نشأة الشيخ خالد
هو أبو البهاء ضياء الدين خالد بن أحمد بن حسين المعروف بالنقشبندي لاشتهاره بها، وقد ذكر الشيخ عثمان بن سند النجدي في كتابه (أصفى الموارد، ص 27) أن الشيخ خالد ولد سنة (1190 هـ) تقريباً، في (قره داغ) وتعني (الجبل الأسود)، وهي قرية جميلة، تزدان بجمال الطبيعة من أشجار ومياه، وتقع على مسافة خمسة أميال (8 كم) من مدينة سليمانية في جنوبي كوردستان (إقليم كوردستان- العراق)، وفيها مدارس دينية عديدة وصفها النجدي (أصفى الموارد، ص 27 – 28)
وينتهي نسب الشيخ إلى پير ميكائيل، وينتهي نسب والدته إلى پير خضر؛ وكلمة (پير) من المصطلحات الدينية والاجتماعية القديمة في كوردستان، وكل من يحمل هذا اللقب يحظى بكثير من التقدير والاحترام ، ولقب (پير) من المراتب الدينية الكبرى في الديانة الزردشتية التي كان الكورد يعتنقونها قبل الإسلام، وما زال الكورد الأيزديون يحتفظون بهذا اللقب في سلّم المناصب الدينية الإيزدية إلى يومنا هذا. وفي رواية أن الشيخ خالد ينتسب إلى عشيرة ميكائيلي، إحدى فروع قبيلة جاف الكبيرة الممتدة في شرقي كوردستان وجنوبيها.
مسيرته العلمية
بدأ الشيخ خالد مسيرته مع العلوم الدينية في إحدى مدارس قريته (قَرَه داغ)، فحفظ القرآن في زمن قصير، ثم انكبّ على علوم اللغة من نحو وصرف، ونهل من علوم الفقه والتصوّف، ورحل طلباً للعلم المنقول والمعقول في أرجاء جنوبي كوردستان، وتلقاه على أيدي العلماء المشهورين، ومنهم الشيخ عبد الكريم البَرزَنْجي، فدرس عليه شرح الجامي (وهو شاعر صوفي فارسي شهير)، كما درس على الشيخ عبد الرحيم البرزنجي، وهو أخو الشيخ عبد الكريم، ثم توجّه إلى كوى (كويسنجق) وحرير، فقرأ كتاب شرح الجلال على تهذيب المنطق بحواشيه على الشيخ عبد الرحيم الزياري المعروف بلقب (ملاّ زاده)، وقد وصف النجدي هذا الشيخ في كتابه (أصفى الموارد، ص 33) بقوله:
" سطعت أنواره في الكورد، وتفجرت ينابيع حكمه في كل واد، ... لم يدع من الفنون فناً إلا ارتقاه، ... ولا خفياً من الإشكالات إلا أبان محيّاه، ولا وادياً من التحقيق إلا سلكه، ولا تِبراً من التدقيق إلا سبكه ".
قرأ الشيخ خالد شيئاً من شرح الجامي على الملا محمد صالح، ودرس علم المنطق على الشيخ إبراهيم البياري، ثم شدّ الرحال إلى بغداد، فقرأ على عدد من العلماء، وعاد من بعد إلى كوردستان، فعرض عليه بعض الأمراء الكورد أن يعمل مدرساً في إحدى مدارس العلم، فاعتذر بأنه لمّا يبلغ بعد هذا المقام، وتوجّه بالرحلة إلى سِنَنْدَج في شرقي كوردستان، وقرأ العلوم الحسابية والهندسية والفلكية على العالم المدقق الشيخ محمد قسيم السنندجي، وعاد إلى مدينة سليمانية ليتولّى التدريس فيها بعد وفاة أستاذه الشيخ عبد الكريم البَرزَنْجي بالطاعون سنة (1213 هـ)، وكان خلال ذلك ينشر العلم، ولا يتردّد على الحكام، ولا يحابي أحداً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الرحلة الهندية
وفي سنة (1220 هـ) تاق الشيخ خالد إلى حج بيت الله الحرام، فبدأ (الرحلة الحجازية) من طريق الموصل وديار بكر والرُّها وحلب ودمشق، واجتمع في هذه الحواضر بعلمائها الأعلام، ففي دمشق سمع من مدرس دار الحديث الشيخ محمد الكُزْبَري، وصحب تلميذه الشيخ مصطفى الكوردي. ثم مضى إلى الحجاز حاجاً، وأشار عليه بعض أهل العلم في مكة بالرحلة إلى الديار الهندية.
وبعد تمام حجه عاد إلى مدينة سليمانية، وبدأ (الرحلة الهندية) سنة (1224 هـ) من طريق الرَيّ (قرب طهران)، وخاض هناك مناظرة مع العالم الضليع إسماعيل الكاشي فأفحمه، ثم دخل بِسْطام، وزار قبر الشيخ الصوفي الشهير أبي يزيد البِسْطامي، ثم دخل طُوس، وزار فيها مشهد الإمام علي الرضا، ثم دخل مدينة هَراة في بلاد الأفغان، واجتمع بعلمائها وحاورهم، فأقرّوا له بالفضل ثم دخل قُنْدِهار وكابُل وبِيشاور، فامتحنه جمعٌ من علمائها، وحاور في مسائل من علم الكلام وغيره مما تسبر به الأفهام. (انظر: أصفى الموارد، ص 59).
وانتهت به الرحلة إلى مدينة دهلي المعروفة باسم (جهان آباد)، وهي نفسها مدينة نيودلهي عاصمة الهند، وهناك أخذ الطريقة النقشبندية بعمومها وخصوصها ومفهومها ومنصوصها على شيخ مشايخ الديار الهندية حضرة الشيخ عبد الله الدهلوي، " فلم يمض عليه نحو خمسة أشهر حتى صار من أهل الحضور والمشاهدة ، وبشره شيخه ببشارات كشفية قد تحققت بالعيان" (انظر: الحديقة الندية ، ص38).
ولم تكمل عليه السنة حتى شهد له شيخه بالوصول إلى كمال الولاية، وأجازه بالإرشاد، وخلّفه الخلافة التامة، وبإشارة من شيخه اجتمع بالعالم والواعظ والصوفي المولى عبد العزيز الحنفي النقشبندي، وبعد سنة من الملازمة أجازه هذا الشيخ بإجازة لطيفة، وأمره بإرشاد المسترشدين وتربية السالكين في كوردستان والعراق والشام وغيرها من البلاد.
الرحلة الدمشقية
عاد الشيخ خالد إلى بلاده كوردستان عن طريق مسقط (عاصمة سلطنة عمان) وشيراز، ويَزْد، وأصبهان، ثم أتى هَمَذان، وسِنَنْدَج، ووصل إلى مدينة سليمانية سنة (1226 هـ)، فاستقبله الأعيان، وبدأ بإرشاد الناس في علمي الظاهر والباطن، فانبرى له بعض الحساد، وكادوا له عند حاكم كوردستان بأشياء كان بريئاً منها، فرحل إلى بغداد سنة (1228 هـ)، فلاحقه الحساد والأعداء بالكيد والدسّ هناك، وألّبوا عليه والي بغداد سعيد باشا، لكن علماء بغداد دافعوا عنه، وفنّدوا مزاعم أعدائه.
وعاد الشيخ خالد إلى سليمانية، فبنى له أمير الأمراء محمود باشا ابن عبد الرحمن باشا الباباني زاوية ومسجداً يأوي إليه الفقهاء والفقراء وطلبة العلم والمريدون، قال البغدادي في (الحديقة الندية، ص 3):
" وانتفع به خلق كثيرون من أهل بغداد، وكركوك، وأربيل والكورد من نواحي السليمانية وكوى والعمادية، وبعض نواحي الهكّارية وماردين وديار بكر وعَنْتاب وحلب والشام والحرمين الشريفين ".
ويبدو أن الوقيعة دبّت بين الشيخ خالد وبين الباشا الباباني حاكم مدينة سليمانية، نتيجة تعدّد خصومه، ولا سيما بين بعض رجال الطريقة القادرية المنافسة من ناحية، ولأنه بدا وكأنه منافس للباشا من حيث سعة النفوذ بين الجماهير من ناحية أخرى.
فرحل الشيخ إلى دمشق سنة (1238 هـ) الموافق (1820 م)، وصحبه كثير من العلماء والأشراف والخلفاء والمريدين، منهم العلامة عبيد الله أفندي الحيدري مفتي بغداد سابقاً، والعالم العامل الشيخ إسماعيل الأناراني، والشيخ عبد القادر الديملاني، والعلامة إسماعيل البرزنجي، والشيخ عيسى الكوردي، والشيخ محمد الفراقي، والشيخ عبد الفتاح العقري، والشيخ عبد الله الهراتي، وغيرهم.
واصطحب الشيخ معه زوجاته الأربع وأبناءه، وأخاه محموداً وولديه، وحين وصل إلى دمشق استقبله كثير من أهلها، ولما استقر به المقام، هُرع لزيارته الخاص والعام، واحتفى به علماء دمشق من أمثال محدّث الديار الشامية الشيخ عبد الرحمن الكزبري، والشيخ حامد العطّار، والشيخ حسن البيطار، والشيخ عبد الغني السادات، والشيخ حسن الشطّي، وشرع ينشر العلوم الشرعية، ويرسخ دعائم الطريقة النقشبندية، ويرشد السالكين، ويربي المريدين.
ويعرف ذرية الشيخ خالد في دمشق باسم (آل الحضرة)، ويعرف ذرية أخيه الشيخ محمود باسم (آل الصاحب)، ويسمى فرع من هؤلاء باسم (النقشبندي)، وهي أسر متوسطة فيها التجار والموظفون ورجال الدين والضباط، ومنهم الشهيد المقدم عادل الحضرة، استشهد في فلسطين عام (1948 م). وفيهم المحامون والمهندسون والأطباء، على أن بعضهم لا يعرف أنه من أصل كوردي إلا بالسماع. كما أن الشيخ محمد أسعد الصاحب تفقه في الدين، ووصل إلى أرفع منصب ديني في السلطنة العثمانية، وهو (شيخ الإسلام) على عهد السلطان محمد رشاد (انظر: منذر موصلي: عرب وأكراد ، ص 281 ، 282 ).غرباً، وله من المؤلفات :
- شرح لطيف على مقامات الحريري (لم يكمل).
- شرح على حديث جبريل سماه: فرائد الفوائد (باللغة الفارسية).
- ديوان نظم بديع ونثر .
وذكر له من كتب ترجمته بعض الكرامات، ومنها أن جماعة من أعدائه من أكابر مدينة سليمانية أجمعوا على قتله، واستقر رأيهم أن يكون ذلك يوم الجمعة على باب المسجد، فلما كان يوم الجمعة حضر إلى الصلاة وخلفاؤه معه، فلما قضيت الصلاة خرج الخلفاء، فرأوا زهاء مئتين من الأعداء وقوفاً بالأسلحة، فانتظروه حتى خرج آخر الناس بالسكينة والوقار، فالتفت إليهم بعين الجلال، فمنهم من سقط في الحال، ومنهم من هرب، ومنهم من صاح وانجذب، ثم مشى مع جماعته حتى وصل إلى زاويته.
ووصفه يوسف بن إسماعيل النبهاني في (جامع كرامات الأولياء، 2/57) بأنه:
" مجدد الطريقة النقشبندية، وهو أحد أكابر أئمة العلماء والصوفية ".
وتوفي الشيخ خالد في دمشق بالطاعون سنة (1242 هـ).