبها .. فما إن أخذت تحدق النظر فيه لتتأكد أهو خيال من[/font][font="] [/font][font="]خيالات أوهامها ، أم معجزة حققها الله لها ، حتى غرب عنها الإحساس وطمت عليها[/font][font="] [/font][font="]الدهشة ، ووقعت مغمى عليها ببين تلك الحشائش والأشجار[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]أما ممو فإنه أخذ يسير مستروحا ظلال تلك الخميلة البديعة التي طالت غيبته عنها دون[/font][font="] [/font][font="]أن يدرك شيئا مما حوله . وكان أول ما انتبهت إليه عيناه في سيره تلك البلابل التي[/font][font="] [/font][font="]لا تفتأ تتنقل بين أغصان الورود في تغريد لا ينقطع . فراح يتأمل فينة وهو يقول[/font][font="] :[/font]
[font="] -’’ [/font][font="]فيم كل هذا الهلع أيها الطائر الصغير ؟ إن وردتي التي شغفت بها أزهى من ورودك[/font][font="] [/font][font="]جمالا ، والحظ الذي نكبت به أشد من حظك سوادا ومع ذلك فها أنا أذوب وجدا ولا يسمع[/font][font="] [/font][font="]مني أي نحيب أو صوت[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]أيها الطائر ، لقد كان جديرا بك أن تتألم وتتوجع لو أن رياض الدنيا ليس في جميعها[/font][font="] [/font][font="]إلا وردة واحدة ، كما هو الشأن معي أما وإنه ليس من هذه الأزهار في أي روضة من[/font][font="] [/font][font="]الرياض أو إلى جانب أي غدير من الغدران ، أو في أي سفح من سفوح هذه الجبال ، فليس[/font][font="] [/font][font="]التعلق بها موجبا لأي قلق أو شوق إلى هذا الحد[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]ولكن قي لي ماذا يصنع وبم يتأسى ذلك الطائر الذي تولّله بوردة لم تجد الدنيا بمثلها[/font][font="] ! [/font][font="]ثم حرمه الدهر من قربها ، وأبعده حتى عن روضها ، وتركه وحيدا في قفص الوحشة[/font][font="] [/font][font="]والأحزان ؟[/font][font="] ‘‘.[/font]
[font="] [/font][font="]وهكذا ظلت أفكار ممو وهو يمشي في وسط الحديقة منصرفة إلى مثل هذه الأحاديث مع كل ما[/font][font="] [/font][font="]يبصره من حوله من الأطيار والورود والأعصان ، إلى أن وجد نفسه فجأة أمام جثة فتاتة[/font][font="] [/font][font="]ممتدة فوق تلك الحشائش ، ولم يكد ينتبه إليها ، ويمعن النظر ليتبينها حتى دارت[/font][font="] [/font][font="]الأرض من حول رأسه دورة بددت كل ذرات شعوره ، وألقته في يم من الغشية والنسيان ،[/font][font="] [/font][font="]وهوى صريعا على مقربة من جثة زين[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]وشيئا فشيئا أخذت زين تستفيق من غشيتها لترى ممو الذي أبصرته يمشي في الحديقة منذ[/font][font="] [/font][font="]قليل ملقى إلى جانبها . فعادت إليها الدهشة والذهول . وأخذت تحدق النظر في كل ما[/font][font="] [/font][font="]حولها .. في جدول الماء الذي ينساب أمامها ، في الورود التي إلى جانبها ، في ممو[/font][font="] [/font][font="]وهيأته ، كأنما تتسائل أهي في حلم من الأحلام أم إنها حقيقة واقعة صحيحة ..؟[/font][font="][/font]
[font="] [/font][font="]ثم استعادت كامل رشدها .. وأيقنت أنها نعمة ورحمة من الأقدار التي أرادت أن تسعدها[/font][font="] [/font][font="]في هذا اليوم .. ودنت لأول مرة بعد يوم مهرجان الربيع إلى حبيبها الملقى إلى جانبها[/font][font="] [/font][font="]، فاخذت تلحظه بعينيها الفاتنتين ، وقد عاد إليهما إشعاعهما بعد أن اختفى عنهما[/font][font="] [/font][font="]حينا من الدهر . ثم رفقعت رأسه بيمينها في رفق ، ومدت ركبتها من تحته ، وأسندته[/font][font="] [/font][font="]إليها ، وراحت تحاول في رقة ولطف إيقاظه من غمرته . وبعد فترة من الوقت تفتحت عيناه[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]فتح عينيه .. فرأى رأسه فوق ركبة حبيبته زين ... ورأى أجمل وجه في الدنيا يطل عليه[/font][font="] [/font][font="]بثغر باسم وعين دامعة ورأى يمينها ممتدة فوق صدره الخفاق في حنو[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]ورفع رأسه .. وأخذ يجيل النظر فيها .. وفي نفسه .. وفي سائر ما حوله .. دون أن يدور[/font][font="] [/font][font="]لسان أحدهما بكلمة . هذا أسكتته الدهشة .. وتلك عقد لسانها الحياء .. ثم أمعن ممو[/font][font="] [/font][font="]في وجه ’’ زين ‘‘ قائلا[/font][font="] :[/font]
[font="] ’’ [/font][font="]ماذا ..؟ ألست أنت زين ..؟ ألست أنت قلبي .. قلبي الذي فقدته من بين جنبي ؟ ولكن[/font][font="] .. [/font][font="]أتراني في منام رائع .. أم نحن في الحياة الأخرى ..؟ في جنان الخلد[/font][font="] !! ‘‘ [/font]
[font="] [/font][font="]فقالت له زين وقد أخذت كفه في كفها ، كيما يؤوب إليه رشده[/font][font="] :[/font]
[font="] ’’ [/font][font="]بل أنا زين بحقيقتها يا حبيبي . ونحن هنا في الحديقة ، حديقة قصرنا ألست تذكر[/font][font="] .‘‘[/font]
[font="] [/font][font="]وأخذ انتباه ممو يتكامل بعد أن انتهى إلى سمعه صوت زين الرقيق العذب ، وآمن[/font][font="] [/font][font="]بالحقيقة .. وعلم أنها الساعة التي طالما استرحم الزمان بدموعه أن يحقق لحظة منها ،[/font][font="] [/font][font="]وعاد ينظر إلى زين من جديد . وأخذ يسرح النظر في عينيها الساجيتين اللتين تنظران[/font][font="] [/font][font="]إليه بفتنة مبتسمة مستسلمة كأنما تقول :’’ إن هاتين العينين من أجلك ...‘‘ وفي[/font][font="] [/font][font="]ثغرها الرقراق البديع ، وفي ملامح وجهها التي تشع بكل ما في روحها من جمال ولطف ،[/font][font="] [/font][font="]وفي شعرها الفاحم المسترسل حول وجهها من تحت الشارة المائلة على جبينها[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]وسكت ... ثم قال لها في نشوة حالمة : ’’ أنت والله جميلة جدا ورائعة يا زين[/font][font="] ‘‘ .. [/font][font="]فأجابته : ’’ أنت كل جمالي وسحري وروعتي يا ممو . فها أنت ترى كيف فقدت كل ذلك مذ[/font][font="] [/font][font="]فقدتك فلا تبحث فيّ اليوم عن شيء من ذلك الجمال الذي أسكرك منذ أول ما التقينا[/font][font="] ...‘‘[/font]
[font="] [/font][font="]فدنا منها قائلا[/font][font="] :[/font]
[font="] ’’ [/font][font="]لا يا زين . إنك اليوم والله لأجمل مما كنت من قبل . وها أنا ذا ألمح بين أيات[/font][font="] [/font][font="]هذا الجمال سطورا جديدة لم تكن . عيناك ... إن فيهما أسمى مما يقال عنه الفتنة[/font][font="] [/font][font="]والسحر . فيهما معنى رائع ، احتارت في معرفته روحي ، فكيف يستطيع التعبير عنه لساني[/font][font="] ..[/font][font="]؟ ثغرك ... إن خمره اليوم لتبدو أشد إسكارا ، وابتسامته أكثر فتنة وجمالا . أما[/font][font="] [/font][font="]هذا الذبول المتهدل على ملامحك فليس إلا آية جديدة بين آيات هذا الجمال الساحر ،[/font][font="] [/font][font="]ولست أجده في استرخائه ملامح وجهك البديع كالأهداب الناعسة ، إذ تسترخي على العينين[/font][font="] [/font][font="]الفاتنيتين[/font][font="] ...‘‘[/font]
[font="] [/font][font="]وقطع حديثة فجأة .. كأنما أسكتته وخزة أليمة شعر بها في نفسه ، ثم أطرق يقول في[/font][font="] [/font][font="]هدوء محدثا نفسه[/font][font="] :[/font]
[font="] ’’ [/font][font="]ولكن مالي ومال الحديث عن الجمال الذي لم أصل إليه ولن أملك منه شيئا ، ما لي[/font][font="] [/font][font="]وأنا المسكين الذي قضت عليه الأقدار بالحرمان ، أتطاول بهذا الكلام إلى البدر الذي[/font][font="] [/font][font="]لست أهلا للصعود إليه ؟ لي أن أتوسد البيداء التي أتيت منها ، أما هذا الروض فإن له[/font][font="] [/font][font="]أهله الذين سيجلسون فيه ويستمتعون به[/font][font="] ..‘‘[/font]
[font="] [/font][font="]ثم قطعت غصة البكاء حديثه ، وراح يجهش في بكاء حار أليم ! وامتد لهيب دموعه إلى قلب[/font][font="] [/font][font="]زين فأخذت بكف ممو تبلله بدموعها قائلة[/font][font="] :[/font]
[font="] ’’ [/font][font="]أقسم يا ممو بالدموع التي أحييت بها الليالي السود ، وبالزفرات التي أذبت فيها[/font][font="] [/font][font="]بهائي الذي أعجبت به ، وبالخلوات التي لم يكن يترائى لي فيها سوى رسمك ، أنني لن[/font][font="] [/font][font="]أعوّض عنك إلا بوحشة القبر ، ولن يعانقني من بعدك إلا شبح الموت ، وسأكون وقفا من[/font][font="] [/font][font="]أجلك ، فإما أن يكون وصالنا في هذه الدنيا ، وإما في الحياة الآخرة[/font][font="] ...‘‘[/font]
[font="] [/font][font="]ثم أنهما خشيا أن تلمحهما عين أو تسمع حديثهما أذن في ذلك المكان . فقاما ، واتجها[/font][font="] [/font][font="]إلى قاعة الحديقة التي كانت مقامة في وسطها . وهناك جلسا يتواسيان .. ويشرحان[/font][font="] [/font][font="]الهموم والأحزان .. ويتشاكيان من فتنة الدهر وأهله .. وراح بهما ذلك الحديث واللقاء[/font][font="] [/font][font="]في نشوة حالمة أسكرتهما عن الدنيا وما فيها[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font]
[font="] [/font]
[font="] [/font]
[font="] [/font][font="]الوفاء[/font][font="][/font]
[font="] [/font]
[font="] [/font][font="]انتهت الشمس إلى مغيبها ، وعادت فلول الناس الذين كانوا غائبين في الرياض إلى[/font][font="] [/font][font="]بيوتهم ، ودبت الحياة في المدينة ثانية بعد الوجوم الطويل ، والحبيبان السعيدان لا[/font][font="] [/font][font="]يزالان في مجلسهما ذاك ، منتشيين بخمر اللقاء ، وغاب عن فكرهما معنى الزمن وحدوده[/font][font="] [/font][font="]فلا يشعر أحدهما منه بشيء[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]وعاد الأمير وصحبه من الصيد .. وجاءوا يؤمون الحديقة ليطلقوا في أنحائها ما صادوه[/font][font="] [/font][font="]من الغزلان والخشاف ونحو ذلك ... وامتلأت الحديقة بالناس .. وثارت الأصواتوالضجة في[/font][font="] [/font][font="]كل جهاتها ، والحبيبان لا يزالان في غشية تامة عن كل ما يطوف حولهما[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]وأحس الأمير وهو واقف مع صحبه فيإحدى جهات الحديقة بالتعب يسري في مفاصله ، وشعر[/font][font="] [/font][font="]بالحاجة إلى أن يستريح مع صحبه قليلا فتوجهوا حميعا وفيهم تاج الدين وشقيقاه وبكر[/font][font="] [/font][font="]إلى القاعة .. القاعة التي لا يزال ممو وزين يتبادلان فيغبش ظلامهما حديث الحب في[/font][font="] [/font][font="]ذهول عن كل شيء . ولم يستيقظا من نشوتهما تلك إلا حينما داهمتهما الأشباح .. وأغلقت[/font][font="] [/font][font="]أمام عينيهما فضاء باب القاعة[/font][font="] ...![/font]
[font="] [/font][font="]هنالك انتبه كل منهما إلى ما حوله .. وأسقط في أيديهما[/font][font="] ...[/font]
[font="] [/font][font="]وهنالك .. لم يكن من زين إلا أن اندست تحت عباءة ممو وتضائلت خلفه . بينما دخل[/font][font="] [/font][font="]الأمير الفاعة ، ومن خلفه جماعته ، ليجدوا شبحا منزويا في ركن من أركانها وسط ذلك[/font][font="] [/font][font="]الغبش من الظلام ...! فصرخ الأمير فيه قائلا[/font][font="] :[/font]
[font="] ’’ [/font][font="]من هذا القابع هنا ، وسط هذه الظلمة ، من غير أي رخصة أو استئذان ...؟[/font][font="]‘‘[/font]
[font="] [/font][font="]فاستجمع ممو جرأته ، ثم قال ، دون أن يتحرك من مكانه[/font][font="] :[/font]
[font="] ’’ [/font][font="]أنا ممو يا مولاي الأمير ... لم يكن يخفى على مولاي أنني كنت أعاني إلى هذا[/font][font="] [/font][font="]اليوم مرضا شديدا أقعدني فيالفراش ، مما منعني عناللحوق بركب مولاي إلى الصيد . غير[/font][font="] [/font][font="]أنه أدركتني في هذه الأمسية وحشة الإنفراد ، فغادرت الفراش لأمشي قليلا .. ووجدتني[/font][font="] [/font][font="]أمام هذه الحديقة .. فاشتهيت الراحة فيها بضع دقائق[/font][font="] ..‘‘[/font]
[font="] [/font][font="]فقال له الأمير ، وهو يتوجه إلى الركن الأعلى في المكان ليجلس فيه[/font][font="] :[/font]
[font="] ’’ [/font][font="]حسنا . وكيف حالك اليوم ...؟ وهلا أسرجت لنفسك ...؟؟[/font][font="] ‘‘ [/font]
[font="] [/font][font="]فقال : ’’ لو وجدت في نفسي الطاقة إلى ذلك لقمت بواجب التحية .. ونهضت من مكاني[/font][font="] [/font][font="]لقدوم مولاي .. ولكن أرجو أن يعذرني ويعفو عن تقصيري[/font][font="] ..‘‘[/font]
[font="] [/font][font="]وأسرج المكان وجلس القوم .. وأخذ تاج الدين يلحظ ممو من مكانه في المجلس ، ويقرأ في[/font][font="] [/font][font="]وجهه وفي هيأة جلوسه وجمودها دلائل ارتباك لم ينتبه غيره إليها ، إذ كان هو الوحيد[/font][font="] [/font][font="]الذي يدري سر قلبه وآلام نفسه ، وساوره القلق .. وتطلعت نفسه إلى نعرفة السر[/font][font="] [/font][font="]الحقيقي لجلوس ممو هنا ... في هذا الوقت ... بهذا الشكل !! فانتهز فرصة طلب الأمير[/font][font="] [/font][font="]كأسا من الماء بينما راحت عيناه تسألانه عن حكايته وسره .. فلم يكن من ممو إلا أن[/font][font="] [/font][font="]مد يده في هدوء إلى داخل العبائة ، وأخرج له طرفا من ضفيرة زين يريه إياها[/font][font="] ..[/font]
[font="] [/font][font="]فرفع تاج الدين رأسه وقد أذهله الأمر .. وأدرك أن خليله بين يدي كارثة قريبة .. ما[/font][font="] [/font][font="]من ريب فيأنها ستأتي على حياته . وأخذ حاول السيطرة والضغط على أعصابه ليتصنع[/font][font="] [/font][font="]الهدوء اللازم ، بينما راح عقله يبحث في ثورة لاهبة عن أي وسيلة لإنقاذ حياة صديقه[/font][font="] [/font][font="]من فاجعة محققة[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]ولاحت لذهنه الفكرة ... فكرو واحدة لم يجد أمامه سواها فتظاهر في لباقة بالحاجة إلى[/font][font="] [/font][font="]الإختفاء قليلا في بعض جهات القصر . وما هو إلا أن انثنى خلف باب القاعة حتى أسلم[/font][font="] [/font][font="]ساقيه إلى الريح متجها نحو داره[/font][font="] ..![/font]
[font="] [/font][font="]ودخل الدار لاهثا ، وعلى ملامح وجهه ثورة كالجنون . فاستقبلته زوجته في رعب شديد[/font][font="] [/font][font="]ودهشة قائلة[/font][font="] :[/font]
[font="] ’’ [/font][font="]ماذا . ..ماذا حدث هل هناك أي عدو ؟[/font][font="]! ‘‘[/font]
[font="] [/font][font="]فأجابها بصوت خافت كي لا يسمعه أحد وهو يسرع إلى الداخل[/font][font="] :[/font]
[font="] ’’ [/font][font="]عليك أن تسرعي بإنقاذ طفلك وما خف حمله من هنا . أما أنا فيجب أن أبادر إلى[/font][font="] [/font][font="]إحراق هذا القصر[/font][font="] ..! ‘‘[/font]
[font="] [/font][font="]ثم تابع حديثه وهو في عجلة مضطربة نحو مكان الوقود قائلا[/font][font="] :[/font]
[font="] ’’ [/font][font="]إن ممو و زين واقعان تحت ورطة عظيمة ، في انتظار كارثة محققة توشك أن تقع بهما[/font][font="] . [/font][font="]ولا بد أن أسرع في مسابقة هذه الكارثة لأقضي عليها قبل أن تقضي هي عليهما[/font][font="] ..‘‘[/font]
[font="] [/font][font="]ثم راح يشعل النار في أثاث ذلك القصر الرائع وجنباته بسرعة ثائرة وهو يقول[/font][font="] :[/font]
[font="] ’’ [/font][font="]لقد ظل الناس يطفئون النار بالماء ، ولكن ها أنا اليوم سأطفى النار بالنار[/font][font="] ...‘‘[/font]
[font="] [/font][font="]وفي مثل غمضة عين انطلقت ألسنة اللهب تتصاعد من نوافذ ذلك الصرح الذي شيده تاج[/font][font="] [/font][font="]الدين على أحسن ما تخيلته أحلام حبه جمالا وبذخا وإتقانا ، وأخذت النيران تسري في[/font][font="] [/font][font="]ذلك الأبنوس المنقوش والأثاث الرائع ، في سبيل إنقاذ صديقه .. والوفاء له[/font][font="] ..![/font]
[font="] [/font][font="]وانطلق تاج الدين يستنجد .. وراح الخبر يسري في كل مكان .. وسرعان ما وصل النبأ إلى[/font][font="] [/font][font="]الأمير وصحبه وهم في مجلسهم ذلك .. فهبوا جميعا في اندفاع وذهول يسرعون إلى النجدة[/font][font="] [/font][font="]والإطفاء .. بينما تباطأ ممو في مجلسه إلى أن خلت القاعة تماما .. وهناك تنفس[/font][font="] [/font][font="]الصعداء والتفت إلى زين قائلا[/font][font="] :[/font]
[font="] ’’ [/font][font="]أرأيت كيف ضحى تاج الدين بقصره من أجل إنقاذنا ؟! والآن وداعا يا زين .. فعلي أن[/font][font="] [/font][font="]أدرك القوم لإطفاء هذه النار ، أما أنت فينبغي أن تسرعي الآن وتعودي إلى القصر[/font][font="] ...‘‘[/font]
[font="] [/font]
[font="] [/font]
[font="][/font][font="]عودة الفتنة[/font]
[font="] [/font]
[font="] [/font][font="]لم يكن سلطان الحب يوما ليجلس فوق عرش القلوب من وراء الستر المرخاة والحجب المسدلة[/font][font="] . [/font][font="]وليطل وقت اختفائه عن الأنظار والأسماع مهما طال ، فلا بد أخيرا أن يهتك كل ما[/font][font="] [/font][font="]يحيط به من حجب ، ولا بد أن يتراءى أمام الناس في جبروته القوي ، وسلطانه القاهر ،[/font][font="] [/font][font="]ولا بد أخيرا أن يعلن عن نفسه وعن شوكته سواء أرضي الناس أم غضبوا[/font][font="] ...[/font]
[font="] [/font][font="]ولقد استطاع ممو وزين حينا من الزمن أن يخفيا عن الناس سريرة حبهما ، وأن يحجبا[/font][font="] [/font][font="]عنهم جبروت هذا السلطان الذي يتحكم في قلب كل منهما من غير رحمة ، ولكن هذه الطاقة[/font][font="] [/font][font="]لم تدم لهما طويلا .. فسرعان ما هتك من حول قلبيهما الستر ، وانترثرت مدامعهما بين[/font][font="] [/font][font="]أبصار الناس ، وراحت الألسن تتحدث عن حبهما ، وتتخذ من خبرهما لحنا يسري إلى كل[/font][font="] [/font][font="]مكان ، وينتهي إلى سمع السادة والعبيد ، وراحت التعليقات المتخيلة تنسج حول ذينك[/font][font="] [/font][font="]المسكينين البريئين اللذين لم يذوقا من الحب إلا صابه وعلقمه أقاويل كاذبة . وتسرب[/font][font="] [/font][font="]الخبر إلى ’’ بكر[/font][font="] ‘‘ .[/font]
[font="] [/font][font="]تسرب الخبر أيضا إلى سمع هذا الحبيث ، فراح يلفقه ويجمع خيوطه ويجري وراء الإيضاحات[/font][font="] [/font][font="]اللازمة له . وفي يوم ما كان قد انتهز الفرصة ، وراح ينشر كل ما سمعه من الأفواه ،[/font][font="] [/font][font="]وتلقفه من المجالس بين يدي الأمير وسمعه[/font][font="] ...![/font]
[font="] [/font][font="]فثار جنون الأمير - ويا لجنون الأمراء حين يثور - واشتعل الدم لهيبا في كل جسمه ،[/font][font="] [/font][font="]وراحت عيناه المتألقتان تشعان بشرر يكاد يحرق ما حوله ، وقام يذرع المكان الذي ليس[/font][font="] [/font][font="]فيه إلا هو وذلك الخبيث جيئة وذهابا ، وتقلبت على ذهنه المستعر أفكار جهنمية شتى[/font][font="] . [/font][font="]فقد كان يدفعه الغيظ مرة إلى أن ينطلق من توِّه بنفسه إلى حيث يجد ممو منفردا فيطير[/font][font="] [/font][font="]رأسه ، ثم يعود دون أن يعلم بالأمر أحد ، ويدعوه جنونه أخرى إلى أن يعلنها حربا[/font][font="] [/font][font="]لاهبة على ممو وصاحبه تاج الدين وكل أعوانهما[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]ولكنه عاد أخيرا ، فتذكر أن هذا الذي يخبره بهذا النبأ حاجب حقير فتان . لا يستأهل[/font][font="] [/font][font="]إثارة غضبه قبل أن يتريث ويتحقق . فنظر إليه وقد راحت عيناه تنفجران بكل تلك الثورة[/font][font="] [/font][font="]والغضبة عليه وحده قائلا[/font][font="] :[/font]
[font="] ’’ [/font][font="]يبدو أيها الحقير الوغد ، أنه يعجبك كثيرا منظر الدماء المسفوكة ..! ولكن إعلم[/font][font="] [/font][font="]أن هذه الدماء لن تسفك إلا من مذابحك ، إن لم تخلق أمامي البرهان القاطع لهذا الذي[/font][font="] [/font][font="]تقول[/font][font="] ‘‘.[/font]
[font="] [/font][font="]فجمدت ملامح بكر قليلا ، وزاغ عقله من صدمة ذلك التهديد .. ثم عاد فتمالك رشده[/font][font="] [/font][font="]قائلا[/font][font="] :[/font]
[font="] ’’ [/font][font="]يستطيع مولاي أن يتحقق من هذا الذي أقول إذا دعا ممو إلى مبارزة بالشطرنج الذي[/font][font="] [/font][font="]يفتخر بالمهارة في لعبه . وليكن الشرط بينه وبين مولاي أن يحقق المغلوب للغالب كل[/font][font="] [/font][font="]ما يقترحه ويتمناه . فسوف يضطر إلى كشف ذات نفسه وعشقه للأميرة زين سواء أصبح غالبا[/font][font="] [/font][font="]أم مغلوبا عندما يطلب منه مولاي ذلك[/font][font="] ..‘‘[/font]
[font="] [/font][font="]فأعجب الأميربهذا الرأي .. وسرعان ما التفت فدعا خدمه ، وأمرهم بإعداد القاعة[/font][font="] [/font][font="]الكبرى - وهي القاعة التي كان يتخذ فيها مجلسه للهو والمرح - وتهيئتها لسمر حافل[/font][font="] [/font][font="]تلك الليلة ، بينما بعث بعض غلمانه الآخرين وراء ممو ليأتوه به ، ويبلغوه دعوة[/font][font="] [/font][font="]الأمير له للحضور إلى سمر في القصر[/font][font="] ...[/font]
[font="] [/font][font="]وراح الأمير ينتظر .. وفي قلبه مثل الجمر اللاهب ، ودمه يغلي في رأسه . إنه في ظمأ[/font][font="] [/font][font="]شديد إلى أن يعرف .. إلى أن يعرف حقيقة هذه العاصفة التي نقلها له بكر ، لكي يشفي[/font][font="] [/font][font="]بعد ذلك غيظه ، ويتصرف في الأمر على النحو الذي يشاء[/font][font="] ...[/font]
[font="] [/font][font="]وجاء المساء . وهيئ مجلس الأمير كما أراد .. ووضعت منضدة الشطرنج المرصعة بالذهب في[/font][font="] [/font][font="]وسط المكان ، وقد صفت من فوقها أحجارها العاجية النادرة . وامتلأت القاعة بالخاصة[/font][font="] [/font][font="]من حاشية الأمير ورجاله ، إلا تاج الدين وشقيقيه ، فقد تعمد الأمير أن لا يبعث[/font][font="] [/font][font="]ورائهم . وغصت سائر أطرافها بالحرس والخدم ، واقفين على أرجلهم صفوفا في أحسن[/font][font="] [/font][font="]لباسهم وكامل أسلحتهم[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]ودخل الأمير . وهب المجلس قائما ، بينما راح هو يأخذ طريقه إلى الأريكة المقامة له[/font][font="] [/font][font="]في صدر المجلس . وجلس الأمير .. وسكت الحاضرون .. وأخذ يقلب عينيه فيهم في هدوء[/font][font="] [/font][font="]ورهبة إلى أن وقع بصره على ممو ، فمد إليه رأسه وقد إتكأ على جانب من أريكته قائلا[/font][font="] :[/font]
[font="] ’’ [/font][font="]سمعنا أنك تزعم لنفسك مهارة في لعب الشطرنج يا ممو . فهل[/font][font="] [/font][font="]لك أن تعرض أمامنا[/font][font="] [/font][font="]الليلة مهارتك هذه ، وتقوم لنا بالمبارزة والنضال[/font][font="] .‘‘[/font]
[font="] [/font][font="]فأجاب ممو في هدوء ، وقد أدهشته القسوة التي شعر بها في نبرات كلامه : ’’ لم يكن لي[/font][font="] [/font][font="]يوما ما أدعي يا مولاي أمامكم هذه المهارة ، ولكن لمولاي السمع والطاعة إذا أمرني[/font][font="] [/font][font="]بما شاء[/font][font="] ‘‘.[/font]
[font="] [/font][font="]فنهض الأمير إلى منضدة الشطرنج يشيرإليه ، قائلا[/font][font="] :[/font]
[font="] ’’ [/font][font="]بل قم .. فإن بيننا وبينك الليلة حربا لا بد أن تتقدم إليها[/font][font="] ...‘‘[/font]
[font="] [/font][font="]وقام ممو من مجلسه وقد أوجس خيفة في نفسه .. فجلس تلقاء الأمير ومن بينهما المنضدة[/font][font="] . [/font][font="]وقبل أن يبدأ باللعب قال له الأمير[/font][font="] :[/font]
[font="] ’’ [/font][font="]إن الشرط الذي بيننا وبينك هو أنه يجب على الطرف المغلوب ثلاث مرات أن يحقق كل[/font][font="] [/font][font="]ما يقترحه الطرف الغالب ويتمناه[/font][font="] ‘‘[/font]
[font="] [/font][font="]وكان في المجلس ابن شاب للأمير يخلص الود لممو اسمه ’’ كركون ‘‘ ولم يكن يخفى عليه[/font][font="] [/font][font="]ما بينه وبين عمته زين من الحب .. وقد ألم بطرف مما في نفس أبيه من الموجدة عليه ،[/font][font="] [/font][font="]وخشي أن ينتهي ذلك المجلس بأي عقاب أو بلاء ينزل بممو . فتسلل من قصره ، وانطلق[/font][font="] [/font][font="]متوجها إلى تاج الدين يخبره بالأمر ، كيما يحضر ليهون الأمر إذا حدث شيء ، بما له[/font][font="] [/font][font="]من قرب إلى الأمير[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]ولم تكن سوى دقائق حتى كان كل من تاج الدين وجكو وعارف قد اتخذ مكانه في ذلك المجلس[/font][font="] [/font][font="]، يترقبون ما سيحدث[/font][font="] ...[/font]
[font="] [/font][font="]وتغلب ممو على الأمير مرتين متواليتين .. وأخذا يبدآن بالمرة الثالثة وقد أعجب[/font][font="] [/font][font="]الأمير بدهائه ومهارته ، وبدا على وجه ممو وهو منكب على اللعب في استغراق شديد[/font][font="] [/font][font="]إشراق واضح من الأمل والسرور[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]بينما راح بكر الذي كان يرمقه من بعيد ، يطوف حول نفسه في قلق بحثا عن أي حيلة[/font][font="] [/font][font="]يتعثر بها ممو عن التغلب على الأمير في هذه المرة . إذ لا شك أن نجاحه يعني ضرورة[/font][font="] [/font][font="]وفاء الأمير له بالوعد ، وذلك يعني زواج ممو من زين[/font][font="] ...[/font]
[font="] [/font][font="]وفي تلك الأثناء لمح بكر زينا واقفة مع فتيات من القصر أمام النافذه المطلة من أعلى[/font][font="] [/font][font="]جدار القاعة المقابل لظهر ممو ، ترقب اللعب باهتمام .. فالتفت إلى الأمير قائلا[/font][font="] :[/font]
[font="] ’’ [/font][font="]ولكن كان على مولاي أن يستبدل المكان من خصمه بين حين وآخر كما هو الشأن في[/font][font="] [/font][font="]اللعب[/font][font="] ...‘‘[/font]
[font="] [/font][font="]فنهض كل من المتبارزين ، واستبدلا مكانيهما دون أن يدرك أحد الحيلة التي استهدفها[/font][font="] .. [/font][font="]وما إن مرت لحظات حتى انخطفت عينا ممو إلى أعلى جدار القاعة الذي يقابله ، ليجد[/font][font="] [/font][font="]زينا واقفة أمامه ترمقه[/font][font="] [/font]
[font="] [/font][font="]وهنالك تشتت ذهنه ، وعبثا راح يحاول جمع فكره والتغلب على الأمير كانت عيناه لا[/font][font="] [/font][font="]تنفكان عالقتين بالاعلى ، ويده تعثو بالعساكر والفرسان من غير هدى ، يفدي الجنود[/font][font="] [/font][font="]مرة بالخيول ، ويخلط أخرى بين الفيل والوزير وكانت النتيجة أن تغلب الأمير عليه خمس[/font][font="] [/font][font="]مرات متواليات وختم اللعب على ذلك[/font][font="] ! [/font]
[font="] [/font][font="]وعاد الأمير إلى مكانه وقد غشي ممو الخجل والحياء فنظر إليه قائلا[/font][font="] :[/font]
[font="] ’’ [/font][font="]إيه أنسيت الشرط يا ممو ؟[/font][font="]‘‘[/font]
[font="] [/font][font="]فأجابه ممو وقد توزعت أحساسيسه بين الغضب من المكيدة التي انتبه إليها والخجل من[/font][font="] [/font][font="]الإخفاق الذي انتهى إليه[/font][font="] :[/font]
[font="] ’’ [/font][font="]لا ...فليتفضل مولاي بالأمر بما أشاء[/font][font="] .. ‘‘[/font]
[font="] [/font][font="]فقال له الأمير :’’ إنك لست تجهل أننا لن نطلب منك مالا تغنينا به ، أو جاها ترفعنا[/font][font="] [/font][font="]إليه . و إنما يعنينا أن نعرف السرائر ... فحدثنا عن قلبك . قل لنا من هي التي تكن[/font][font="] [/font][font="]لها حبا ، وتمني شبابك بها ، كي ننظر .. فإن كانت لائقة لك ، حاولنا إسعادك بها[/font][font="] ...‘‘[/font]
[font="] [/font][font="]فأطرق ممو قليلا ، كأنما أخذت نفسه تحوم حول تفسير هذه الكلمات التي ألقيت إليه[/font][font="] . [/font][font="]وانتهز بكر فرصة هذه الإطراقة منه ، فقال[/font][font="] :[/font]
[font="] ’’ [/font][font="]يا مولاي : يبدو أن ممو خجل من أن يكشف للأمير النقاب عن تلك التي يهواها . فلقد[/font][font="] [/font][font="]كنت رأيتها مرة ، وعلمت أنها جارية سوداء معيبة ، لا يليق أن يتحدث عنها في مجلس[/font][font="] [/font][font="]الأمير[/font][font="] ...‘‘[/font]
[font="] [/font][font="]فأثار هذا الكلام غضب ممو ، والهبته حميته وإبائه ، وأخذ ينبض في مشاعره عرق العزة[/font][font="] [/font][font="]والمجد . وأسكرت الطعنة عقله . فنسي الأمير الذي أمامه ، والناس الذين من حوله ،[/font][font="] [/font][font="]وانتفض منتشيا يقول لبكر[/font][font="] :[/font]
[font="] [/font][font="]كذبت والله أيها الحقير النذل ، فما تلك الصفة إلا قرينة خستك ، وكفؤ دنائتك . أما[/font][font="] [/font][font="]التي عندها قلبي ، فرفيعة المجد ، ليس لذلك البدر أن يتسامى إليها ، رائعة الجمال ،[/font][font="] [/font][font="]لا تبلغ الشمس أن تكون أختا لها ... أصيلة النسب ليس لغيرها في هذه البلاد أن[/font][font="] [/font][font="]ينازعها فخر ذلك . إنها أكمل أنثى أبدعتها يد الخلاق[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]إنها ... إنها أميرة هذه الجزيرة[/font][font="] ...! ‘‘ [/font]
[font="] [/font][font="]وما كاد أن يطلق هذه الكلمة الأخيرة من فمه حتى قاطعه الأمير وقد صوب نحوه فوهة[/font][font="] [/font][font="]الغضب قائلا[/font][font="] :[/font]
[font="] ’’ [/font][font="]ولأجل ذلك ، فأنت لا تخجل من استطالتك إلى تلك المكانة بالغرام بها ، مدنسا[/font][font="] [/font][font="]بدنائتك قصري هذا ...؟[/font][font="]‘‘[/font]
[font="] [/font][font="]ثم التفت إلى الحرس الواقفين على الأبواب وصرخ فيهم قائلا[/font][font="] :[/font]
[font="] ’’ [/font][font="]ما وقوفكم وانتظاركم بعد هذا ؟ هيا .. فاقطعوا الرأس الذي تطاول فيه هذا اللسان[/font][font="] [/font][font="]فقد آن أن يعتبر بع غيره[/font][font="] ...‘‘[/font]
[font="] [/font][font="]وقبل أن ينقض الحرس على ممو ، هب من عرض المجلس ثلاثة أبطال أشقاء ، كل منهم هامة ،[/font][font="] [/font][font="]وساعد ، وقامة ..! وقد ظهر في يمين كل منهم خنجر يلتهب . وراح أوسطهم وهو تاج الدين[/font][font="] [/font][font="]يصعق في أولئك الشرطة الذين بادروا إلى ممو .. قائلا[/font][font="] :[/font]
[font="] ’’ [/font][font="]مكانكم أيها الاوغاد ، فلستم سكارى ولا مجانين حتى تتجاهلو بطشنا ! أم أنكم[/font][font="] [/font][font="]نسيتم ذلك الكثير الذي لاقيتموه من أيدينا ...؟[/font][font="][/font]
[font="] [/font][font="]ربما تستطيعون أن تصلوا إلى ممو ، ولكن بعد أن نحقن ما حوله بلجة من دمائكم ،[/font][font="] [/font][font="]وتتخذوا إليه جسرا من مئات منكم[/font][font="] ..‘‘[/font]
[font="] [/font][font="]ثم دار رأسه نحو الأمير ، يرمقه بطرف عينه قائلا[/font][font="] :[/font]
[font="] ’’ [/font][font="]أما مولانا الامير .. فله إذا شاء التصرف أن يتصرف فيما يريد بنفسه .. فإن له في[/font][font="] [/font][font="]أيدينا قيودا من نعمته وسلطانه ... قد لا يكون من المناسب أن ننكرها[/font][font="] ..‘‘[/font]
[font="] [/font][font="]وبعد قليل نهض الأمير بنفسه إلى ممو فقيد يديه ، وأمر به إلى السجن ..! وسكت تاج[/font][font="] [/font][font="]الدين وشقيقاه وقد تجرعوا غصة السم نزل إلى قلوبهم . ولكنهم لم يجدوا من الحكمة[/font][font="] - [/font][font="]وقد نزل الامير في حكمه من القتل إلى الحبس - أن يلحوا في العناد مرة واحدة ورأوا[/font][font="] [/font][font="]أن يرجئوا محاولة العفو عنه إلى وقت أخر يكون الأمير فيه أهدأ ثورة وأخف غضبا[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]ثم فض المجلس ، وانصرف الناس في وجوم و حزن . بينما كان ممو يتخذ طريقه إلى قاع[/font][font="] [/font][font="]السجن[/font][font="] ![/font]
[font="] [/font]
[font="] [/font]
[font="] [/font]
[font="] [/font][font="]صفاء الروح[/font][font="][/font]
[font="] [/font]
[font="] [/font][font="]حكم الفلك أزلي قديم ، وإصرار الدهر قضاء لا يتراجع ، وأمر الله قدر لا بد له من[/font][font="] [/font][font="]نفاذ[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]فماذا يغني التأوه ولضجر ، وأي فائدة يجني الألم والتوجه ، وأي نتيجة تأتي بها[/font][font="] [/font][font="]القوة والانفعال إذا كانت سطور القضاء حاكمة بالبؤس والسجن والحرمان ؟[/font][font="]![/font]
[font="] [/font][font="]على أن السجن الذي انتهى القدر بممو إليه لم يكن كأي سجن آخر ، وإنما كان مغارة[/font][font="] [/font][font="]ممتدة في قاع الأرض ، ضيقة الأعلى متسعة الأسفل لا يكاد يمتد شيء من ضياء الدنيا أو[/font][font="] [/font][font="]نور الشمس إلى داخلها ، اللهم إلا من تلك الكوة العليا ، التي هي وحدها الباب[/font][font="] [/font][font="]والنافذة والمنور وكل شيء[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]وأنزل ممو إلى قاع الزنزانة التي استقبلته مظلمة موحشة خالية من أي أحد غيره[/font][font="] . [/font][font="]فالتف حول عينيه الظلام الذي داهمه ولم يعد يبصرشيئا سوى أشبح السواد المدلهمة[/font][font="] [/font][font="]المطبقة من حوله ، فجمد قليلا في مكانه بين ذلك الظلام الدامس ، وراح يخطو في حذر[/font][font="] [/font][font="]متلمسا بيديه الهواء ، إلى أن مسّتا الزنزانة وهناك وقف مستندا إليه ، وقد ترنح بين[/font][font="] [/font][font="]أمواج من الذكريات أخذت تنبعث من نفسه البائسة[/font][font="] ...[/font]
[font="] [/font][font="]تكر شبابه الغص وقوته النابضة ... عزته وبأسه .. إذ كان هو وتاج الدين من أسعد[/font][font="] [/font][font="]الناس ، ولم يكن قد مس قلبيهما شيء من هذه الآلام . ثم تذكر ميلاد هذا الشقاء في[/font][font="] [/font][font="]قلبه ، ويومه البهيج المرح الذي قضياه معا ، والسكرة التي غشيتهما في مسائه[/font][font="] ...[/font]
[font="] [/font][font="]وتذكر الآلام .. والآمال التي ترعرعت في نفسه ، والتي شبت وأخذت تزدهر في قلبه أيام[/font][font="] [/font][font="]فرح تاج الدين وليالي عرسه وكيف كان يمني نفسه بمثل تلك البهجة والأفراح في عرسه هو[/font][font="] [/font][font="]أيضا ... وتذكر بعد ذلك خيبة آماله ، وتصدع قلبه .. قلبه الذي لم يرحمه أحد ، ولم[/font][font="] [/font][font="]يعطف عليه إنسان ، وراح يستعرض الليالي التي أحياها بالزفرات على ضفاف دجلة ، حيث[/font][font="] [/font][font="]لا مخلوق يبصره أو يشعر به ، والدموع التي قرحت عينيه ، وروى بها الآكام والسفوح ،[/font][font="] [/font][font="]حيث لم تكن هناك أي عين أخرى تواسيه بدمعة ! ثم تلك السويعات الجميلة ... التي كانت[/font][font="] [/font][font="]كل أيام سعادته من دنياه ، والتي شهدتها نسمات ذلك الروض وورده . ثم تصور كيف عاد[/font][font="] [/font][font="]الليل بعد ذلك إلى قلبه فأغطش .. وراح يكابد ألوان الشقاء الذي كتبه له الدهر : هذا[/font][font="] [/font][font="]الظلم له من الناس دون أي جريرة أو موبقة ارتكبها .. افتراآتهم عليه ، واستعانتهم[/font][font="] [/font][font="]بدموعه وآلامه .. وضع شباك المكر والفتنة في طريق سعادته .. وأخيرا هذا الغضب عليه[/font][font="] [/font][font="]من الأمير .. الأمير الذي لم يترك له فوق بؤسه وحرمانه حتى حريته التي كان يهيم بها[/font][font="] [/font][font="]على وجهه ، ليسري عن نفسه بمظاهر الطبيعة التي كانت الشيء الوحيد الذي له أن يشارك[/font][font="] [/font][font="]الناس في رؤيته والاستمتاع به . لقد أبى إلا أن يعصب عينيه بهذا الظلام حتى لا يرى[/font][font="] [/font][font="]شيئا من ذلك ، وأبى إلا أن يحبسه في هذه الموحشة حتى لا يجد الأنس إلى قلبه أي سبيل[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]وما إن راح يستعرض في فكره كل هذا .. حتى رق قلبه عليه ، وأدركته الرحمة لنفسه ،[/font][font="] [/font][font="]وراح يبلل ثرى تلك الأرض بدموع أليمة يبكي فيها عمره الذي ضاع ، وأمله الذي خاب ،[/font][font="] [/font][font="]وقلبه الدامي الذي سحقته الأقدام[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]ثم التفت حوله ، وقد أخذت أطراف الزنزانة وجدرانها السود تلوح لعينيه ، وترائت تحت[/font][font="] [/font][font="]بصره أرضها العفراء اليابسة خالية من أي شيء يستند إليه الجنب ، إلا دكة ترابية[/font][font="] [/font][font="]صغيرة في ناحية منها ، يمتد عليها بساط مهلهل[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]وأدار بصره الذي غشاه الدمع في سائر تلك الأطراف ، كأنما يبحث عن أي شيء يتخيل فيه[/font][font="] [/font][font="]الرحمة والعطف ، ليتعلق به ويبثه كربه ولكن الزنزانة السوداء قطعة واحدة صماء ، لا[/font][font="] [/font][font="]تسمع صوتا ولا تفهم نحيبا . فانقطع من نفسه إذ ذاك آخر خيط من أنسه بالدنيا ومن[/font][font="] [/font][font="]فيها ، ولم يجد أمامه إلا السماء .. السماء التي هي وحدها مثابة المكروبين ومآل[/font][font="] [/font][font="]البائسين والمظلومين . فرفع رأسه ونظر بعينيه إلى الأعلى نظرة بعث فيها كل آماله[/font][font="] [/font][font="]وزفراته المتجمعة بين جنبيه قائلا[/font][font="] :[/font]
[font="] ’’ [/font][font="]رباه ألست تبصرني ..؟[/font][font="][/font]
[font="] [/font][font="]ألست تبصرني ، وأنا عبدك الضعيف ، كيف أذوب بين كل هذه الآلام التي لا أطيقها ...؟[/font][font="][/font]
[font="] [/font][font="]رباه إن عبيدك في الأرض لم يرقوا لحالي ولتعاستي وشقائي ، وإنما سحقوا جراحي ، كما[/font][font="] [/font][font="]ترى ، في التراب ، وحرموني حتى من الزاد الذي أتبلغ به في طريق فنائي . فارحمني أنت[/font][font="] [/font][font="]يا رب ، فوحقك لن أتوسل بعد اليوم إلى غيرك ، ولن أسكب دموعي إلا بين يديك ، ولن[/font][font="] [/font][font="]أتذلل إلا لجلالتك[/font][font="] ...‘‘[/font]
[font="] [/font][font="]ولم يطبق جفنيه على هذه النظرة والكلمات التي قالها إلا وقد سرت إلى نفسه روح جديدة[/font][font="] [/font][font="]، أخذت تمتد من وراء ضلوعه كما يمتد لسان من النور المتوهج بين تلافيف الظلام ،[/font][font="] [/font][font="]ولمست قلبه لمسة بعثت فيه بردا من الراحة والهدوء ، واضمحلت تلك الوحشة القائمة من[/font][font="] [/font][font="]حوله في روح من الأنس الغريب[/font][font="] ..[/font]
[font="] [/font][font="]وما إن شعر بكل هذا في نفسه ومن حوله حتى عاد فرفع رأسه وقد قام مستندا إلى جدار[/font][font="] [/font][font="]الزنزانة ، يناجي الله سبحانه قائلا[/font][font="] :[/font]
[font="] ’’ [/font][font="]إلهي ، لقد اهتديت إلى لطفك إذ فقدت الدنيا كل أسبابها وآمالها ، فوحق وجهك لن[/font][font="] [/font][font="]أحيد عن بابك بعد اليوم وإن عادت إلي الدنيا بكل ما فيها . فليظلمني الظالمون ،[/font][font="] [/font][font="]وليكد من أجلي الكائدون ، وليشعلوا قلبي بما شاؤوا من نارهم ، وليحبسوني في الظلمات[/font][font="] [/font][font="]وفي أوكار الوحوش . فوحق ربوبيتك التي لم أبرح ساجدا لها ، إن ذلك كله لا يضيرني في[/font][font="] [/font][font="]شيء ولا يقطع قلبي أوهى خيط من خيوط آماله[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]ما أعذب إلى نفسي الصبر .. ما دمت أستمتع بهديك الذي يشع في روحي ، وما أسهل هذا[/font][font="] [/font][font="]الظلام ما دمت أجد بين ضلوعي نورك الذي يؤنسني ، وما أهنأ إلى قلبي التعذيب ما دمت[/font][font="] [/font][font="]محاطا بخفّي رحمتك ولطفك[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]أما اليأس .. فهل للدنيا كلها أن تجعل لليأس سبيلا إلى قلبي ؟ّ أقسم بالقدّ الذي[/font][font="] [/font][font="]سبيتني باعتداله ، أقسم باللحظ التي أسكرتني بجمله ، أقسم بالنور الذي أضرمته علي[/font][font="] [/font][font="]نارا ، أقسم بالحسن الذي لم أذق منه إلا علقما وصابا ، أقسم بكل ذلك أن هذا العذاب[/font][font="] [/font][font="]مهما أفقدني الهدوء والقرار ، فإنه لن يفقدني الأمل في الوصال حتى ولو أسدلوا بيني[/font][font="] [/font][font="]و بينه حجاب الموت ! فما أجمل أن يسعد بمناه في ظل خلدك وتحت جناح لطفك[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]ولماذا لن يسعد ...؟ وهما وحقك يا مولاي ، كما تعلم ، روحان طاهرتان عفيفتان ، لم[/font][font="] [/font][font="]يتزودا من هذه الدنيا إلا بسعيرها وبؤسها ، تقدمان إلى رحاب الملك الخبير اللطف ،[/font][font="] [/font][font="]ذي الرحمة الواسعة ، والعدل الشامل[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]واشوقاه يا مولاي إلى ذلك اليوم ...! إذ نمضي إلى رحابك ، فتمسح بيمين لطفك عن[/font][font="] [/font][font="]كلينا مدامع الظالمين ، وتضمنا بين ذراعي رحمتك ، آمنين مقبولين[/font][font="] ..‘‘[/font]
[font="] [/font][font="]وهكذا أخذ يهبط إلى قلب ممو ، وهو في قعر تلك الموحشة ، أنس إلهي يحف به ويخفف من[/font][font="] [/font][font="]آلامه وأحزانه ، بعد أن انقطعت صلته من المخلوقين واستبد به اليأس منهم . وبمقدار[/font][font="] [/font][font="]انصرافه ويأسه من الدنيا ومن فيها أخذت تعظم صلته بالله تعالى وتتعلق آماله به وحده[/font][font="] . [/font][font="]فاتخذ من مغارته تلك صومعة لا يفتأ يناجي فيها الله تعالى ، ويتعبده لياليه[/font][font="] [/font][font="]وأيامه . يدخل إليه حارسه لإحضار طعامه إليه فلا يجده إلا قائما في صلاة أو ساجدا[/font][font="] [/font][font="]في مناجاة[/font][font="] ...[/font]
[font="] [/font][font="]وأخذ جسمه يهبط إلى الرقة والذوبان بينما أخذت روحه تشب نحو القوة والطوق . وكلما[/font][font="] [/font][font="]راح منه الجسم نحو الرقة والإضمحلال وانطلقت روحه نحو الإنتعاش والقوة ، ازداد[/font][font="] [/font][font="]غيبوبة عن الدنيا وأسبابها وتعلقاً بالسماء ومعانيها إلى أن غذا ذلك الهيكل الجسمي[/font][font="] [/font][font="]منه لعبة في يد الروح تصرفه كما تشاء ، وبدأت المادة تضمحل في سلطانها فلم يعد[/font][font="] [/font][font="]للزفرات في الجسم معناها المحرق ، ولا لسعير الفراق في الكبد أثره المذيب[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]وبدأت الروح ترقب في شوق ولهفة شيئا واحدا .. وهو الإنطلاق لا من زنزانة السجن إلى[/font][font="] [/font][font="]الدنيا ، ولكن من قفص ذلك الجسم إلى الرحاب التي هيئت لها[/font][font="] ...[/font]
[font="] [/font]
[font="] [/font]
[font="] [/font][font="]اليأس[/font][font="][/font]
[font="] [/font]
[font="] [/font][font="]لم تكن زين قبل أن يصير ممو إلى هذه النهاية ، يائسة من السعادة .. رغم ما كانت[/font][font="] [/font][font="]تكابده من الآلام . فقد كان لها أمل كبير في أن تنال هي الأخرى مع ممو آمال قلبها ،[/font][font="] [/font][font="]كما نالت أختها ستي مع تاج الدين . ولكن ما أن علمت بذلك العقاب الشديد الذي أنزله[/font][font="] [/font][font="]الأمير بممو .. ذلك العقاب الذي جاء فدية له من القتل ! حتى بتر من قلبه كل ما كان[/font][font="] [/font][font="]يمتد فيه من عروق الأمل ، وأخذ فؤادها ينزف باللهب وخنقتها العبرات ، وضاقت رحاب[/font][font="] [/font][font="]الدنيا أمام عينيها . و كأنما أطبق عليها ذلك القصر ونعيمه والتصق بخناقها ، فلم[/font][font="] [/font][font="]تعد تشعر من حولها حتى بالهواء الذي تملأ به رئتيها . وتجمعت على مشاعرها آلام عدة[/font][font="] .. [/font][font="]أقلها يذيب النفس[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]كانت تتوجع مرة لمصير ممو وتبكي وحشته وانفراده في ذلك البئر .. وتتألم أخرى من أنه[/font][font="] [/font][font="]ربما يتخيل وهو في عذابه ذالك أنها سعيدة في رحاب هذا الصرح ، تتقلب في نعيم الحرية[/font][font="] [/font][font="]والإنطلاق . ثم تتألم لنفسها ، ولغروب آمالها ، ومن أنها لم تعد تبصر بقية أيام[/font][font="] [/font][font="]عمرها أي بريق من الرجاء والأمل . ثم تعود فتتقلب بين جمر من زفرات شوقها ولواعج[/font][font="] [/font][font="]حبها .وكثيرا ما كان يمتزج في آلامها هذه معنى الحيرة والتعجب من كل هذا السواد[/font][font="] [/font][font="]والبؤس في حظها ، فتتسائل قائلة[/font][font="] :[/font]
[font="] ’’ [/font][font="]أي حكمة ترى يا إلهي تكمن وراء كل هذا الوابل الذي أمطرته على أيامي من التعاسة[/font][font="] [/font][font="]والشقاء ...؟[/font][font="][/font]
[font="] [/font][font="]مرة واحدة .. لم تدر هذا الفلك نحو إسعادي وتفريح قلبي . يوما واحدا .. لم تدع هذه[/font][font="] [/font][font="]الدنيا تتألق أيضا في عيني ؟[/font][font="]![/font]
[font="] [/font][font="]أسكرت أولا ذلك المسكين ، وطرحته في وهج من حبي . ثم عكست ذلك الوهج إلى قلبي أيضا[/font][font="] [/font][font="]، وتركته يكابد حره ولظاه . أسرجت بيني وبينه الضياء قليلا ، حتى إذ لمحني ولمحته ،[/font][font="] [/font][font="]وهفا إلي وانصرفت إليه ، أسرعت فأطفأت السراج وأسدلت بيني وبينه الظلام وتركت كلا[/font][font="] [/font][font="]ما ينطوي على ناره ، وينفرد لشوقه وحرمانه . أقمت من حول أعيننا أفراح الناس[/font][font="] [/font][font="]وأعراسهم ، بينما تركت وراء جوانحنا مأتما من الأحزان والآلام[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]فماذا جنيت يا إلهي ...؟ بل ماذا جنى ذلك المسكين الذي أرسلته .. ليبحث عن آماله في[/font][font="] [/font][font="]ظلام المقام في باطن الأرض ..؟[/font][font="][/font]
[font="] [/font][font="]ولكن[/font][font="] ...[/font]
[font="] [/font][font="]لماذا أعتب .. ولمَ أقول هذا ؟ فقد علمت أن هذه قسمتي من الأزل ، وقد رضيت بها قبل[/font][font="] [/font][font="]اليوم . وعليّ أن أرضاها اليوم أيضا صابرة شاكرة[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]غفارانك اللهم ... لك مني الرضى والقبول بكل ما حكمت به عليّ أقدارك[/font][font="] ...‘‘[/font]
[font="] [/font][font="]ويتراءى أما عينيها شبح ممو ، وكأنما ينظر إليها من وراء سجنه ، وهي طليقة في جنبات[/font][font="] [/font][font="]القصر ، بعين كاسفة ووجه متألم ، فيثير ذلك لواعجها ، وتحدثه قائلة[/font][font="] :[/font]
[font="] ’’ [/font][font="]أو تحسب يا ممو أن رحب هذا القصر أوسع علي من مضيق سجنك ؟ أو أن إشراق هذه[/font][font="] [/font][font="]الدنيا من حولي أقل سوادا في ناظري من ظلمتك التي أنت فيها ؟ أو أن شيئا من النعيم[/font][font="] [/font][font="]الذي حولي يسليني عنك ويشغلني ؟[/font][font="][/font]
[font="] [/font][font="]لا والله يا ممو ... أقسم لك وأنت قبلة فؤادي الولهان ، وأمل روحي الهائمة - أن سعة[/font][font="] [/font][font="]آفاق الدنيا أماي لا تزيدني إلا حسرة وكربا ، وأن إشراق هذا القصر من حولي لا[/font][font="] [/font][font="]يبصرني إلا بسواد حظي الحالك[/font][font="] ..[/font]
[font="] [/font][font="]نعيمي .. الزفرات التي تشق صدري ، وطعامي .. السُعار الذي يمزق أحشائي ، وشرابي[/font][font="] [/font][font="]الدموع التي تذيب كبدي . أما فراشي ، فهو ذلك القتاد الذي يظل يدمي مني سويداء[/font][font="] [/font][font="]القلب ، ليست لي عين يفرغ منها الدمع لتغمض ، ولا شعور تهدأ منه الثورة ليستكين[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]هذه حالتي يا ممو وأنا في رحاب هذا القصر ، فقل لي كيف حالك وأنت في غياهب ذلك[/font][font="] [/font][font="]السجن ..؟[/font][font="][/font]
[font="] [/font][font="]قل لي من هو أنيسك فيذلك الظلام ؟ ومن هو جليسك الذي تشكر إليه الآلام ؟ كيف تقضي[/font][font="] [/font][font="]الليل ، وأنت لا ترى سمائك كوكبا يواسيك أو يطل عليك ؟! وكيف يمر نهارك دون أن ترى[/font][font="] [/font][font="]من حولك أي إنسان يحدثك ، أو تمر بك نسمة تنعشك ، أو تبصر أمامك غصنا أو طائرا[/font][font="] [/font][font="]يسليك ؟[/font][font="][/font]
[font="] [/font][font="]آه لو كان لروحي التي بين جنبي أن تنطلق مرة إلى ذلك الغور لتبصر ذلك المسكين ،[/font][font="] [/font][font="]وتعود إلي بالخبر عن حالته وصحته وجسمه . أخشى أن يكون الجزع قد استبد به والآلام[/font][font="] [/font][font="]استحكمت في نفسه فيكون في ذلك المكان قضاؤه[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]بل آه لو امتد غضب هذا الأمير إلي أيضا ، فاثقلني بالسلاسل والأغلال وزجني معه في[/font][font="] [/font][font="]ذلك الظلام . إذا والله لاطلقني من سجن هذه الدنيا إلى رحب الجنان ، وافلتني من[/font][font="] [/font][font="]قيود هذه النعمة التي حطمتني إلى حيث أستطيع أن أرى فيه سعادتي ، وأدواي ذلك القلب[/font][font="] [/font][font="]الذي لم يرق لحاله أحد[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]ما أشد ظلام هذا اليأس في عيني ، وما أشد خوفي من أن يكون الدهر قد انطوى على آخر[/font][font="] [/font][font="]لقاء بيني وبين هذا إنسان قلبي ، وقرر أن يحرمني حتى من مشاهدته والإطمئنان على[/font][font="] [/font][font="]حاله[/font][font="] ‘‘[/font]
[font="] [/font][font="]وهكذا أخذت زين تفقد أخيرا بقية ما في جسمها من حول وقوة ، وعافت كل طعام وشراب ،[/font][font="] [/font][font="]وأضناها الهزال واليأس إلى أن غدت نهبة للعلل والأمراض[/font][font="] . [/font]
[font="] [/font][font="]ولم يعد يخفى على أخيها ما تكابده من ألم وحب شديد لممو ولكنه مع ذلك ظل متجاهلا[/font][font="] [/font][font="]أمرها غير مكترث بحالها فقد كانت سكرة الغيرة والحمية في نفسه قد غشت على عقله[/font][font="] [/font][font="]وعاطفته حيال هذهين العاشقين ، تلك السكرة التي نفخها في رأسه حاجبه الخبيث ، إذ[/font][font="] [/font][font="]رماهما له بتهم باطلة ، وأدخله إلى وهمه أن ممو لم يعد يجد مانعا من أن يلوث سمعة[/font][font="] [/font][font="]قصره بمعاني العشق والغرام بأخته بعد أن رفض أن يزوجه بها[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]وانقطع الأمير عن الإلتفات إلى أخته الصغيرة مرة واحدة لا يسأل عنها بكلمة ، ولا[/font][font="] [/font][font="]يرحمها بنظرة ، بل ولا يحاول أن يمر ولو مرة بجناحها من القصر ليعلم ما حالها وما[/font][font="] [/font][font="]الذي انتهى إليه أمرها[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font]
[font="] [/font]
[font="] [/font]
[font="] [/font][font="]الثورة[/font][font="][/font]
[font="] [/font]
[font="] [/font][font="]انقضى عام كامل على ممو وهو لا يزال ملقى في سجنه ، ورفيقة شقائه لا تزال تعاني[/font][font="] [/font][font="]كربها وعلل نفسها وجسمها . وأصدقاؤهما لا يجلو عنهم ذاك الحزن والهم من أجلهما ، لا[/font][font="] [/font][font="]سيما تاج الدين وستي ، ذاك لا يبارح خياله ممو وهو قابع في وحشة الإنفراد يكابد هذه[/font][font="] [/font][font="]النهاية التي حكم بها القضاء بعد كل حرمانه وشقائه . وتلك لا تفتأ تتوجع لحالة[/font][font="] [/font][font="]أختها زين التي تدهورت صحتها وطرحها الضنى والعذاب ، حتى إنها عافت واستثقلت كل[/font][font="] [/font][font="]مظاهر نعيمها وسعادتها التي آتاها الدهر بعد أن عافت أختها من كل ذلك ونكبها هذه[/font][font="] [/font][font="]النكبة المريرة . وقد بائت كل محاولات أولئك الأصدقاء لإطلاق سراح ممو والعفو عنه[/font][font="] [/font][font="]بالخيبة ، فلم يكن أحد ليستطيع أن يستدر بشكل ما عطف الأمير وشفقته عليه[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]وفي ليلة صامتة هادئة ... كان أصدقاء ممو كلهم مجتمعين في دار تاج الدين ، تلك[/font][font="] [/font][font="]الدار التي يعرف الناظر إليها أنها كانت في يوم ما قصرا رائعا .. يتبادلون المشورة[/font][font="] [/font][font="]والآراء لإيجاد حل حاسم لهذه المشكلة . وقد بلغ بهم الكرب أقصاه ، وانتهى الصبر[/font][font="] [/font][font="]فيهم إلى آخر مرحلة[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]وارتأى بعضهم أن يغدو جميعا مع صبح اليوم التالي إلى الأمير لآخر مرة .. يستشفعونه[/font][font="] [/font][font="]في ممو ، ويستدرون عطفه .. و يلحون في الرجاء بإطلاقه .. فإن استجاب فذاك وإلا[/font][font="] [/font][font="]عادوا فقرروا سبيلا آخر أصلب من هذا[/font][font="] ...[/font]
[font="] [/font][font="]ولكن عارفاً لم يعجبه الرأي وقال[/font][font="] :[/font]
[font="] ’’ [/font][font="]إن من الضعف والخور بعد كل الذي عرضناه من رجاء ، وتصنعناه من ذل - أن نعود إلى[/font][font="] [/font][font="]هذا الإسلوب بعينيه[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]إن إخراج ممو من السجن لم يعد يمكن عن طريق الرجاء والكلام في الدواوين ، وإنما[/font][font="] [/font][font="]يخرجه اليوم شيء واحد ، هو هذه السواعد التي نملكها .. فعلينا أن نتركها هي اليوم[/font][font="] [/font][font="]ترجو وتتكلم ، لا في المجالس والدواوين ولكن في الفلاة والميادين[/font][font="] ...![/font]
[font="] [/font][font="]علينا إذا أردنا أن يعود ممو إلينا أن نبادر مع صبح الغد فنرتدي دروعنا ، ونشتمل[/font][font="] [/font][font="]سيوفنا ، ثم يستوي كل منا على جواده ، فننطلق بالحراب والسنان نهزها ، ونستدر بها[/font][font="] [/font][font="]وحدها عطف الأمير ، ليطلق سراح ممو . فإن رقق ذلك من قلبه وقضى مرادنا فذاك .. وإلا[/font][font="] [/font][font="]أعلنا حربا مستعرة هوجاء ، عليه وعلى كل من ستثكله أمه من اتباعه وبطانته ، وعلى[/font][font="] [/font][font="]رأسهم كلبه اللئيم الحقير[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]ولتنفتل رحى الآجال إذ ذاك ، تعصف بالرؤوس ، ولتصبح ’’ بوطان ‘‘ حلبة لرقصة الموت ،[/font][font="] [/font][font="]وليستمتع أهلها بلحن الأتراس والسيوف . فإما شققنا غبار ذلك كله إلى ممو فأنقذناه[/font][font="] [/font][font="]برماحنا وسواعدنا ، وإما لحقنا به وعانقنا معه الموت والردى[/font][font="] .‘‘[/font]
[font="] [/font][font="]وما إن أبدى هذا الرأي ، وأتم كلامه الملتهب حتى أثار حماسة الجالسين ، وأشعل[/font][font="] [/font][font="]دمائهم ، وأجمعوا على أن يتلاقوا جميعا في صبح اليوم التالي في عدة الحرب ليشنوها[/font][font="] [/font][font="]غارة على الأمير[/font][font="] ...![/font]
[font="] [/font][font="]وفي صبح ذلك اليوم فوجئ أهل الجزيرة من هؤلاء الأشقاء الثلاثة بأمر لم يكونوا[/font][font="] [/font][font="]يحسبوا له حسابا .وطاف هؤلاء الثلاثة ومن معهم من الأصدقاء والأصحاب على أهلهم[/font][font="] [/font][font="]وذويهم - وقد حزموا أمرهم على الحرب ، ولبسوا لها لباسها ، وأعدوا لها عدتها[/font][font="] - [/font][font="]يستسمحونهم ويودعونهم[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]ثم انطلقوا في خيلهم ورجلهم ، وقد اجتمع منهم عدد كبير ، يؤمون قصرالأمير .. ولما[/font][font="] [/font][font="]صاروا على مقربة منه اختارتاج الدين ممن معه شيخا مسنا ، فبعثه رسولا إلى الأمير ،[/font][font="] [/font][font="]يخبره بالشأن .. وأمره أن يقول ما يلي[/font][font="] :[/font]
[font="] ’’ [/font][font="]أيها الأمير ، هؤلاء الأخوة الأربعة - ممو وتاج الدين وعارف وجكو - لست تجهل أن[/font][font="] [/font][font="]أحدا منهم لم يتهاون يوما ما في خدمتك ، ولم يتبدل منه الإخلاص في محبتك . فبأي حق[/font][font="] [/font][font="]وإنصاف تمر سنة كاملة ، وأنت حابس عنهم أعز أخ بينهم .. وملق به في ذلك القبر[/font][font="] .. [/font][font="]ليس له هناك من راع ولا صاحب ؟[/font][font="]![/font]
[font="] [/font][font="]أيقظت عليهم شماتة الحساد ، وأقمت من حولهم هموم الأصدقاء والأصحاب ، وتنكرت لهم ،[/font][font="] [/font][font="]فلم تستمع منهم إلى استعطاف أو رجاء[/font][font="] ! [/font]
[font="] [/font][font="]ما هو ذنب ممو ...؟[/font][font="][/font]
[font="] [/font][font="]أليس كل ذنبه الذي جعله يستحق منكم هذا العقاب أنه عاشق ....؟[/font][font="][/font]
[font="] [/font][font="]ولكن ماذا يصنع .. وإن للعشق سلطانا أقوى من سلطانك ؟ فهلاّ انتقمت إن كنت ذا طول[/font][font="] [/font][font="]وطود من ذلك السلطان الذي عاندك فاسترقّه - عوضا عن أن تنتقم من هذا البريء الضعيف[/font][font="] [/font][font="]الذي ليس له من الأمر شيء ..؟[/font][font="]![/font]
[font="] [/font][font="]أيها الأمير : إن هؤلاء الأخوة الأربعة ليس أحد يجهل أنهم أركان أربعة لسعادتك[/font][font="] [/font][font="]وسلطانك .. وهم اليوم يتقدمون إلى رحابكم باسم الوفاء والعدل طالبين لآخر مرة إطلاق[/font][font="] [/font][font="]سراح رابعهم من ذلك السجن . وإلا فإن أحداً من البقية .. لا يجد في نفسه ضرورة إلى[/font][font="] [/font][font="]الحياة بعد اليوم[/font][font="] ...‘‘[/font]
[font="] [/font][font="]وراح الشيخ .. واستأذن على الأمير بعد أن رآه بكر وعرف المسألة كلها .. فأبلغه هذه[/font][font="] [/font][font="]الرسالة كما حمّله إياها تاج الدين ، ووقف ينتظر الجواب . فأخذ الأمير يفكر وقد بدا[/font][font="] [/font][font="]على ملامحه الحذر والتريث . ثم نظر إلى الشيخ قائلا وقد أسرّ في نفسه أمرا[/font][font="] :[/font]
[font="] ’’ [/font][font="]أيها الشيخ . عد إلى هؤلاء الذين أرسلوك ، فقل لهم : من أين ارتكزت في أذهانهم[/font][font="] [/font][font="]هذه الأوهام الفاسدة حتى تقوم في رؤوسهم هذه الثورة التي لا داعي لها ..؟ وليحدث كل[/font][font="] [/font][font="]ما يفرض أن يكون ، فهل يعقل أن نفوت ونترك أصدقائنا ، وأن نتخلى عن تقديرهم ومحبتهم[/font][font="] [/font][font="]، سيما وإن لهم عندنا خدمات وأيادي لا تنسى ، أما ممو فإنا رأينا أن نفعل به ذلك[/font][font="] [/font][font="]تأديبا وإيقافا له عند حده ، وها أنا اليوم سأجعل كلا من ممو وزين فداء لتاج الدين[/font][font="] [/font][font="]وأخويه ، فليطب خاطرهم . بل وسأهبها لهم ليتحققوا من إخلاصنا في حبهم وتقديرهم[/font][font="] ..‘‘[/font]
[font="] [/font][font="]فتهللت أساسير الشيخ ، وانحنى شاكرا بين يديه ، ثم انصرف عائدا إلى القوم الذين[/font][font="] [/font][font="]كانوا في انتظاره . وما إن أخبرتهم بما قاله الأمير حتى سري عنهم وخمدت ثورتهم[/font][font="] [/font][font="]وتفرقوا عائدين إلى دورهم في انتظار الابتهاج بإطلاق سراح ممو وتزويجه من حبيبته[/font][font="] [/font][font="]زين[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font]
[font="] [/font]
[font="] [/font]
[font="] [/font][font="]الخديعة[/font][font="][/font]
[font="] [/font]
[font="] [/font][font="]لم يكد ذلك الشيخ يخرج من القصر حتى أخذ الأمير يفكر في الموضوع بجد ...وقد بدا على[/font][font="] [/font][font="]تقاسيم وجهه وفي بريق عينيه الاهتمام الشديد بالأمر ! وأخذ ذهنه يطوف حول إيجاد أي[/font][font="] [/font][font="]خدعة لأولئك الثائرين في وجهه[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]أما الحديث الذي قاله للشيخ ، فلم يكن شيء منه صادرا عن أعماق نفسه ، وإنما أرسله[/font][font="] [/font][font="]مجاملة فقط .. لتخمد ثورتهم ، ويرجعوا عما عزموا عليه من إثارة الفتنة والحرب . إذ[/font][font="] [/font][font="]كان يعلم أن قيام ثورة عليه من قبل تاج الدين وشقيقيه لن يكون في صالحه . لا سيما[/font][font="] [/font][font="]وإن لهم شيعة وأتباعا كثرا في الجزيرة ولذلك ألقى إليهم بهذا الوعد ، ليلهيهم[/font][font="] [/font][font="]ويتراجعوا عما أجمعوا رأيهم عليه ، بينما يصل هو في تفكيره إلى حيلة يسبقهم بها إلى[/font][font="] [/font][font="]تدبير الأمر كما يشاء ، ويقطع بها عليهم طريق الثورة والقوة[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]ودخل عليه الحاجب بكر ، فألم بالقلق في نفسه ، ولم يخف عليه - وقد كان تسمع إلى كل[/font][font="] [/font][font="]ما قاله الرسول وأجابه به الأمير - أن الأمير لك يكن مخلصا للرسول فيما قدمه إليه[/font][font="] [/font][font="]من وعود ، وأنع يحوم بفكره حول أي وسيلة لإنقاذ الموقف ، وحسم هذا الأمر[/font][font="] ...[/font]
[font="] [/font][font="]فأخذ يقول وهو يتشاغل بتنظيم جوانب الديوان وإصلاحه[/font][font="] :[/font]
[font="] ’’ [/font][font="]لقد كنت والله خائفا منذ أمد طويل أن ينتهز الفرصة هؤلاء القوم ، ويتشبثوا بأي[/font][font="] [/font][font="]سبب مصطنع لإثارة الفتن والقلائل حول هذا القصر . وما مرادهم والله ، كما علمت من[/font][font="] [/font][font="]أول الأمر ، إلا أن يصلوا بصاحبهم تاج الدين إلى الحلم الذي لا يزال جاثما في أوهام[/font][font="] [/font][font="]رؤوسهم[/font][font="] ...!‘‘[/font]
[font="] [/font][font="]ثم التفت إلى الأمير فقال[/font][font="] :[/font]
[font="] ’’ [/font][font="]ولكن لا داعي إلى أن يحسب مولاي لهم كل هذا الشأن ، وأن يعيرهم من نفسه القلق[/font][font="] [/font][font="]والاهتمام ... ففي استطاعته إذا شاء أن يتخلص من كل من تاج الدين وشقيقيه بأيسر[/font][font="] [/font][font="]الطرق[/font][font="] ...[/font]
[font="] [/font][font="]أما ممو فإن الوسيلة إلى قتله أسهل ما يكون ، ولن يكلف ذلك سوى أن يتظاهر مولاي[/font][font="] [/font][font="]لزين بأنه نادم .. وأنه عقد العزم على أن يعفو عن ممو ويزوجها به . ثم يرسلها إلى[/font][font="] [/font][font="]زنزانة سجنه لتتولى هي بنفسها إطلاق سراحه ، فقد علمت مولاي بأنه يعشقها عشقا شدشدا[/font][font="] [/font][font="]، وأغلب الظن أنه عندما يفاجأ برؤيتها بعد كل غيابه عنها وشوقه إليها واليأس الذي[/font][font="] [/font][font="]دب في نفسه ، سيخر صريعا وقد فارقته الروح[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]أما تاج الدين وشقيقاه فمن السهولة بمكان - إذا شاء مولاي وترك الأمر لي - أن أتقدم[/font][font="] [/font][font="]إليهم بكؤوس من الشراب المسموم[/font][font="] ...‘‘[/font]
[font="] [/font][font="]ورغم أن الأمير كان يتظاهر كالمتشاغل عن حديثه ، إلا أنه كان ملقيا إليه كا باله ،[/font][font="] [/font][font="]يتتبع حديثه ورأيه باهتمام . فقد كان كل مراده أن يعثر في أقرب وقت على أي حل أو[/font][font="] [/font][font="]طريقة يتفادى بها ثورة تاج الدين وصحبه ، دون أن ينزل عند طلبهم أو مرادهم[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]على أد ذلك لم يمنعه من أن يتضايق من بكر وفظاظة طبعه الذي يأبى إلا أن يشرئب[/font][font="] [/font][font="]متطاولا إلى هذه الامور التي لا تعنيه في قليل أو كثير ، فقد أصبح يتراءى لعينيه في[/font][font="] [/font][font="]وجهه الذي يظل متمسكنا في خبث ، كلما لمحه ، مصدر هذه الفتنة التي أخذت حيزا كبيرا[/font][font="] [/font][font="]من تفكيره ، بقطع النظر عن أنه أكان صادقا ومخلصا له في إثارتها ، أم مفتريا لا[/font][font="] [/font][font="]يهمه شيء سوى إيقاد نارها واحتراق الأبرياء في لظاها . وحسب هذا في الواقع حاملا[/font][font="] [/font][font="]للأمير على كراهيته والإشمئزاز من منظره وكلامه الذي لا يبعث إلا التشاؤم . بل ربما[/font][font="] [/font][font="]كان يدفعه هذا إلى أن يجازف بطرده رغم حاجته إلى حاجب في مثل خبثه ودهائه - لو لم[/font][font="] [/font][font="]يكن ذلك في هذا الوقت خاصة قد يثير لدى تاج الدين ظنونا بالأمير وبأن كل هذا الذي[/font][font="] [/font][font="]حدث إنما كان بمكر وافتراء من ذلك الحاجب الذي استطاع أن يغرر بالأمير ويخدعه[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]ثم إنه لم يعلق شيئا على كلام بكر الذي ظل متشاغلا من حوله في انتظار أن يجيبه على[/font][font="] [/font][font="]رأيه الذي أبداه ، بأي كلمة أكثر من أنه أمره بالخروج وإغلاق الباب ، وبأن لا يدع[/font][font="] [/font][font="]أحدا يدخل عليه في ذلك اليوم[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]وظل الأمير بياض نهاره ذلك لا يُرى إلا مختليا يفكر .. أما في الليل فقد استيد به[/font][font="] [/font][font="]الأرق ، وظل أيضا ساردا في التفكير والإطراق[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]أخذ يعرض على ذهنه إلى جانب ما علق برأسه من ذلك الرأي الذي أبداه بكر آراءً كثيرة[/font][font="] [/font][font="]، ولكن لم يكن من بينها أبدا فكرة العفو عن ممو وتزويجه من أخته . إذ كان هذا بعيدا[/font][font="] [/font][font="]جدا خصوصا وقد تتابعت عليه عوامل جعلته كالمستحيل . فقد كان أول عامل هو ما بلغ[/font][font="] [/font][font="]الأمير أن تاج الدين راح يستعمل نفوذه الخاص في تزويحها من ممو في الخفاء دون أن[/font][font="] [/font][font="]يعلمه بذلك ، وهو العامل الذي ألهب غضبه إذ ذاك وجعله يقسم أن يحول دون تحقيق ذلك[/font][font="] . [/font][font="]والعامل الثاني هو ما شاع أخيرا بين الناس ونقله بكر إليه من غرام ممو الشديد بأخته[/font][font="] [/font][font="]، ومن زائدات أخرى غير لائقة انتهت إلى مسامعه . والعامل الأخير الذي جعله اليوم[/font][font="] [/font][font="]يزداد قسوة وتمسكا برأيه ، هو مجيء تاج الدين وقومه في هذه الثورة يطالبون بالعفو[/font][font="] [/font][font="]عن صاحبهم بالقوة والتهديد[/font][font="] ![/font]
[font="] [/font][font="]وأما رأي بكر فقد كان الأمير يحسب للاقدام على تحقيقه حسابا كبيرا ، ولا يكاد يرى[/font][font="] [/font][font="]وسيلة معقولة إليه ، إذ ليس من السهل أبدا القضاء على تاج الدين وشقيقيه بالسم مثلا[/font][font="] [/font][font="]كما يقول بكر ، ولا يضمن أن تأتي النتيجة لذلك هادئة سليمة ، سيما وإن من ورائهم[/font][font="] [/font][font="]شيعة وأتباعا سيتساءلون عن السر وسيظلون يبحثون عن الحقيقة التي لا يبعد أن تنكشف[/font][font="] [/font][font="]لهم أخيرا[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]ثم أنها حيلة بشعة جدا ، لا يصلح أن تصدر إلا من ماكر دنئ من أمقال بكر ... وإن دلت[/font][font="] [/font][font="]على شيء من الأمير فإنما تدل على الجبن الذي يمنع من المجابهة والمبارزة وجها لوجه[/font][font="] [/font][font="]، وعلى أنه ليس في يديه من وسائل القوة إلا هذه الخدعة التي هي سلاح الجبناء[/font][font="] [/font][font="]والضعفاء ، وما أبعدهما عن الأمير زين الدين من أن يكون كذلك ، وأن ينزل عند شيء من[/font][font="] [/font][font="]هذا الضعف . وأما الخطوة الأولى من رأي بكر وهي ما رآه من وسيلة للتخلص من ممو ،[/font][font="] [/font][font="]فقد كان يطمئن إليها قلب الأمير ، لو صح أن رؤيته لأخته على ذلك الشكل ستعدمه[/font][font="] [/font][font="]الحياة وتجعله يفارق الروح ...! ولا شك أن الأمر إذا تم على هذا النحو فهي وسيلة[/font][font="] [/font][font="]محكمة تماما .. وهي الخطوة الأولى والأخيرة ، وتنتهي المشكلة بعدها[/font][font="] ..[/font]
[font="] [/font][font="]وعلى كل فإن الأمير لم يسلم عينيه للرقاد في تلك الليلة إلا بعد أن عقد العزم لحل[/font][font="] [/font][font="]هذه المشكلة على أمر[/font][font="] ...[/font]
[font="][/font]
[font="] [/font][font="]النّدم[/font][font="] [/font]
[font="] [/font]
[font="] [/font][font="]وفي صباح اليوم التالي كان الأمير قد اقتنع بجزء من مشورة بكر ، ورأى أنه ليس هنالك[/font][font="] [/font][font="]، مبدئيا ، ما هو أولى منها ، فإذا لم تنتج الفائدة المتوفعة كان هنالك حينئذ مجال[/font][font="] [/font][font="]لرأي آخر . وراح ينفذ أولى خطوات تفكير ذلك الخبيث[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]خرج من الديوان ... وصعد متجها إلى غرفة أخته زين ، تلك الغرفة التي غبر دهرا لم[/font][font="] [/font][font="]يدخلها أو يمر بها أو يكترث بمن فيها[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]وانتهى إلى بابها المغلق .. فوقف عنده قليلا كأنما يستجمع هدوءه ، ثم دفعه في رفق[/font][font="] [/font][font="]ودخل[/font][font="] ...[/font]
[font="] [/font][font="]دخل .. فوجد نفسه في غرفة ساكنة واجمة ، قد أغلقكل نوافذها وكُواها ، فبدت مظلمة[/font][font="] [/font][font="]قاتمة . وأخذ ليجيل النظر في أطرافها ، إلا أن عينيه سرهان ما انصرفت إلى قامة[/font][font="] [/font][font="]فتاتة هبت مترنحة تحاول الوقوف والقيام على قدميها[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]فدنا نحوها ، وراح يقلب عينيه في شكلها الذاوي ومظهرها الباعث للرحمة والألم .. وهي[/font][font="] [/font][font="]واقفة أمامه في جهد ، يتمايل بقوامها الضعف والهزال[/font][font="] ![/font]
[font="] [/font][font="]وأخذت نظراته كأنما تتسائل في تأثر واستغراب : أهذه هي أختي زين التي كنت أعرفها[/font][font="] [/font][font="]أروع ما تكون صحة وجسما ، وأجمل ما تكون إشراقا وفتنة ؟[/font][font="]![/font]
[font="] [/font][font="]أكل ذلك انتهى منها وغاب .. وأنا لا أشعر ..؟[/font][font="][/font]
[font="] [/font][font="]ثم جلس إلى جانبها في هدوء . وأخذ يجيل نظره فيما حوله في صمت ، وقد شعر بمعاني[/font][font="] [/font][font="]الأسى والحزن ممتدة إلى كل أطراف الغرفة وما فيها . وما ثم شيء من فرش والمقاعد[/font][font="] [/font][font="]التي من حولها والستر المسدلة أمامها ، والحاجات المتفرقة إلى جوانبها ، إلا وكأنما[/font][font="] [/font][font="]قد لمسه الحزن والكرب لمسة واضحة من أجل هذه البائسة المسكينة[/font][font="] ![/font]
[font="] [/font][font="]ثم عاد - وقد سرى أثر كبير من ذلك الحزن إلى نفسه أيضا - فالتفت إلى أخته ، وقد[/font][font="] [/font][font="]أطرقت برأسها إلى الأرض في وجوم وذهول . فمد يمينه برفق إلى أسفل وجهها ، ولارفعه[/font][font="] [/font][font="]إلى سمت عينيه يتأمل شحوبه وذبول ملامحه[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]والتقت عيناه بنظراتها .. نظرات كسيرة من عينين ذابلتين قرحهما الدمع ، تشع نحوه في[/font][font="] [/font][font="]ارتجاف ، كأنما تستعطفه قائلة[/font][font="] :[/font]
[font="] ’’ [/font][font="]كيف هان عليك يا أخي ... وأنا شقيقة قلبك أن تقسو علي كل هذا ، وتباعد عن فمي[/font][font="] [/font][font="]كأس سعادتي وهنائي وتحطمها في الأرض ؟[/font][font="][/font]
[font="] [/font][font="]كيف استسغت يا أخي .. وأنا أختك التي طالما أسعدتني أفراحك .. أن تحرق ماك ان لي من[/font][font="] [/font][font="]شباب .. في ضرام الشقاء والحرمان ، وتتركني أتأوه في هذا القصر من غير راحم ،[/font][font="] [/font][font="]وأستصرخ من غير مجيب ؟[/font][font="]![/font]
[font="] [/font][font="]ماذا جنيت يا أخي حتى عاقبتني بكل هذا ؟[/font][font="][/font]
[font="] [/font][font="]والله إني لم أطعم من حبي إلا العلقم الأليم . والله إني لم أخنك يوما ما في سر ولا[/font][font="] [/font][font="]جهر . والله إن روحي لم تدنسها أو تعلق بها أي شائبة مما قد تظن[/font][font="] ..‘‘[/font]
[font="] [/font][font="]وما إن تلاقت عينا الأمير مع هذه النظرات ، وتأمل ما كانت توحي به من هذا الاستعطاف[/font][font="] [/font][font="]حتى سرت رعشة من الرقة والرحمة في سائر مشاعره ، وامتدت إلى سويداء قلبه ، فنفضته[/font][font="] [/font][font="]نفضة أليمة تساقط منها كل ما تغلف به من قسوة وغضب وبدأ بخفق بالرحمة ، ويجيش ندامة[/font][font="] [/font][font="]وحسرة . وقال وهو لا يكاد يملك عينيه[/font][font="] :[/font]
[font="] [/font][font="]لقد ظلمتك والله يا أختاه .. إي والله ، ولقد قسوت عليك قسوة ما أظن أن أي توبة أو[/font][font="] [/font][font="]ندامة يمكن أن تغفر لي إثمها[/font][font="] ..![/font]
[font="] [/font][font="]ماذا دهاني يا زين ...؟ وأين فقدت قلبي وكبدي ، حتى فعلت بك كل هذا ...؟[/font][font="][/font]
[font="] [/font][font="]أكل هذا الضنى الذي على وجهك ، والنحول والضعف الشديد في جسمك هو من آثار قسوتي[/font][font="] ...[/font][font="]؟ قسوة أخيك الشقي التعس ..؟ إن نار الندم يا زين تأكل قلبي .. إن ألم الحسرة[/font][font="] [/font][font="]ليشق كبدي[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]تعالي .. يا شقيقتي .. حدثيني ، أوَلا أستطيع اليوم أن أكفّر ..؟ أوَلا أقدر أن[/font][font="] [/font][font="]أعود فأسعى لاسترجاع سعادتك وشباب جمالك ..؟ أو لست أزال قادرا أن أتدارك الوقت[/font][font="] ..[/font][font="]؟[/font][font="]‘‘[/font]
[font="] [/font][font="]وما كادت هذه الكلمات من الأمير تطرق سمع المسكينة التي طوت أيام عمرها في مكابدة[/font][font="] [/font][font="]البؤس وآلامه ، دون أن يرق لها أو يكترث بها ، حتى أدركت قلبها رقة شديدة لحالها ،[/font][font="] [/font][font="]وقامت بين جوانحها عاصفة كبيرة من آلام وزفرات ، وكان قد بلغ بها الضعف والرقة إلى[/font][font="] [/font][font="]حيث لم تعد تتحمل كل ذلك ، فاندفعت من صدرها موجة كبيرة من الدماء ، وانطلقت من[/font][font="] [/font][font="]حلقها مرة واحدة متدفقة إلى الأرض ، بينما راحت عي في غيبوبة كاملة عن نفسها وكل ما[/font][font="] [/font][font="]حولها[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]فجن جنون الأمير من هذا المنظر الرهيب . وأخذ سعير الندامة والعطف الذي راح أوانه[/font][font="] [/font][font="]يكوي مشاعره ويأكل أحشاءه و قلبه . وفقد كل توازنه ووعيه . وجلس إلى جانبأخته[/font][font="] [/font][font="]الممتدة بين دمائها يصرخ ويبكي لاطما نفسه كالنساء[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]وفي تلك الأثناء كانت قد وصلت ستي إلى القصر متجهة نحو غرفة أختها لعيادتها والبحث[/font][font="] [/font][font="]عن حالها وصحتها . وما إن وصلت إلى الباب حتى رأت منظرا رهيبا اقشعر منه بدنها وطار[/font][font="] [/font][font="]له صوابها[/font][font="] ...![/font]
[font="] [/font][font="]رأت أختها منطرحة من غير إحساس في لجة الدماء ! ورأت الأمير جالسا إلى جانبها يبكي[/font][font="] [/font][font="]وينتحب[/font][font="] ..![/font]
[font="] [/font][font="]فثارت في وجهه قائلة - وقد أيقنت أنها الغضبة الأخيرة قد عصفت برأسه فقتلها[/font][font="] :[/font]
[font="] ’’ [/font][font="]ماذا دهاك أيها الظالم ...؟ ألم يشف غيظك كل ما أنزلته بهذه البائسة من ألوان[/font][font="] [/font][font="]العذاب حتى قتلتها وسفكت دمها ، وقد كانت ماضية بحالها إلى طريق الفناء والموت[/font][font="] ..‘‘[/font][font="]؟[/font][font="][/font]
[font="] [/font][font="]فالتفت إليها الأمير وأجابها في كرب يكاد يخنقه[/font][font="] :[/font]
[font="] ’’ [/font][font="]كفى يا أختاه ... لا تزيدي في ناري . لسا بقاتل ، ولكنها غشية[/font][font="] ..‘‘[/font]
[font="] [/font][font="]ثم جلست الأخت والأخ من حول شقيقتيهما يحاولان ، وقد استبد بهما الجزع ، إنعاشها[/font][font="] [/font][font="]وإيقاظها دون أي جدوى . ومرت ساعات ... وتجمع حولهما كل من في القصر من الأهل[/font][font="] [/font][font="]والأقربين وراحوا يحاولون إحياءها بشتى الوسائل وطرق العلاج ، دون أن يستفيدوا من[/font][font="] [/font][font="]أي نتيجة[/font][font="] ...[/font]
[font="] [/font]
[font="] [/font]
[font="] [/font][font="]الوصيّة[/font][font="] [/font]
[font="] [/font]
[font="] [/font][font="]مر اليوم ... وغربت شمسه ، وزين لا تزال على حالتها تلك منطرحة في غرفتها دون أي[/font][font="] [/font][font="]وعي ولا إحساس ، رأسها في حجر أخيها الأمير الذي لا يكاد يفلته البكاء ، والأهل[/font][font="] [/font][font="]والأقربون من حولها في حيرة وألم شديد . لا يدرون أهي غشية طال أمدها ، أم هو الموت[/font][font="] [/font][font="]والقضاء الأخير قد أنزل بها ! يجسون عروقها ، ويتلمسون حركة قلبها ، فتبدو حينا من[/font][font="] [/font][font="]الزمن وكأنها قطعة يابسة ليس في جهة منها أي حركة أو نبض ، ثم يعود فيخفق منها[/font][font="] [/font][font="]القلب ، وتضح صاعدا ونازلا في صدرها في ضعف وبطء ، وإذ ذاك تتهلل أسارير الوجوه[/font][font="] [/font][font="]المطرقة من حولها قليلا ، ويلبثون منتظرين رحمة إلهية تتداركها وتعيد إليها الروح[/font][font="] [/font][font="]والإحساس[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]وبينما هم في تلك الاثناء إذ دخل أحد الغلمان مسرعا يقول للأمير[/font][font="] :[/font]
[font="] ’’ [/font][font="]إن أحد حراس السجن جاء ليبلغ مولاي بأن ممو في حالة تشبه النزع .. فبماذا يأمر[/font][font="] [/font][font="]؟؟[/font][font="] ‘‘[/font]
[font="] [/font][font="]وما كاد اسم ممو يتلى في ذلك الجو الذي كانت تمر به أنفاس زين الصامتة ، حتى[/font][font="] [/font][font="]استنشقت منه الروح التي بعثتها من ذلك السبات الطويل ، وسرت رعشة عامة في جسمها ،[/font][font="] [/font][font="]وفتحت عينيها تنظر ما حولها[/font][font="] ...[/font]
[font="] [/font][font="]رأت أمامها رقعة كبيرة من الدكاء منبسطة في تلك الأرض ، ووجدت غرفتها غاصة من حولها[/font][font="] [/font][font="]بسائر الأقارب والأصحاب وحرم القصر ، يرمقونها بعيون ذارفة وملامح ملؤها الأسى[/font][font="] [/font][font="]والحزن ! وأبصرت أخاها الأمير جالسا من فوقها يبكي كأنه الطفل ..؟[/font][font="]![/font]
[font="] [/font][font="]فاستوت جالسة في اتكاء ، واستدارت بوجهها نحوه قائلة ، وقد تغيرت ملامحها ، وبدت[/font][font="] [/font][font="]على وجهها دلائل أحاسيس غريبة طارئة[/font][font="] :[/font]
[font="] ’’ [/font][font="]أتبكي أيها الأمير في يوم فرحي وعرسي ...؟[/font][font="]![/font]
[font="] [/font][font="]أفي الوقت الذي تصبح فيه سببا لإسعادي أكون أنا سببا لبكائك وأحزانك ..؟[/font][font="][/font]
[font="] [/font][font="]لقد انطلقت روحي يا مولاي منذ اليوم إلى السعادة التي طالما انتظرتها ، وبرح بها[/font][font="] [/font][font="]الشوق إليها ، استطاعت أن تطير إليها بعد أن أوليتها الإذن .. ومنحتها الرضا[/font][font="] ... [/font][font="]وتقدمت نحوها بالعطف[/font][font="] ...[/font]
[font="] [/font][font="]في هذا اليوم انتهيتُ من سياحة طويلة قطعتها في خضم هذا الفناء المائح ، بعد أن[/font][font="] [/font][font="]يبست في قطعه سائر أطرافي وجوارحي وكابدت من أمواجه وعواصفه شدة كادت أن تصرعني[/font][font="] ...![/font]
[font="] [/font][font="]وعليّ الآن وقد انتهيت إلى الساحل أن أقف فيه قليلا ، لأستروح . علي أن أقف هنا[/font][font="] [/font][font="]قليلا ... قبل أن آخذ طريقي متجهة نحو الخلود الذي ينتظرني ، لأودعكم .. وأستسمحكم[/font][font="] .. [/font][font="]ولأتلو عليكم وصيتي يا مولاي[/font][font="] ...‘‘[/font]
[font="] [/font][font="]ثم أسندت رأسها إلى وسادة ورائها - وقد أخذت ملامح الحاضرين تتلون بالحزن والأسى ،[/font][font="] [/font][font="]واستولى الوجوم والإطراق على المكان - وراحت زين تحدث أخاها ، وكأنها في حلم ،[/font][font="] [/font][font="]قائلة[/font][font="] :[/font]
[font="] ’’ [/font][font="]لا تأس .. يا شقيق قلبي وروحي[/font][font="] ...![/font]
[font="] [/font][font="]لا تبك علي ... فدتك مئة أخت من أمثال زين[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]لا تأس يا مولاي .. فقد تقبلت هذه الآلام والأسقام ، منذ اخترت ممو رفيقا لروحي[/font][font="] . [/font][font="]وقبل أن تمهرني الأقدار بالضنى والأحزان في سبيله ومن أجله . فالبؤس والهموم من أجل[/font][font="] [/font][font="]قلبي والسلطان والسعادة من قسمتك[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]أميري .. لا تنازعني اليوم في شيء من نصيبي ! فهي حصتي وأنا قانعة وراضية بها . عد[/font][font="] [/font][font="]أنت يا مولاي فاجلس على سرسر سلطانك ، وأمِلْ تاجك الدري على مفرق رأسك . أقم من[/font][font="] [/font][font="]حولك مجالس الطرب في تنظيمها الرائع ، وأدر فيما بينها أفراح الزمان وأنسه . أسكر[/font][font="] [/font][font="]السادة والغلمان بشراب نعيمك ، وليعد شباب اللهو والمرح مختالا في الشيوخ من جلسائك[/font][font="] .[/font][font="]هيئ على بساطك لذائذ الطعام والشراب ، ونظم من حوله كل أسباب الصفو والهناء ،[/font][font="] [/font][font="]وانثر بينه سائر أنواع العطور والمفرحات ، واجمع لذلك الندامى والأصحاب ، ولترقص[/font][font="] [/font][font="]بينهم البهجة بشتى ألوانها ، ولتتمايل من فوق رؤوسهم الورود والأغصان[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]فلقد استكملت يا مولاي في هذا اليوم روحانيتنا ...وانتهت منا علائق الحيوانية[/font][font="] [/font][font="]والفناء ، وأزيحت عما بيننا حجبها وأستارها ... نعم سوف يتوارى هذا الجسم بعد قليل[/font][font="] [/font][font="]في ترابه ، ولكن روحي لن يمنعها أي شيء من نعيمها ووصالها[/font][font="] ...[/font]
[font="] [/font][font="]أميري ... ولا تنس أن تقيم أفراحنا كاملة .. فكلانا وإن أصبح روحانيا في ذاته[/font][font="] [/font][font="]ولكننا لا نزال نطرب .. ونميل إلى الطيبات والأفراح[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]أتذكر ذلك العرس البهيج الذي أقمته لأختي ورفيقها ، وكيف أزدهرت هذا البلدة إذ ذاك[/font][font="] [/font][font="]ضياءا وأنسا ..؟ إنني آمل منك يا أخي أن توليني مثل تلك الرعاية في يوم عرسي أنا[/font][font="] [/font][font="]أيضا ... مُرْ هذه الجزيرة أن تعود فتمتطي خيول المرح ، وأرسل وراء رجالك وجندك ،[/font][font="] [/font][font="]يقيموا الأفراح والمهرجانات ، ولتعد نشوة الفرح والطرب تطوف بالرؤوس ، ولتتزين[/font][font="] [/font][font="]ثانية جميع الميادين والأزقة والأسواق[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]أخي ... ولقد ضاق الوقت ، فلتحسن إلي في المبادرة بتدارك الجهاز وتهيئته ، فلا بد[/font][font="] [/font][font="]من إعداده ، لكي يلتحق ، منذ الآن[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]أتذكر يا مولاي صرح ستي .. ذلم الصرح الرائع المتألق ...؟[/font][font="][/font]
[font="] [/font][font="]إنني أحتاج إلى تابوت في مثل بهائه وتألقه ... أريده من أفخر أنواع الأبينوس[/font][font="] .. [/font][font="]الأبينوس المنقوش وليكن غطاؤه في مثل روعته وأبهته ، مزدانا ومرصعا بوشي الذهب[/font][font="] [/font][font="]والفضة . ولتكن مظاهر الإحتفال والبهجة كاملة من حوله[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]أخي ، أتضرع إليك أن تحقق هذا كما أقول ، لا تدعني في يوم فرحي ممتهنة أمام الأنظار[/font][font="] . [/font][font="]لا يقولن الناس إذ يتوسطون المقبرة في تحسر وألم : كم كان عرس ستي يوما مشرقا من[/font][font="] [/font][font="]الدهر ، وكم كان طالع زين أسود حالكا منذ الأزل[/font][font="] ...![/font]
[font="] [/font][font="]ثم دع شقيقتي يا مولاي هي التي تتولى تزييني وغسلي ، وتكون في رفقة نعشي وتوديعه[/font][font="] . [/font][font="]أما ممو فاترك له وفّيه المخلص هو الذي يغسله كما يشاء ويصاحبه إلى مقره الأخير[/font][font="] ..‘‘[/font]
[font="] [/font][font="]وسكتت قليلا كأنما تستروح من إعياء[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]ثم تابعت حديثها تقول[/font][font="] :[/font]
[font="] ’’ [/font][font="]فاذا كان بعد ذلك ، فأتم إحسانك لي يا سيدي ، وليمر عام كامل تطعم فيه البطون[/font][font="] [/font][font="]الجائعة وتكسو الأجسام العارية . اجمع حولك الفقراء والماكسن لتغنيهم وترأف بهم[/font][font="] . [/font][font="]ابحث عن التعساء والأشقياء لتواسيهم وتسعدهم . امسح يا أخي بعطفك دموع البائسين ،[/font][font="] [/font][font="]وفرج بمعروفك عن قلوب المكروبين . أطلق يد الأسرى والمسجونين ، وفك يد الظلام عن[/font][font="] [/font][font="]الضعفاء والمظلومين . أسرج بشيء من نعمتك طوايا النفوس المظلمة ، وادخل بلطفك[/font][font="] [/font][font="]القلوب الكبيرة . تدان إلى المفجوعين والمنكوبين لتؤنسهم ، وقربهم إلى مجلسك[/font][font="] [/font][font="]وسعادتك لتسري عن همومهم وأحزانهم . ابحث في طوايا الليل عن السادرين والباكين في[/font][font="] [/font][font="]ظلماته ، وفتش مع الشمس عن الهائمين في الفلوات ، الهاربين بآلامهم إلى الآكام[/font][font="] [/font][font="]والتلال ، فداو آلامهم وآس جراحهم بكل ما يمتد إليه طوقك وتصل إليه قدرتك[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]ولا تنس يا سيدي أن تقوم بكل هذا على نيتي ، وأن تصرفه من حساب جهازي دون أن تقسم[/font][font="] [/font][font="]شيئا من كلامي إلى حقيقة ومجاز[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]ثم أتوسل إليك بعد هذا في تنفيذ آخر سطر من وصيتي يا مولاي ، وهو أن لا تدع أي حاجز[/font][font="] [/font][font="]يقوم بيني وبين ممو في مقرنا الأخير . دعنا هناك يا أخي ، تنعانق في قبر واحد[/font][font="] [/font][font="]سعيدين منعمين ، تتلامس منا الأبدان التي أحرقها الحرمان وأذابها الشوق والفراق[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]أطلت عليك يا سيدي .. ولكن عذري أن الطريق أمامي طويل ، وحفرتي ، بعدت عنك ، بعيدة[/font][font="] [/font][font="]الغور ، ويوم الفراق قريب[/font][font="] ...‘‘[/font]
[font="] [/font][font="]وهنا استبد الجزع والحزن بالحاضرين الذي كانوا يسمعون كلامها في ذهول وإطراق ،[/font][font="] [/font][font="]وتعالت الأصوات واشتد النحيب ، ولم تبق عين إلا انهمرت بوابل من الدموع . وتقدم[/font][font="] [/font][font="]منها الأمير باكيا ، ضمها إليه وقبل رأسها قائلا[/font][font="] :[/font]
[font="] ’’ [/font][font="]أقسم لك يا شقيقتي - وأنا أخوك الذي قسا ولم يرحم - أنني سأكفر عن ذنبي بكلما[/font][font="] [/font][font="]استطيع . سأقدم روحي ثمنا لجمعكما وسعادتكما . لن أدع والله أي شيء يفرق بينكما لا[/font][font="] [/font][font="]في الحياة ولا من بعدها[/font][font="] ..‘‘[/font]
[font="] [/font][font="]ثم تذكر ممو وحاله في السجن ، فكفكف دموعه والتفت إلى من حوله قائلا[/font][font="] :[/font]
[font="] ’’ [/font][font="]ولكن عليكم الآن أن تبادروا مسرعين إلى السجن لتروا ممو ولتكن معكم زين ، فأنا[/font][font="] [/font][font="]واثق بأنه ليس بنزع .. ولكنها غشية أو ألم قد انتابه ، وسيسري عنه حينما تتلطفون له[/font][font="] [/font][font="]في إدخال البشرى إلى قلبه رويدا رويدا وإخراجه من ذلك المكان[/font][font="] ..‘‘[/font]
[font="] [/font]
[font="] [/font]
[font="] [/font][font="]اللقاء الأخير[/font][font="][/font]
[font="] [/font]
[font="] [/font][font="]ساءت الحال بزين في تلك الليلة أكثر من ذي قبل بكثير ، فقد كان لتلك الغشية الطويلة[/font][font="] [/font][font="]التي انتابتها ، وتلك الدفقة الكبيرة من الدماء التي اندفعت من صدرها أثر كبير في[/font][font="] [/font][font="]إبادة بقية ما تحتفظ به في جسمها من طاقة واحتمال[/font][font="] . [/font]
[font="] [/font][font="]ولكنها على الرغم من ذلك تحاملت على نفسها عندما سمعت من الأمير الإذن بإطلاق سراح[/font][font="] [/font][font="]ممو والأمر لمن حوله بالذهاب إليه وبالإسراع بإخراجه . فقامت ، فتزينت ، وأصلحت من[/font][font="] [/font][font="]شأنها ، ثم امتطت جواد وخرجت مع ذلك الجمع ، يؤمون في تلك الليلة سجن ممو ... وكان[/font][font="] [/font][font="]فيهم اختها ستي ، وبعض من الاهل والأقربين ، وبعض خدم القصر وفتياته ، وقد حمل[/font][font="] [/font][font="]الجميع في أيديهم شموعا لتنير لهم الطريق[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]وانتهو إلى باب السجن المغلق .. وبادر الحارس الخاص ففتح لهم الباب .. وهناك تأخرت[/font][font="] [/font][font="]عنهم زين لكي لا يفاجأ ممو برؤيتها ، بينما أخذ الباقون يدخلون ، الواحد تلو الآخر[/font][font="] [/font][font="]في وجوم ورهبة .. إلى أن وصلوا إلى الدرج الذي يهبط إلى مقر ممو ، فنزلوا فيه[/font][font="] . [/font][font="]والشموع بأيديهم تبدد من حولهم الظلام ، وقد ساد الصمت والرهبة ، فلا يسمع إلا وقع[/font][font="] [/font][font="]الأقدام المتلاحقة على ذلك الدرج . ثم انتهوا إلى مكان ممو ، وقد بدا كالكهف الأصم[/font][font="] [/font][font="]ساكنا خاشعا تموج الوحشة في سائر جهاته وأطرافه[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]وراحت أعينهم تجول في المكان .. وإذ بممو ملقى فوق بساط رث مهلهل ظهر أنه قد اتخذه[/font][font="] [/font][font="]مصلاة له ، لا يترائى فيه أي أثر لإحساس أو روح ، وقد رق كل شيء منه حتى العظم ،[/font][font="] [/font][font="]وانطوت منه الملامح والهيئة التي كانوا يعرفونها ، وعاد كتلة من عظام رقيقة بارزة ،[/font][font="] [/font][font="]في غشاء من الجلد المتغضن[/font][font="] ![/font]
[font="] [/font][font="]والتفوا يسألون حارسه الخاص عن شأنه فأجاب بأنه رآه على هذه الحالة منذ الصباح[/font][font="] [/font][font="]الباكر عندما أتاه بطعام الإفطار ولم يستطع أن يعرف لذلك سببا سوى أن بعض من في[/font][font="] [/font][font="]جواره من المسجونين حدثوه بأنهم شعروا قبل ذلك بأحوال غريبة من حوله ، ولمحوا ضياء[/font][font="] [/font][font="]كبيرا يسطع من زنزانته قبيل الفجر[/font][font="] ..![/font]
[font="] [/font][font="]ولم يفدهم أي شيء من المحايلة وأنواع المنبهات والعلاج في بعثه من تلك الرقدة التي[/font][font="] [/font][font="]لم يكونوا ليعرفوا أهي إغماءة قد انتابته أم هي الرقدة الأخيرة والموت . وحينئذ[/font][font="] [/font][font="]جاءت زين فتقدمت نحوه ، جاءت لتقف أمامه وتحدثه .. ولكنها لم تتمالك ذلك إذ رأته ،[/font][font="] [/font][font="]وسرعان ما ارتمت عليه ، وراحت تهتف باسمه في جزع شديد ، ويبلل وجهه بدموعها الغزيرة[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]هناك .. دب الشعور إلى ممو ، وتفتحت عيناه ، وأخذتا تطوفان بالحاضرين في حركة باردة[/font][font="] [/font][font="]بطيئة .. تدل دلالة واضحة على أن الوقت قد فات .. وانكمش جسمه ، وراح يحاول الجلوس[/font][font="] .. [/font][font="]ثم استدار نحو القبلة دون أن يكلم أحدا ، وهوى ساجدا ..! بينما أخذ الجميع[/font][font="] [/font][font="]ينظرون إليه واجمين ، في حزن وألم[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]وبعد فينة رفع رأسه .. واستدار بوجهه نحو زين ينظر إليها في ذهول وصمت .. وفجأة[/font][font="] .. [/font][font="]دب شيء من الأمل في نفوس الحاضرين فقد أخذ يتكلم[/font][font="] ..![/font]
[font="] [/font][font="]قال لزين بصوت خافت متقطع ، وعيناه تزيغان في وجهها[/font][font="] :[/font]
[font="] ’’ [/font][font="]لقد كنتِ لي نعم الدليل[/font][font="] ‘‘ [/font]
[font="] [/font][font="]فأجابت : ’’ لقد كنتَ لي نعم الخليل[/font][font="] ..‘‘[/font]
[font="] [/font][font="]فقال : ’’ أنتِ نعم السبيل إلى ربّي[/font][font="] ..‘‘[/font]
[font="] [/font][font="]فأجابت : ’’ أنتَ نعم السراج لروحي[/font][font="] ..‘‘[/font]
[font="] [/font][font="]فقال : ’’ أنتِ نور فؤادي[/font][font="] ..‘‘[/font]
[font="] [/font][font="]فأجابت : ’’ أنتَ إنسان عيني[/font][font="] ...‘‘[/font]
[font="] [/font][font="]فقال : ’’ أنتِ سلطان روحي[/font][font="] ..‘‘[/font]
[font="] [/font][font="]فأجابت : ’’ أنت قبلة نفسي[/font][font="] ..‘‘[/font]
[font="] [/font][font="]وهنا انتبه أولئك الذين يسمعون منهما هذه المناجاة إلى أن ممو لم يعد يملك وعيه ،[/font][font="] [/font][font="]وأنه أخذ يغيب عن نغسه ، فدنت منه ستي وقاطعتهما قائلة[/font][font="] : [/font]
[font="] ’’ [/font][font="]لقد جئناك يا ممو لننقذك من هذا الذي أنت فيه ، لا لكي تتكادى في ذهولك وجنونك ّ[/font][font="] [/font][font="]إن الأمير الذي كان قد غضب عليك داخلته اليوم رحمة من أجلك ، وقد أرسلنا لإخراجك[/font][font="] [/font][font="]وتحقيق مرادنا . إن زينا التي جننت بها قد سعت إليك وها هي ذي واقفة أمامك كما[/font][font="] [/font][font="]تشتهي وتريد . إن الأمنية التي طالما تأملتها وغبرت شبابك في الحنين إليها قد أقبلت[/font][font="] [/font][font="]إليك ، إن الناس كلهم اليوم في فرح من أجلك ينتظرون خروجك إليهم ليستقبلوك ويهنئوك[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]فقم .. قم يا ممو لا يغلبنك هذا الهوى فتجن فيه ، لا يصرعنك ، من غير داع ، أمواج[/font][font="] [/font][font="]هذا الشوق فتغرق في عبابه . لا تذهب بقية عمرك في هذا الجنون بددا . لا تبع روحك[/font][font="] [/font][font="]اليوم رخيصة وقد تدانت إليها سعادتها . أعد إليك رشدك الذي طال معه خصامك ، وانفض[/font][font="] [/font][font="]عن رأسك هذا الجنون الذي طال بك تشبثه[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]قم لنذهب معا إلى الأمير .. فستراه اليوم ذا كرم و أفضال ، لقد هيأ من أجلك أسباب[/font][font="] [/font][font="]المسرة والأفراح ، وجمع لك الأحبة والأصحاب ، ولقد مذَ لك في قصره بساط السعادة في[/font][font="] [/font][font="]انتظار قدومك ليهنئك بزين ، وليقيم لأفراحكما الليالي والأعراس[/font][font="] ..‘‘ [/font]
[font="] [/font][font="]ففتح عينيه قليلا وكأنما عاد إليه شيء من صوابه ، وراح يميل رأسه يمنة ويسرى قائلا[/font][font="] :[/font]
[font="] ’’ [/font][font="]لا .. أنا لا أذهب إلى أي أمير ، أنا لا أقف بباب اي حاكم أو وزير ، أنا لا أكون[/font][font="] [/font][font="]غلاما لأي عبد أو أسير . من هو هذا الأمير الذي لا يملك حياته ، ولا يستطيع أن يدفع[/font][font="] [/font][font="]عن نفسه الفناء ، أو أن يضمن لعرشه البقاء ؟! أنا لا تغرني الشعبذة الكاذبة ، ولا[/font][font="] [/font][font="]يبهرني بريق الخيال الفاني[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]لقد انطلقنا إلى باب مولى السادة والعبيد ، واستقبلتنا رحاب سلطان الحكام والأمراء[/font][font="] [/font][font="]، إنه السلطان الذي لا يفرق عدله بين غني وفقير وأمير وحقير . إنه مولى القلوب[/font][font="] [/font][font="]الكسيرة وولي النفوس الحزينة . لقد عقد هو بيننا بيمين لطفه ، وأقام أفراحنا في[/font][font="] [/font][font="]رحاب قدسه[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]فمعاذ الله أن نهبط اليوم إلى أكواخ الفناء ، أو نولي وجهنا شطر العبيد والأمراء ،[/font][font="] [/font][font="]معاذ الله أن نقيم عرسنا إلا في تلك الرحاب التي تنتظرنا ، وحاشا أن يجمعنا إلا[/font][font="] [/font][font="]مولى قلوبنا وخالق أرواحنا[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]ها هو ذا ...لقد زين من أجلنا جنان روضاته ، وجمع لنا في جنباتها قدومنا ، ويستعدون[/font][font="] [/font][font="]للقائنا . إن هنالك الميعاد الأكبر لنا في ظل رحمته رحيق حبنا ، وسيسعدنا إذ ذاك[/font][font="] [/font][font="]مجتمعين برؤية وجهه .. سينسيانا ما ذاقناه من أوصاب هذه الدنيا وآلامها ، وسيسمح عن[/font][font="] [/font][font="]وجهينا قتام الدموع والزفرات ، وسيجبر كسرنا ، ويمحو بؤسنا[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]واشوقاه واشوقاه يا مولاي إلى اليوم الموعود[/font][font="] ...‘‘[/font]
[font="] [/font][font="]وهنا سكت وأغمض عينيه . وكما يسرع فيطير من قفصه ذلك الطائر الأهوج الصغير الذي لا[/font][font="] [/font][font="]يفتأ مضطربا يترامى بجناحيه في جنباته ، إذ تمتد نحو بابه المغلق فتفتحه - أسرعت[/font][font="] [/font][font="]تلك الروح مغادرة ذلك القفص العظمي الذي طالما ظلت معذبة فيه وانطلقت تعلو إلى[/font][font="] [/font][font="]عليائها .. وكأن لم يكن شيء[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]فإنقلبت تلك الزنزانة إلى مأتم يتعالى فيه النحاب والعويل وارتمت زين على أرض ذلك[/font][font="] [/font][font="]المكان وقد خار كل قواها . وذهب الخبر في الساعة نفسها ينتشر في الجزيرة عن طريق[/font][font="] [/font][font="]بعض الحراس الذين أسرعوا ليخبروا الأمير ، قالوا فلم تبق دار إلا وانتشر فيها الحزن[/font][font="] [/font][font="]والكرب . وسهرت الجزيرة تلك الليلة بعين دامعة قريحة . وأسرع تاج الدين فخرج من[/font][font="] [/font][font="]داره ثائرا كالمجنون يتخبط مستعجلا قاصدا السجن الذي يضم خليله[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]وفي الطريق لمحت عيناه ’’ بكرا ‘‘ واقفا بين جمع من الناس على مقربة من القصر[/font][font="] . [/font][font="]فارتمى إليه كالسهم ، ولببه من خناقه بجمع يده ، وأخذ يصعق فيه والحنق مكتظ في وجهه[/font][font="] [/font][font="]، وعيناه ترسلان إليه نظرات كالجمر ، قائلا[/font][font="] :[/font]
[font="] ’’ [/font][font="]أيها الإبليس المزور في لباس إنسان ، أيها الثعبان الذي لم ينفث حلقه إلا نار[/font][font="] [/font][font="]الفتنة والدمار . وقفت أصلب باب مغلق بين هذين المسكينين البريئين ، عشت أبلغ كيّ[/font][font="] [/font][font="]فوق جراحهما الداميين ، حرمت قلبيهما من نصيب هنائهما في الدنيا وحرمتني من إنسان[/font][font="] [/font][font="]عيني الذي ألفه البصر وفؤادي[/font][font="] ![/font]
[font="] [/font][font="]أيها الكلب العقور ، ما وقوفك اليوم على ظهر الأرض بعد أن غيبت خليلي في باطنها ؟[/font][font="]! ‘‘[/font]
[font="] [/font][font="]ثم رفعه بكلتا يديه ، فلوح به من فوق رأسه ، ثم طوح به في الأرض ، فارتطم بها دماغه[/font][font="] . [/font][font="]فكانت القاضية[/font][font="] ..[/font]
[font="] [/font][font="]وتركه ملقى هناك . وأخذ يتابع طريقه إلى أن وصل السجن حيث راح مندفعا في ثورة جامحة[/font][font="] [/font][font="]يخترق زحام الناس واجتماعهم ، دون أن ينظر في وجه أحد ، إلى أن انتهى إلى جثمان[/font][font="] [/font][font="]صديقه الذي كان مسجى في مكانه كما هو ، فألقى عنه الغطاء وارتمى عليه كطفل صغير إذ[/font][font="] [/font][font="]يهوي في أحضان أمه .. أمه التي لم يعد فيها لأي إحساس أو حياة . فبكى ما وسع عينيه[/font][font="] [/font][font="]البكاء ! وانتحب ما استطاع حلقه النحيب .. ثم عاد وقد ازدادت ثورة أعصابه ، وتألقت[/font][font="] [/font][font="]عيناه في احمرار مرعب ... وأخذ يرمي كل شيء من حوله بنظرات ثائرة ويتخيل كل من يراه[/font][font="] [/font][font="]تلقاءه سببا في هلاك ممو وموته . والتفت إلى الحراس الذين كانول واقفين من حوله[/font][font="] [/font][font="]يصعق فيهم ، قائلا ، وقد وقف في بابا الزنزانة والشرر يتطاير من عينيه[/font][font="] ...[/font]
[font="] ’’ [/font][font="]أقتلتموه أيها الأوغاد ...؟ قتلتموه ، أليس كذلك . ولكن .. ولكني سوف أنتقم[/font][font="] .. [/font][font="]سأنتقم منكم أيها الأنذال[/font][font="] ..[/font]
[font="] [/font][font="]سأهدم اليوم هذا السجن .. سأقوض أركانه ، وأجعله قبرا لذلك الأمير الذي بناه . أين[/font][font="] [/font][font="]أنت أيها الأمير ..؟ بل أين أنت أيها الجبان الذي خدعتني وقتلت خليلي . تعال لأنتقم[/font][font="] [/font][font="]منك ، لا بل سآتي أليك في قصرك لأجندلك منه صريعا[/font][font="] ! ‘‘[/font]
[font="] [/font][font="]وما لبثت هذه الكلمات النارية من الهذيان أن أحالت أمره إلى ما يشبه الجنون ، وراحت[/font][font="] [/font][font="]يده تمتدان إلى محاولة إهلاك كل من يراه أمام عينيه ممن يتخيل إليه أنه قاتل صديقه[/font][font="] [/font][font="]ممو ، لولا أن الأمير بلغه ذلك فأمر بتقييده وحبسه في مكام ما إلى اليوم التالي[/font][font="] . [/font][font="]وهكذا مرت تلك الليلة على أهل الجزيرة في جزع شديد وحزن أليم . بينما ظل تاج الدين[/font][font="] [/font][font="]ساهرا في السجن إلى جوار صديقه الراحل يقطع الحزن والبكاء فؤاده[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font][font="]أما زين فقد استطحبتها ستي إلى دارها وقد خار كل قواها وتحملها ، حيث سهرت مع جمع[/font][font="] [/font][font="]من الأهل من حولها يواسونها ويرأفون بقلبها إلى الصباح[/font][font="] .[/font]
[font="] [/font]
[font="] [/font]
[font="] [/font]
[/font]أشرقت شمس اليوم التالي على جزيرة بوطان ، وقد عمها قتام من الحزن والكرب ، ودب[font="] [/font]سائر نواحيها وأسواقها الوجوم والكمد وكأنما تقلصت أشعتها فلم تعد تستطيع أن تبعث[font="] [/font]في جهاتها الرونق والبهاء الكاملين . حتى ذلك القصر المتألق الذي كان يصافح بهاؤه[font="] [/font]الشمس أول ما تبرز ، لقد سطعت عليه في ذلك اليوم وهو كامد ، يذري دموعا غزيرة علّها[font="] [/font]تطفئ نار ندمه وحسرته ولكن دون جدوى[font="] .
[/font]وبعد قليل كانت قد امتلأت الطريق التي بين المقبرة ودار ممو بمعظم أهل الجزيرة من[font="] [/font]نساء ورجال وولدان لتوديعهم قيدهم البائس وتشييع جنازته[font="] .
[/font]وكان موكبا غاية في الامتداد والضخامة ، تماما كذلك الموكب العظيم الذي امتد في[font="] [/font]أسواق الجزيرة يوم عرس تاج الدين ، ولكنه اليوم موكب أغبر قاتم لا تجد فيه بسمه أو[font="] [/font]فرحة عين . إنما هو الدموع والبكاء الذي لا ينقطع ، والعويل والصراخ الذي يتعالى من[font="] [/font]سائر أطراف الأسواق ونوافذ البيوت[font="] .
[/font]وانتهى الموكب إلى المقبرة ، وكانت في رابية كبيرة من الروابي التي تحيط بالبلدة[font="] . [/font]فانبسطت فوقها الجموع من الناس ، وغطاهم سوادهم الكثيف . وازداد هنالك شعورهم بمعنى[font="] [/font]الموت والفناء وأخذت تلوح لأعينهم الحقيقة الراهبة الجاثمة من وراء خداع هذا الدهر[font="] [/font]وأوهامه ، وامتزج ذلك الشعور منهم بالحزن الذي كان قد استولى على افئدتهم للنهاية[font="] [/font]التي لاقاها ممو بعد كل عذاه وحرمانه ، فقامت فوق تلك الرابية مناحة رهيبة عمت[font="] [/font]الرجال والنساء وانجرف في تيارها الكبار والصغار . وظهرت زين بين تلك الحشود[font="] [/font]بقامتها الفارعة ووجهها البادي لأول مرة وانطلقت مندفعة في ثورة كالجنون نحو الحفرة[font="] [/font]التي وري فيها ممو وأخذو يهيلون فيها التراب . ولكن بعض ذويها عرقل عليها عجلتها[font="] [/font]وسيرتهل خشية أن تلقي بنفسها هناك أو يحدث لها أي أمر فوصلت إليها وقد طمها التراب[font="] [/font]وسوي من فوق القبر ، فانهارت عندئذ قواها وارتمت فوق ذلك الجدث تسكب دموعها فوق[font="] [/font]ترابه وتحدث من فيه قائلة[font="] :
’’ [/font]أيها المالك لجسمي وروحي .. أيها الراحل[font="] ...!
[/font]يا من تركت بستانك ومضيت .. هاهو ذا بستانك ، وقد أينع وأثمر ، باقيا من غير راع[font="] [/font]وصاحب . فقل لي من ذا يجينيه اليوم من بعدك ويجوب فيه ..؟ وما بقاء ثمره ونضرته بعد[font="] [/font]أن غادرته ونفضت يديك منه ؟صحيح أن منظره بديع ، وظله وارف وجميل ، وثماره شهية[font="] [/font]يانعة ، ولكنها اليوم والله حرام لغير وجهك[font="] .
[/font]لن أدع غير ريح الردى تجوب في خلاله ، ولن أترك سوى يد الهلاك والتلف تعصف بثماره ،[font="] [/font]سأهز جذع هذه النخلة فليتساقط جناها على الأرض ، وسأبدد ثمار هذه الأغصان والكروم[font="] [/font]فلتذر في مهب الرياح ، سأقوض جذوع هذه الأشجار النضرة وأفتت أوراق هذه الورود[font="] [/font]العطرة[font="] .
[/font]هاتان العينان اللتان أعجبك سحرهما وجمالهما ، سأطفئ اليوم منهما هذا السحر والجمال[font="] . [/font]هذا القوام الذي أسكرك حسنه واعتداله سأحطم اليوم فيه هذا الحسن والاعتدال وسأريق[font="] [/font]الخمر التي كانت تعربد وتسكر . هذه الوجنات والشفاه ، هذه الأصداغ والشعور ، سأمحق[font="] [/font]من كل ذلك الفتنة التي سلبتك ، سأذرو على جميعه التراب والرماد ، وسأمرغه بالضنى[font="] [/font]والسواد ! فلقد كان جميعه نذرا لعينيك ووقفا لبصرك . أما وقد أغمضت عينيك ، فلن[font="] [/font]؟أدع أي عين أخرى ترمقه وتتمتع به[font="] .
[/font]ولكن[font="] ...
[/font]ولكن لا ...! إن هذا تدخل فيما يس من ملكي وشأني ...إنني أخشى أن تعتب علي في تصرفي[font="] [/font]بملكي الذي ائتمنتني عليه وأنك تحب استلام أمانتك كما عرفتها وملكتها[font="] ...
[/font]أولى بي إذاً أن أطوي هذا البساط كما هو ، وأن أسلمك الأمانة كما تركتها وأن أقوض[font="] [/font]إليك جسمي بكل زينته ورونقه[font="] ...‘‘
[/font]ثم انكبت على القبر تعانقه وتتمرغ بترابه ، فأسرع إليها القوم الذين من حولها[font="] [/font]لينهضوا بها ويواسوا حزنها ... ولكن أيديهم لم تقع إلا على جثة باردة جف منها آخر[font="] [/font]قطرة من الحياة[font="] ...!
[/font]هنالك عادت أصوات العويل والنحيب مرتفعة من جديد ، وطار الجزع والكرب بفؤاد[font="] [/font]الحاضرين كلهم ، وألقى الأمير نفسه على جثمانها وقد عدم وعيه ورشده ، يسترحم[font="] [/font]الأقدار أن تتراجع ولكن الأقدار لا ترحم ولا تجيب ولا تعود[font="] ...!
[/font]ثم إنهم جهزوها وشيعوها كما أوصت وأرادت ، وعادوا ففتحوا قبر ممو . وجاء الأمير[font="] [/font]يحمل أخته وعيناه تذرفان ، فنزل إلى القبر ومدها إلى جواره قائلا[font="] :
’’ [/font]خذ حبيبتك يا ممو التي حجبتُها عنك حيا ، ولتسامحني في قسوتي عليك في الدنيا ،[font="] [/font]وفي جنايتي الكبرى على قلبك ، فلقد عاقبتني الأقدار بأكثر مما تريد ... لقد عاقبتني[font="] [/font]بأبلغ كيّ من الندم في قلبي لن يندمل ما بقيت حيا[font="] ..‘‘
[/font]وهكذا حكم الدهر ألا يجتمع ذانك الحبيبان إلا في ظلمات تلك الحفرة .. وأن يتوارى[font="] [/font]أخيرا ذانك الكوكبان في برج واحد[font="] .
[/font]أما بكر فالغريب أنه دفن هو الآخر قريبا منهما بل عند قدميهما مباشرة ! قالوا[font="] [/font]والسبب في ذلك ،وفي أن يلازمهما حتى فيما بعد الممات أيضا ، هو أن زينا حينما سمعت[font="] [/font]بنبأ قتل تاج الدين له اغتمّت لذلك وتألمت ألما شديدا[font="] .
[/font]وقالت إنه لم يكن سيتحق شيئا من العقاب ، ولكن الأقدار هي التي سخرته لهما ليصفو[font="] [/font]حبهما هذا الصفاء الروحي ، ولتسمو نفس كل منهما إلى ما فوق مظاهر المادة وبرجها[font="] .
[/font]ثم أوصت بأن يدفن قريبا منهما قائلة : إنه سيكون حاجبا مخلصا لنا في دارنا الآخرى[font="] ...!
[/font]وهذان القبران معروفان في جزيرة بوطان إلى اليوم ، يستطيع كل من أراد أن يشاهدهما[font="] ...
[/font]والعجيب أن قبر ممو وزين يظل محاطا بسور من ظلال الأشجار والورود ، أما قبر بكر فلا[font="] [/font]تكاد تبارحه الأشواك التي تعلوه في غزارة[font="] .
[/font][font="][/font]
[font="] [/font]
[font="]
[/font]خاتمة واعتبارْ[font="]
[/font]أي رب[font="] :
[/font]أسألك بيحموم عشق المعذبين ، وبكمال صدق العاشقين[font="] ...
[/font]أسألك بحلاوة الجمال ونشوته ، وبعظمة الجلال ودهشته[font="] ...
[/font]أسألك بداء الهجر وعذابه ، وبشهد الوصال ولذة شرابه[font="] ...
[/font]أسألك بلذة حي العاشقين ، وبمرارة عداوة الرقباء والكائدين[font="] ...
[/font]أسألك بماء عيون البلابل والأطيار ، وبالندى المتساقط على الورود والأزهار[font="] ...
[/font]أسألك بما خلّفته ممو من وجد وزفرات ، وبما أسالته زين من دموع وحسرات[font="] ...
[/font]أسألك بكل ذلك يا مولاي أن تزيح عن عينيّ غشاوة هذه الظلال الفانية حتى لا أرى فوق[font="] [/font]صفحة الدنيا إلا قوة سلطانك ، ولكي لا أبصر في زجاجة مرآتها إلا رونق جمالك ، ولكي[font="] [/font]أسكر بالخمر نفسها ، لا بلون الكأس التي تترقرق فيها[font="] ...
[/font]أي رب[font="] :
[/font]لقد آمنت بقوتك وجبروتك ، وأيقنت بنورك وبهائك . آمنت أن هذا الكون كله جسم وأنت[font="] [/font]روحه ، وأن هذا الوجود حقيقة أنت سرها[font="] ...
[/font]أنت حسن زينة الأحبة والعشاق ، وإلى جمالك ميل قلوبهم وهوى أفئدتهم وأبصارهم[font="] ...
[/font]أنت خلقت في الشهد حلاوته وطعمه ، وأنت الذي أوجدت في الدمع حرقته ولذعه[font="] ...
[/font]القلوب ... أنت الذي ألهبتها بتأثير من عظمة جلالك[font="] ...
[/font]أشجار السرو الشاهقة ، أنت الذي خلقت في قامتها هذه البساقة والاعتدال[font="] ...
[/font]الورود الناعمة الحمراء ، أنت الذي أبدعت أكمامها من بين الأشواك القاسية الدامية[font="] ...
[/font]البلابل والأطيار ، أنت الذي ابتليت قلوبها الصغيرة بحسن تلك الورود وجمالها[font="] ...
[/font]تلون الأزهار وخضرة الأغصان ، أنت الذي بثثت فيما بينها روح الفتنة والجمال[font="] ...
[/font]صوت الهزار والعنادل ، أنت الذي أكسبته معنى الطرب والانسجام[font="] ...
[/font]كَحَلُ الأهداب الناعسة ، وسواد العيون المتألقة الباسمة ، وتهدل الشعور والتواؤها[font="] [/font]من حول الوجوه وفوق الأكتاف ، كل ذلك أقل من أن يغتي هذا السحر الذي يأخذ بالألباب[font="] [/font]لو لم تكن قد أمددته بفيض من كنه حسنك[font="] .
[/font]عكست ، يا مولاي ، آيات عظمتك وسلطانك ومظاهر حسنك وجمالك على صفحة الكون الفانية ،[font="] [/font]وأذهلته القوالب والأشكال عن ملاحظة السر الرهيب دون أن ينتبه إلى حقيقة الشمس التي[font="] [/font]تسطع فيها ، وعاش مشغوفا مفتونا بذلك الببغاء وحديثه الآلي دون أن يلتفت إلى المصدر[font="] [/font]الأسمى الذي يخلق هذا الكلام في شفتيه[font="] .
[/font]ومنهم من فتح عينيه ليستعيض عن الحلم الكاذب بالحقيقة الرائعة الجاثمة بين يديه ،[font="] [/font]وانشغل عن الصدى ليستمتع بالصوت الذي سيري من حوله ، واستدبر المرآة ليرى حقيقة[font="] [/font]الشمس التي تسطع أمامه ، ثم خرّ ساجدا لإله الجمال في الكون ، وخالق النشوة في[font="] [/font]الخمر ، ومبدع الرائحة في العطر[font="] !
[/font]أيها الساقي[font="] :
[/font]إنني أبغى الوصول إلى سدة ذاك الجمال .. إنني أريد كأسا من شراب ذلك القدس . فتعال[font="] [/font]فانشلني من بن هذا القتام إلى هناك[font="] .
[/font]تعال ويحك حدثني .. حدثني فإن غبش هذا السكر لا يزال متدجيا أمام عيني ، ولقد كاد[font="] [/font]أن يخنقني[font="] .
[/font]حدثني ماذا ترى في هذا الكون ؟ قل لي ، أهو خيال يسري ، أم هو حلم نحن الذين نسري[font="] [/font]فيه ...؟ ثم أنبأني إلى متى تظل عيناي معتصبتين بخمرك وكيف لي بأن ينتفض عقلي من[font="] [/font]غشاوة هذا الذهول بكؤوسك ؟ فلقد سأمت والله واحترقت ، وما أحوجني إلى أن أتنفس عن[font="] [/font]هذا الحلم الضارب أطنابه علي لأبصر بعينيّ التي طال شوقي إلى رؤيتها والنتهاء إليها[font="] .
[/font]إنني أشعر أيها الساقي ، من وراء هذه الأوهام والخيالات التي من حولي بأسرار كثيرة[font="] [/font]ولكني لا أكاد أهتدي إليها ، وإنه ليتألق أمام عيني بين الفينة والأخرى بريق لامع ،[font="] [/font]يسطع من خلف هذا الضباب ولكن لا أستطيع اختراققه للوصول إليه ، وإنه لينتهي إلى[font="] [/font]سمعي من بين لغط هذا الكون وضجيجه صوت من السماء ما أروعه وأسماه ! ولكني لا أكاد[font="] [/font]من هذا الضجيج أتبينه[font="] ...
[/font]يا إلهي : مزق أمام عيني هذه الحجب المسدلة حتى أراك[font="] ...
[/font]يا إلهي : إقشع من حولي بصيرتي خمار هذه الدنيا وسكرتها حتى أهتدي إلى عظمتك التي[font="] [/font]تسير وتنفخ فيها الوجود والحياة[font="] ...
[/font]يا إلهي : أزح من أمامي صور الجمال الخالد .. جمال ذاتك التي أشرقت بها الدنيا وما[font="] [/font]فيها[font="] ...
[/font]يا إلهي : لا تحرم قلبي إذ يختفي وجيبه وتسكن دقاته من نصيب وافر من العشق والتعلق[font="] [/font]بهذا الجمال الباقي والسر العظيم[font="] ...
[/font]الفصل الأخير : مناجاة مع القلم[font="]
[/font]أيها الفارس الهائم في فلاة القرطاس ، متنكسا لمحو إشراقه ، مغرما بتسويد بياضه[font="] . [/font]حسبك ما سجلته من أخطاء ، وكفاك ما سودت من صفحات ، فقد آن لصريرك أن يهدأ ، وآن لك[font="] [/font]أن تعتدل و تترجل[font="] .
[/font]لقد أكثرت ، أيها الراكب الأغبر المسنون ، من تقبيح هذه الصفحات الناصعة بسوادك ،[font="] [/font]ولقد بالغت في تشوه وجهاا بالخطوط والخيلان ورسوم ,, الباء ‘‘ و ’’ الدال[font="] ‘‘ . [/font]والخطوط مهما لطفت في دقتها أو جملت في نسخها ورونقها ، فإن من القبح أن يكثر رصفها[font="] [/font]، ويعمّ على وجه القراطيس سوادها . ألم تر إلى الغَُرر ، كيف تغدو رائعة إذ تكون[font="] [/font]نتفا قليلة توحي بالفتنة وتعبر عما حولها من إشراق ، وكم تكون قبيحة إذ تعم الجبهة[font="] [/font]طولا وعرضا ، وتمتد من فوقها كامتداد الزمام ...؟[font="]
[/font]أما الكلمات ومعانيها ، فمهما تعالت في الرتبة إلى مصاف الجواهر والدرّ ، فإن[font="] [/font]الإكثار جديرا بإنزالها إلى حضيض اللغو الذي لا قيمة له . ألم تر أن الدرّ إنما سمت[font="] [/font]قيمته لفقدانه ، وأن اللؤلؤ إنما زها بريقه في الأبصار لبعد مناله ؟[font="]
[/font]على أنك كم نفثت بين ذلك من خلط وأخطاء .. وكم تجاوزت به إلى الألوان من السهو[font="] [/font]والعصيان ، حررتها بلا روية وسجلتها من غير تأمل ! .. فقل لي ، من ذا يتولى اليوم[font="] [/font]مدحه وتحسينه ، بل من الذي يتحمل كل ذلك ممن يراه ...؟[font="]
[/font]أيها العود الأجوف الرقيق[font="] :
[/font]ماذا أفدتني إذا بريت منك هذا الرأس قلما سوى أخطاء رقمها منك هذا اللسان ...؟[font="]
[/font]ماذا تركت لي فوق هذه الصفحات إلا آثارا من نشوة العصيان ونقوشا من ذكريات اللهو[font="] [/font]والآثام ...؟[font="]
[/font]حسبك .. حسبك انصرافا إلى تسجيل ما تمليه عليك الأهواء ، وكفاك انهماكا في مظاهر[font="] [/font]اللهو والألعاب . فلقد آن أن تقلع عن كل ذلك تائبا نادما ، وآن أن تتبين طريق الحق[font="] [/font]لتسلكه مستغفرا باكيا ، وإلا فالنوبة من ورائك لاحقة بك ، ولعلها تفجؤك عما قريب ،[font="] [/font]فلا تفيدك حينئذ اليقظة والانتباه[font="] .
[/font]
[font="] [/font]
[font="] [/font]
[font="] [/font]
ولكن القلم ما إن طرق سمعه هذا الكلام حتى هبّ ثائرا ، فامتطى صهوة الأنامل وقد سلّ[font="] [/font]لسانا كالسيف يقارعني به قائلا[font="] :
[/font]أي أحمد[font="] :
[/font]لو لم تكن أنت ذلك الخبيث الذي تصف ، لما برّأت نفسك عن إثم أنت صاحبه لتلصقه[font="] [/font]ببرائتي وضعفي ، ولعلمت أنني لم أكتب إلا الذي قلته ، ولم أرسم إلا ما تصورته[font="] . [/font]فالقول قولك حقا كان أم باطلا ، والفعل فعلك خطأ كان أم صوابا[font="] .
[/font]أيها المتصرف فيما تتهمني به[font="] :
[/font]إنك لتعلم أنني كنت عدما في طوايا التراب ، ثم أنبتتي الأقدار قصبا في عالم الرياض[font="] [/font]والبساتين ، تتمايل النسمات بقوامي الفارع يمنة ويسرة ، ليس لي صرير أسجل به قولا[font="] [/font]ولا صفير أبعث به لحنا . ثم عمدت إليّ فأبعدتني عن الأهل والأوطان واقتلعتني من بين[font="] [/font]الرفقة والأصحاب . فاتخذت مني قسما لتسجيل أقوالك .. واخترت قسما آخر لتصوير طربك[font="] [/font]وآلامك . نقلتني من بين روضتي ووطني إلى رياض الشوق والهجران ، وثقبت جهات من جسمي[font="] [/font]بكّ العشق والآلام . ثم رحت تنفخ فيه روحا من أنفاسك ألهبت مني الكبد والجوانح ،[font="] [/font]فكان كل بكائي من تعذيبك وإحراقك ، وكان جميع آهاتي لنفخك وأنفاسك[font="] .
[/font]أنا جماد ضعيف أبكم ليس لي لسان ، وقصب يابس لا يتأتى مني أي نطق أو بيان ، ولكن[font="] [/font]أنت الذي اتخذتني إصبعا سادسا بين بنانك ، وأنت الذي جملت بي مجالس طربك وألحانك ،[font="] [/font]وأنت الذي سوّدت بس صحائف لهوك وعصيانك . وإلا فمنذا الذي سمع بأن الناي ينطق من[font="] [/font]غير نافخ ، أو أن القلم ينقش من غير كاتب ...؟[font="]
[/font]أي رب[font="] :
[/font]إنك لتعلم أن ’’ الخاني ‘‘ الضعيف إنما هو في قبضتك مثل هذا القلم المقيد المعذور[font="] . [/font]قلبه في يدك ، وجوارحه ملك لتصرفك .. أنت الآمر القوي وهو المأمور الضعيف . أنت[font="] [/font]المالك الغني وهو المملوك الفقير . ولئن كنت قد منحته يا مولاي في شؤونه بعض تصرف[font="] [/font]أو اختيار ، فلقد فوض ذلك أيضا إليك ، وتجرد من كل اختياره وتصرفه لسلطانك وأمرك[font="] . [/font]فهو بكل ما أوليته - سواء كان علما أم قلما أم عملا - ملك لأمرك ووقف لتصرفك[font="] [/font]وإرادتك . وهو وحقك يا مولاي لا يفرق بين نفع له وضر ، ولا يملك لنفسه سعيا إلى خير[font="] [/font]أو تجنبا عن شر[font="] ...
[/font]وهو على كل ما لطخه من صفحات كثيرة بمداد القبائح والآثام ، ليس له دونك من غرض أو[font="] [/font]قصد ، وليس له بغيرك أي طاقة أو حول[font="] ...
[/font]كل ما سطرته يا إلهي من أول سطر في صحائف حياتي إلى أخره إنما هو نتيجة خطك وتقديرك[font="] [/font]، وإنها لسطور كثيرة قد حوت سجل ثلاثين عاما من عمري الذي مضى * ... إذ كان التاريخ[font="] [/font]حينما انفكت روحي عن غيبها إحدى وستين وألفا[font="] .
[/font]ولقد ناهزت اليوم العام الأربع والأربعين ، ولست أرى فوق كاهلي إلا ركاما من[font="] [/font]السيئات والآثام ، لا أجد بينها درهما من عمل صالح قدمته[font="] .
[/font]رباه[font="] :
[/font]كما وفقتني في نهاية هذا السِّفْر إلى الالتفات لعظمتك والتسبيح بحمدك ، أسألك أم[font="] [/font]توفقني في نهاية حياتي أيضا إلى التمسك بهديك والإيمان بلطفك وحكمتك[font="] ...
[/font]
[font="] [/font]
[font="]
* [/font]كان هذا عمرأحمد خاني حينما ألف هذه القصة مع إضافة أربعة عشر عاما ، وهي أيام[font="] [/font]الصبا التي استثناها من سجل أعماله . فاذا أضيفت إليه كان أربعة وأربعين كما بين[font="] [/font]ذلك فيما بعد[font="] ...[/font][font="][/font]
[font="]الملحمة منشورة في موقع باخرة الكور[/font]
هذا الموقع يستخدم ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز ) للمساعدة في تخصيص المحتوى وتخصيص تجربتك والحفاظ على تسجيل دخولك إذا قمت بالتسجيل.
من خلال الاستمرار في استخدام هذا الموقع، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط.