الشبح ... والطريدة
في وسط السوق المكتظة بالناس تجمد عروقه, وقف بمكانه وعيناه جاحظتان باتجاه شخص يبعد عنه بمسافة بضع أمتار , كان الواقف يرتدي هنداماً أنيقاً , واضعا نظارة سوداء وكأنه بانتظار شخص ما .
حاول تغيير مساره وبسرعة البرق ولج إحدى المحلات القريبة بحجة التبضع واشترى أشياء تكاد تكون غير ضرورية لبيته ودقات قلبه الوجل في ازدياد مضطرد , انسل من المتجر دون إن يلاحظ عليه أحد ذاك الرعب القابع في ذاته , استأجر سيارة بمبلغ كان سيكفيه لمدة أسبوع , بددت حركاته غير طبيعية وهو داخل السيارة , ينظر خلفه تارة وتارة أخرى يسترق النظر من خلال مرآة السيارة والعرق يتدفق من جبينه المليء بالتجاعيد بالرغم من سنين عمره التي لم تتجاوز الخمسين , ومن حين لآخر ينظر إلى ساعته . كأن ميعاده مع العزرائيل قد حان . وبحركاته المريبة تلك جعل السائق بسؤاله :
-ما بك يا أخ , هل تشكو من شيْ ؟ أرح من جلوسك فالمكان واسع ...
-لا...لا..المكان واسع ولكن صدري ...؟
- ما به صدرك....!
-كاد يذبحني...
رفع السائق رجله عن مرجل البنزين ووضعها على الكابح , فاندفع الاثنان إلى الإمام بحركة لاإرادية , التفت إليه السائق وقال باستغراب:
-أتعني ... لاسمح الله أتتك نوبة جلطة !.
-لا .. لا.. رجاءا لا تتوقف , أسرع , أسرع وبكلمات تمتم لم يتلقفها أذن السائق : باريت تكون جلطة لأخلص من هذا العذاب والخوف .
-من ينظر إليك سيظن بأنك مطارد من أحد ؟.
-لا ... لا...فقط أشعر بضيق شديد . قد يكون الدخان هو السبب .
-هل متأكد أنك بخير , إذا لم يكن معك نقود بإمكاني إيصالك إلى الدكتور الذي تريده ؟.
-لا ... شكراً , فقط أريد أن تزيد من سرعة السيارة - قال ذلك وهو بتصبب عرقاً – والتزم الصمت .
بعد حين صمتت هدير السيارة و توقفت إمام هنكار تحيطها خضرة مكسوة بلآلئ بيضاء , تسو رها أشجار دوار الشمس الزاهية , حيث يبدو للمرء وكأنه أمام لوحة جميلة تذكرنا بلوحة الفنان فان كوخ .
لاحظ السائق علامات الخوف والوجل مازالت مسيطر ة على حالته بالرغم من وصوله بالسلامة إلى كوخه وعيونه الذاهلة من حين إلى آخر ينظر إلى تلك الشرايين الترابية المؤدية إلى بيته , قدم ثانية خدماته ومساعدته , إلا انه لم يرد ببنت شفة حيث أخرج من جيوبه النقود ووضعها بيد السائق واتجه إلى الباب بدون أن يشكره أو يستقبله بكأس شاي , مثلما يفعل القرويين الكرام .
تلمس السائق مقبض علبة السرعة وشفط السيارة بحركة جنونية غاضبا من تصرفه الغير لائق .
خرج أولاده فرحين بعودته من المدينة وهم يتلقفون تلك الأكياس المرمية على الأرض ولكنهم لاحظوا عليه تلك العلامات المحبطة والميؤسة و التي ذكرتهم بأيامهم المريرة عندما كانوا في قريتهم .
أسرع أحدهم إلى والدته لأخبارها بحالة والدهم , رمت ما بيدها وخرجت مسرعة الخطى وهي تردد ( عندما ذهب إلى المدينة لم يشكو من شيء , أترى قد تشاجر مع صاحب الأرض , أعرف المزارعين الملاكين لايشبعون , أنهم كالجراد , يأكلون الأخضر واليابس , يستلفون النقود من كل الناس وعند الحساب يقولون إنتاجنا كان خاسرا أو أن المصرف حجز على الأموال ) . دنت منه متسائلة :
-ما بك يا رجل ...؟ ماذا حصل لك ...؟
-وبصوت خافت رد :لا شيء ...لاشيء .
-كيف لا شيء ووجهك أصفر كالليمون .
-كل ما هنالك تعبت من السفر .
-أي سفر يا رجل ؟! وهل تحسب مدة ربع ساعة سفر , لولا الخجل من الناس بإمكانك الذهاب سيرا على الأقدام , المدينة قريبة , إنها رمية حجر , ثم أنك تعمل في الأرض ليلا نهارا ولم يصيبك مما أصابك ألآن , أنت منهار تماما , انظر إلى نفسك في المرآة , أكيد تشاجرت مع المالك , أليس كذلك ؟
-(هز رأسه ) ... نعم ..نعم ..تشاجرت معه , ارتحت ألان ...؟ اذهبي وافرشي أن رأسي يؤلمني سآخذ قسطاً من الراحة وإذا غفوت لا أحد يستيقظني , والتفت إلى أولاده قائلاً : هل فهمتم ...؟
ما أن أغمض عينيه , حتى رآه منتصبا أمامه بلباس أسود فاحم وبلهجته المعتادة حيث فتح قاموسه المليء بالشتائم ومصطلحا ته التي يجعل من المرء أن يندم طيلة حياته بأنه جاء على وجه الخليقة . وفي قبضته الحديدية كبلا رباعيا لايعرف مذاقه إلا من كتب عليه الشقاء .
- لماذا هربت مني ولا..؟ هل تعتقد بأنك ستنفذ بجلدك إذا هاجرت إلى محافظة ثانية ولا , لا.. يا (.......) أمثالك لو تخبوا تحت سابع أرض , لو بدنا ... نجرك مثل (الك........)
-بس يا سيدي ...
-قاطعه – لا تبسبس ولا , شو نسيت أصول ألحكي , بهالسرعة .
-ياسيدي صار لي أربع سنوات بعيد عن أهلي , نسيت كل شيء . وأنت لاحقتني إلى هنا ؟ تركت أرضي وقريتي وصرت فلاح عند العالم ولسه عم تحاسبونني على شيء ما بفهم منه , أنا غير الأرض والزراعة ما بعرف شي , صدقني يا سيدي أنا بخاف من ظلي . هات يدك أبوسها. يا ناس اتركوني بحالي والله العظيم نسيت .
-بس نحنا مابننسى شيء , كلو في اللوح المحفوظ , الارشبف جاهز وما نكذب .
-قال في سره : صحيح ما تكذبوا بس التلفيق على أبو جنب .
-شو قلت ولا .
-لا ياسيدي ما قلت شي .
-شو ولا , عم تكذب كمان , شو قلت في سرك , نحن عم نلفق على أبو جنب ولا , ورفع سوطه . دوى صريخه عاليا وهو يتوسل طالباً الرحمة والسماح و بحرقة يقول : أنا كذاب , ياسيدي كذاب ابن كذاب .
ارتعبت زوجته وأولاده من ذاك الصريخ وتوجهوا إليه وانتشلوه من الفراش مذعورين من حالة معينهم وهو مبلول بالعرق.