قصص قصيرة .. ماهين شيخاني

  • بادئ الموضوع بادئ الموضوع jan-brin
  • تاريخ البدء تاريخ البدء


الشبح ... والطريدة
في وسط السوق المكتظة بالناس تجمد عروقه, وقف بمكانه وعيناه جاحظتان باتجاه شخص يبعد عنه بمسافة بضع أمتار , كان الواقف يرتدي هنداماً أنيقاً , واضعا نظارة سوداء وكأنه بانتظار شخص ما .
حاول تغيير مساره وبسرعة البرق ولج إحدى المحلات القريبة بحجة التبضع واشترى أشياء تكاد تكون غير ضرورية لبيته ودقات قلبه الوجل في ازدياد مضطرد , انسل من المتجر دون إن يلاحظ عليه أحد ذاك الرعب القابع في ذاته , استأجر سيارة بمبلغ كان سيكفيه لمدة أسبوع , بددت حركاته غير طبيعية وهو داخل السيارة , ينظر خلفه تارة وتارة أخرى يسترق النظر من خلال مرآة السيارة والعرق يتدفق من جبينه المليء بالتجاعيد بالرغم من سنين عمره التي لم تتجاوز الخمسين , ومن حين لآخر ينظر إلى ساعته . كأن ميعاده مع العزرائيل قد حان . وبحركاته المريبة تلك جعل السائق بسؤاله :
-ما بك يا أخ , هل تشكو من شيْ ؟ أرح من جلوسك فالمكان واسع ...
-لا...لا..المكان واسع ولكن صدري ...؟
- ما به صدرك....!
-كاد يذبحني...
رفع السائق رجله عن مرجل البنزين ووضعها على الكابح , فاندفع الاثنان إلى الإمام بحركة لاإرادية , التفت إليه السائق وقال باستغراب:
-أتعني ... لاسمح الله أتتك نوبة جلطة !.
-لا .. لا.. رجاءا لا تتوقف , أسرع , أسرع وبكلمات تمتم لم يتلقفها أذن السائق : باريت تكون جلطة لأخلص من هذا العذاب والخوف .
-من ينظر إليك سيظن بأنك مطارد من أحد ؟.
-لا ... لا...فقط أشعر بضيق شديد . قد يكون الدخان هو السبب .
-هل متأكد أنك بخير , إذا لم يكن معك نقود بإمكاني إيصالك إلى الدكتور الذي تريده ؟.
-لا ... شكراً , فقط أريد أن تزيد من سرعة السيارة - قال ذلك وهو بتصبب عرقاً – والتزم الصمت .
بعد حين صمتت هدير السيارة و توقفت إمام هنكار تحيطها خضرة مكسوة بلآلئ بيضاء , تسو رها أشجار دوار الشمس الزاهية , حيث يبدو للمرء وكأنه أمام لوحة جميلة تذكرنا بلوحة الفنان فان كوخ .
لاحظ السائق علامات الخوف والوجل مازالت مسيطر ة على حالته بالرغم من وصوله بالسلامة إلى كوخه وعيونه الذاهلة من حين إلى آخر ينظر إلى تلك الشرايين الترابية المؤدية إلى بيته , قدم ثانية خدماته ومساعدته , إلا انه لم يرد ببنت شفة حيث أخرج من جيوبه النقود ووضعها بيد السائق واتجه إلى الباب بدون أن يشكره أو يستقبله بكأس شاي , مثلما يفعل القرويين الكرام .
تلمس السائق مقبض علبة السرعة وشفط السيارة بحركة جنونية غاضبا من تصرفه الغير لائق .
خرج أولاده فرحين بعودته من المدينة وهم يتلقفون تلك الأكياس المرمية على الأرض ولكنهم لاحظوا عليه تلك العلامات المحبطة والميؤسة و التي ذكرتهم بأيامهم المريرة عندما كانوا في قريتهم .
أسرع أحدهم إلى والدته لأخبارها بحالة والدهم , رمت ما بيدها وخرجت مسرعة الخطى وهي تردد ( عندما ذهب إلى المدينة لم يشكو من شيء , أترى قد تشاجر مع صاحب الأرض , أعرف المزارعين الملاكين لايشبعون , أنهم كالجراد , يأكلون الأخضر واليابس , يستلفون النقود من كل الناس وعند الحساب يقولون إنتاجنا كان خاسرا أو أن المصرف حجز على الأموال ) . دنت منه متسائلة :
-ما بك يا رجل ...؟ ماذا حصل لك ...؟
-وبصوت خافت رد :لا شيء ...لاشيء .
-كيف لا شيء ووجهك أصفر كالليمون .
-كل ما هنالك تعبت من السفر .
-أي سفر يا رجل ؟! وهل تحسب مدة ربع ساعة سفر , لولا الخجل من الناس بإمكانك الذهاب سيرا على الأقدام , المدينة قريبة , إنها رمية حجر , ثم أنك تعمل في الأرض ليلا نهارا ولم يصيبك مما أصابك ألآن , أنت منهار تماما , انظر إلى نفسك في المرآة , أكيد تشاجرت مع المالك , أليس كذلك ؟
-(هز رأسه ) ... نعم ..نعم ..تشاجرت معه , ارتحت ألان ...؟ اذهبي وافرشي أن رأسي يؤلمني سآخذ قسطاً من الراحة وإذا غفوت لا أحد يستيقظني , والتفت إلى أولاده قائلاً : هل فهمتم ...؟
ما أن أغمض عينيه , حتى رآه منتصبا أمامه بلباس أسود فاحم وبلهجته المعتادة حيث فتح قاموسه المليء بالشتائم ومصطلحا ته التي يجعل من المرء أن يندم طيلة حياته بأنه جاء على وجه الخليقة . وفي قبضته الحديدية كبلا رباعيا لايعرف مذاقه إلا من كتب عليه الشقاء .
- لماذا هربت مني ولا..؟ هل تعتقد بأنك ستنفذ بجلدك إذا هاجرت إلى محافظة ثانية ولا , لا.. يا (.......) أمثالك لو تخبوا تحت سابع أرض , لو بدنا ... نجرك مثل (الك........)
-بس يا سيدي ...
-قاطعه – لا تبسبس ولا , شو نسيت أصول ألحكي , بهالسرعة .
-ياسيدي صار لي أربع سنوات بعيد عن أهلي , نسيت كل شيء . وأنت لاحقتني إلى هنا ؟ تركت أرضي وقريتي وصرت فلاح عند العالم ولسه عم تحاسبونني على شيء ما بفهم منه , أنا غير الأرض والزراعة ما بعرف شي , صدقني يا سيدي أنا بخاف من ظلي . هات يدك أبوسها. يا ناس اتركوني بحالي والله العظيم نسيت .
-بس نحنا مابننسى شيء , كلو في اللوح المحفوظ , الارشبف جاهز وما نكذب .
-قال في سره : صحيح ما تكذبوا بس التلفيق على أبو جنب .
-شو قلت ولا .
-لا ياسيدي ما قلت شي .
-شو ولا , عم تكذب كمان , شو قلت في سرك , نحن عم نلفق على أبو جنب ولا , ورفع سوطه . دوى صريخه عاليا وهو يتوسل طالباً الرحمة والسماح و بحرقة يقول : أنا كذاب , ياسيدي كذاب ابن كذاب .
ارتعبت زوجته وأولاده من ذاك الصريخ وتوجهوا إليه وانتشلوه من الفراش مذعورين من حالة معينهم وهو مبلول بالعرق.
 

عندما تصدع الجدار
تبدد أمواله هباء منثورا , وأصبح يعمل الآن وبعد أن ودع ربيع العمر وشارف تخوم الخريف , بقوت يومي لا تكاد تكفيه مصروفه الشخصي , , لم يكن يوما مبذرا ولا مقامرا , ولم يصرف قرشا في الحرام . وهذا واضح للعيان من دخانه الذي هو أردئ الأصناف من التبغ . ومن ألبسته العتيقة التي مرت عقدا من الزمن, حيث أغلبها من البالة .
كل ما في الأمر , أن ديونه لم تعد إليه , والسبب في ذلك طيبته وتعامله مع الناس وتقديره لظروفهم الصعبة , و حسب رأي والده لو كان بإمكانهم الدفع لما تهربوا حيث لا يوجد إنسان يريد أن يذل نفسه للآخر .
كانت أيامه , حلوة وسعيدة مع أسرته , ووضعه المادي لأبأس , ولم يكن بحاجة لأي شخص , حتى أن بعض رفاقه كانوا يتمنون أن تكون حالتهم المادية والاسرية , ميسورة كحالته الأسرية المتفاهمة والحالة المادية المستقرة . لكن يبدو أن الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن . فكان زورقه الصغير يحمله مع أربعة أطفال وأمهم , أحيانا , كانت تهب عليهم ريح خفيف من سوء تفاهم أو بعض الملاحظات ولكن يتغلب عليها بالحكمة والتفاهم بينه وبين زوجته .
إلى أن جاءت يوما وسردت له حكاية أهلها وأهله , حيث باتوا يضايقونها ويسألونها عن أموالهما وعن كيفية إنفاقها , و يقولون لابد إنكم تملكون الكثير وقد تدخرون أموالكم في البنوك .
كان يستمع إليها وهي تتكلم , مبتسما , لما يدور برأس هؤلاء , من أفكار .
-قالت : وتبتسم , غريب أمرك يا أخي , أصبحت بينهم أضحوكة وأنت تبتسم ولا يهمك شعوري وأحاسيسي .
- بالله عليك ماذا قلت لهم , نملك أموالا وندخرها في البنوك الوطنية أم البنوك السويسرية ؟ أم لنا اسهم في الشركات وتجارة العقارات ؟.
-دعني اكمل الحديث , انك دائماً تقاطع حديثي ولا تسمعني - واستأنفت - يقولون أن بيتنا غير مرتب وفيه الكثير من النواقص , ولاتصرفون عليه شيئاً , وأنتما الاثنان تعملان , زوجك في المحل , وأنت تقبضين راتبك , أين تذهبان بمالكما , ثم أردفت - صحيح والله أنا أيضا أفكر مثلهم أحيانا - أين نذهب بالمال , لا أكل مثل الناس , ولامطاعم , ولا ألبسة ولا مشاوير ؟. ودائما نرى أنفسنا في آخر الشهر خالي الوفاض , صفر اليدين ؟.
-حبيبتي لو وضعت في يدك آلة حاسبة , كنت وقتها ستعرفين أين يذهب الأموال . المصاريف باتت صعبة يا غاليتي , وبما انك تساهمين معي في هذا ولا تستطيعين الدفاع عني , بل أصبحت مثلهم تشكين في ذلك ؟. فالأفضل أن تدخري راتبك أن كنت شاطرة وذكية ؟ وأنا سأتكفل بمصروف البيت من الآن وصاعداً. لا تتضايقي أبداً . لأحب الزعل بعيونك .
-لا تفهمني غلط , أقصد ............
-قاطعها : لاغلط ولاهم يحزنون , أنت لك راتبك ودخري كيفما تشائين , وهذا حقك الطبيعي والشرعي وتصرفي به مثلما يحلو لك , وأنا سأتدبر أمري .
-وكيف تدبر أمرك , والشغل في تراجع هذه السنوات .
-لا عليك , سأبيع الشقة التي هي مازالت على العظم , وسأشتري عقاراً آخر والفائض سنضعه بين أيدينا .
-لا يا حبيبي , الشقة باسمي ولن أتخلى عنها وأتنازل لك ؟.
-ولكن الدفعات كانت من حسابي !.
-إطلاقا .
كانت هذه أول عاصفة هوجاء تلاطمت زورقه الصغير , وبدأ أهلهما والوسط الخارجي , يتهامسون بأنها لا تساعده , وتدخل الطفيليون في حياتهما وأصبحوا يلقنوهما دروسا في الواجبات الزوجية والحياتية .
ويوم بعد يوم اتسعت الهوة بينهما , وتلذذت هي بالامتلاك وأصبحت شيئا فشيئا تبتعد عنه ولم تعد تشركه أو تشاوره في كثير من الأمور وأصبحت تهمل تربية أولادها كإهمالها لوالدهم .
25-6-2009
 

شيطانة .. بجلباب محامية
ألا يا أيها الساقي أدر كأساً وناولها ........متى ما تلقَ من تهوى دعِ الدنيا وأهملها
من شعر ( ملايي جزيري ) , أجل كلما كان قدماي تسيران بي لاشعورياً إلى مكتبها , أجلس بالقرب منها وهي وراء طاولتها الفخمة, تتحرك بغنج ثم تتوجه نحو البوفيه لتصنع لي نسكافية وتقدمه لي بتلك الأنامل الرقيقة التي تعزف على أوتار قلبي بدون استئذان وأنا ارتشف رحيق عطرها لدى اقترابها مني حين أشعل لها سيجارتها وانتشي مع كل شفة بنظرة إلى هذه الأميرة , أميرتي وحدي أنا , أتذكر الجزيري لما وقع بصره صدفة على سلمى وهام بها حتى وصل إلى درجة الجنون . ثم أبحر في خيال لامتناهي وهي تضع لي أغاني خوليوايغيسلاس المطرب الاسباني المشهور.
آهٍ ... أيها الملا ...!. قم ودر كأساً , انظر لا بل اسجد لهذه الجنية الحسناء , ستندم وستتحسر حتماً على كل قصيدة أو بيت نسجه خيالك في مديح سلماكَ . سلمايَ أحلى وأجمل , أنقى وألذ.
أخذت تدريجيا تنسيني همومي ووجعي , رمت بمشاكلي في بحر النسيان لتحتل هي مكاناً شاسعا في تلافيف مخي بل سيطرت على كياني بالكامل بكلامها وإحساسها المرهف لدى مناقشاتنا في مواضيع شتى وكأنها غاصت كلؤلؤة في أعماق بحاري وجالت بين ضلوعي بل أخذت مكانها بين ضلعي المفقود واكتشفت كل مكنونات قلبي , أسراري وكنوزي .
ذات مرة سألتها :
- أستاذتي , ممكن لو سمحت لي بطرح سؤال لجنابك لا يخص بموضوعي؟.
- تفضل _ قالتها بكل رقة و تأوّد .
- هل أنت شيوعية أم يسارية ..؟.
- بابتسامتها المعهودة قالت : وكيف عرفت ذلك ؟.
- من تلك الصورة المعلقة في مكتبتك ..؟
- أنها صورة أخي .
- أخوك أم رفيقك في درب النضال .
- ابتسمت وقالت : يبدوا أنك تعرف هذه الشخصية , مع العلم كل من زارني لم يتعرفوا عليه , هذا رمز للنضال والمقاومة..؟.
- ارنستوا تشي غيفارا , صورة فريدة فعلاً , قد لا يلاحظ ذلك الكثيرون مثلما تفضلت .
- بالرغم من أنك تعاني من مشكلة عائلية لايتحملها أحداً ولكنك متماسك وقوي , يوماً بعد يوم تدهشني وتبهرني بثقافتك واطلاعك وذكائك , أحياناً أستغرب كيف حصلت لك هذه المشكلة , أمثالك يجب علينا أن نحني لهم قبعاتنا بكل احترام . ولوَّت رأسها انحناءً
- آه ...بدأنا بتقليد الأجانب , يا رفيقة آرنستوا ؟.
- أنها لحقيقة , ولن أخفيك بان تلك السيدة زوجتك مع كل الأسف لا تستحق أن تكون في سجل دفترك العائلي .؟. آه لو رزقني الله برجل بصفاتك ونبلك .
- حتى ولو كان يماثل وضعي , متزوجاً ولديه دزينة أولاد ..؟
- الأولاد ليسوا بذي مشكلة , خاصة إذا كانوا كبارا مثل أولادك ولكن وجود زوجة ثانية معي أنا , هنا تكمن المشكلة بل مستحيل أن أعيش مع امرأة ثانية..؟.
- إذاً أفهم منك أن زوجتي لا تستحق أن تبقى في دفتر العائلة .
- هذا صحيح , يؤسفني أن أخيرك بذلك , نعم إنها لا تستحقك , بالرغم من كوني امرأة والدفاع عن حقوق المرأة ملتزم وواجب علي , لكن أأكد أنها لا تستحقك , خير علاج لها الكي ...؟.
- تقصدين الطلاق ..؟.
- بالتأكيد .
- وأنتِ..؟.
- مبدئياً , سأساعدك في الأتعاب , ولننظر إلى القضية بتأني في المرحلة المقبلة ..؟.
 

ليس هناك دافع آخر...؟

منذ أربعة أيام وزوجتي تتأفف وتطلب مني السم , لا تجزعوا ولا يخطر ببالكم أي سوء أو مكروه , إنها لا تفكر بالتخلص مني بالرغم من أنني أسهر ساعات طوال على قراءة الكتب أو تصفح الإنترنت ( ضرتها ) حسب ما تقول , كل ما في الأمر أن جواري بيوتهم أثرية قديمة ومن الطين باستثناء الجهة الغربية حيث هناك جدار كونكريتي عازل بيني وبين دار والدي منذ أن طالبتهم بالإرث, أجواؤنا هذه الأيام تذكرنا بقيظ جهنم ولهيبها جيداً , فقد اشتدَّ غباره وخرجتْ العقارب من أوكارها وأصبحتْ تغزونا من كل الجبهات .
في منتصف الليل وأنا أسهر كعادتي انتابني إحساس غريب , دفعني للذهاب نحو المطبخ , صدقوا لو قلت لكم غدوتُ أسمع دبيب العقرب أو هكذا خُيَّلَ أليَّ ولدى قيامي بفتح الباب وإضاءة النور , صدق حدسي , ولم أتذكر لحظتها كيف كنت رافعاً سلاحي الذي كان بقدمي وبحركة فنية مدربة لقذف الحذاء , والتدريب جاء نتيجة عرض التلفزيونات لرمية ( منتظر الزيدي ) المعروفة ورميات أخرى أصبحت اعتيادية على وجوه بعض الشخصيات السياسية , صار العقرب في خبر كان , التصق بالبلاط تماماً, تناثرت أحشاؤها وصغارها منتشرة حولها , حينها أدركت بأنها أنثى , لحقتها بخبطة من مداسي الآخر الذي بقي برجلي على ذيلها المتحرك , دهستها بقوة وعصرتها , ثم قمت بتنظيف أرضية المطبخ دون أن تحس زوجتي النائمة على فعلي , لو علمت بأن العقرب قد دخل المطبخ ستترك المطبخ والبيت والحارة كلها ومن الممكن أن تهجرني .
كعادتها على آذان الصبح نهضت من جانبي لأداء الصلاة , ذهبتْ لبهو الصالون ومدَّت سجادتها باتجاه القبلة. وما أن هيأت ذاتها على أداء الفريضة , حتى أحست بشيء ما على قدمها الأيمن , نظرت بفزع وهي إمرأة ترعابة , انتفضت صارخة بصوت عالٍ , أرعبتني وأرعبت الحارة بكاملها.
فزتُ من فراشي مذهولاً باتجاه الصراخ وإذ هي واقفة على الكنبة ترتجف مذعورة وتصرخ لا تقترب , ابتعد , ظننت لحظتها بأنها قد جُنت أو لمسها الشياطين بالرغم من أنني لا أؤمن بهذه الخزعبلات فالمرأة هي بحد ذاتها تعقد الأنس والشياطين وصارت تؤشر بيدها انظر حولك , خُذ حذرك من العقرب ..؟.
- أي عقرب يا امرأة ..؟
- هناك ....هناك في الزاوية .
صدرت مني قهقهة لدى اقترابي منه , ثم تحولت إلى ضحكة هستيرية .
- أتضحك , أصبحت سخريتك أليس كذلك ..؟. – قالتها بغصة .
- قلت : ابن الحرام جاء ليثأر .
- ليثأر ممن ..؟.
- مني أنا, لقد قتلتُ زوجته الحاملة بصغارها , هدئي من روعك سألحقه بهم ..؟!.
- ثارت ثائرتها وقالت : لن أبقي لحظة في هذا المسكن المسكون بالعقارب وجميع أنواع الحشرات .
طبعاً هذا الموشح بقي طيلة أربعة أيام , وهي تطالبني بالحل الجذري لهذه المشكلة التي باتت تعكر صفوة حياتنا بل تهددها.
رغماً عن أنفي صرتُ أبحث عن حلول , فتوجهت إلى مجلس البلدية بعدما علمت من مصادر مؤكدة بأن البلدية لديها سم قوي المفعول كالذيفان , فعَّال لدرجة إنها تقضي على البشر والحيوان , تأبطت ُ قارورة فارغة ملفوفة بكيس نايلون أسود ودخلت الباب دون أن أعلم بأن هناك اجتماع عمل حضره مسؤول كبير , على ما يبدوا أنني كنت مراقب بأجهزة الكترونية حديثة , لحظات وإذ أجد نفسي محاصر وفوهات البنادق موجه صوبي , زأر أحدهم :
- قف مكانك و أرفع يديك عالياً ..؟.
- بذهول ولاشعورياً رفعت يدي , سقطت القارورة على بلاط , ارتطمت ...أصدرت صوتاً وأصبحت جُذاذات, نظرتُ حولي وإذ بهم منبطحين أرضاً وفي حالة تأهب تام , بانتظار أمر من مسؤولهم بإطلاق النار.
ارتعدت فرائصي , شعرت بدوار من الهلع والخوف ,كما أنني شعرت بأن الدم قد جف تماماً من عروقي , خارت قواي وتهاوت كل أجزاءي دفعة واحدة كبناية تتهاوى .
إلا أن الحظ أسعفني حين تدخل أحد المعارف في المجلس وبعدها تدخلوا كبار الوجهاء والمسؤولين في البلدة وبعد التدقيق والتمحيص , تأكدوا من حقيقة الأمر , بأن سبب مجيئي كان محض صدفة في هذا الحين ولأجل كمية من سم العقارب وليس هناك دافع آخر من وراء ذلك . جاءني أحدهم واضعاً يده على أنفه وناولني قنينة جاهزة من السم , حدق بيَّ و قال :
- خذ وانقلع , ولا ترني وجهك ثانية , أ كان هذا وقتك ..؟. لقد سببت لنا مشكلة وخيمة , سُدت شهية السيد المسؤول عن الطعام , أصابه غثيان في معدته وجاءه الرجيعُ مرتين , رأيته مُبَرْطِماً لدى سماعه كلمة العقرب ..
- وما ذنبي إذا برطم...؟. ألا يعلم بأنكم توزعون هذا السم , أقصد هذا المبيد .
- أرعد وأبرق ثم قال : هل تعتقد أن معدته كمعدتك يا ....؟. غيب عن ناظريه , قبل أن يراك ويزجك في السجن , بقاؤك لا يحمد عقباه ..؟.
صارت عيناي تبحث عن المخرج لألوذ بالفرار والخروج بأسرع وقت ممكن , وأخذت رجلي تسابق الريح دون أن أنظر إلى ورائي والقنينة في قبضتي كأنني حصلت على جائزة ثمينة .
حقيقة ً كانت عقوبتي قاسية جداً , الخوف أصبح مضاعفاً , خوف في الداخل وخوف من الخارج , تخيَّلوا وأنا بهذه الحالة , قمت برش المبيد في جميع الغرف و الجدران والثقوب والسطوح القريبة منا والعرق ينصبب من جبيني , لترجع زوجتي وتعدل عن قرارها .

 
عينا روزا ..


كانت روائح شتى من الأطعمة تتسرب إلى داخل ذاك المنزل الشبه الأثري في حي قديم الذي يسكنه طالب جامعي مع أخته التي تصغره بعدة أعوام والتي قامت بدورها لحظتئذٍ بتحضير بعض حبات من درنات البطاطا في طبق صغير تسمى ( المفركة ) بجانبه صحن تحتويه أقراص من الفلافل مع أبريق من الشاي المكرر , الباب مفتوح على مصارعيه كالعادة للتهوية لعدم وجود نافذة لاستقبال نسمات الهواء عوضاً عن التكييف , تفوح من جوارهم ألذ وأشهى أنواع الأطعمة , حتى بات بإمكانهما معرفة ما أحضره كل منزل سفرتها للفطور في شهر رمضان المبارك .
فجأةً , أقحمت هرة صغيرة هزيلة منهكة تجرجر ذيلها الخامل هدأة سكونهما ومزقت صمتهما , فنظرا لبعضهما ومن ثم إلى تلك الهرة باستغراب , تمتم بنبرة أليمة : سبحان الله تركت كل هذه البيوت واتجهت إلينا , لبيت لا تملك لقمة تفتخر بها أمام هذا الروح , حتى رائحة لحم لن تحصلي عليها أيتها القطة , لو كنت بجانب مطعم ألآن لكنت على أحسن حال من هذه الزيارة , ولوفرت عناء التعب والمشقة, على الأقل كنت ستحصلين على رائحة شواء أو بعض من العظام المرمية في الحاويات. أما عندنا يا للحسرة حتى الخبز يابس , عليك نقعها بالماء لبلعها ؟.
أرادت أخته بذكاء وفطنة أن تخفف من محنته فقالت: يا الله ما أجمل عينيها ؟ انظر إلى عيناها الزرقاوات , كم تشبه عينا (روزا ) ؟.
ارتسم على شفته ابتسامة ساخرة وقال : ومن روزا هذه..؟.ثم أستأنف : أوه تذكرت , تقصدين جارتنا بنت البلد أم عيون الصافية كزرقة السماء..؟.
تماماً , لون عيونها وجسمها الهزيل المائل إلى لون البرتقالة , توحي لي بأنها ماثلة أمامنا , سبحان الله , الخالق الناطق , كأنها تحولت إلى هذه القطة.
نظر إلى القطة بشفقة , سبقته أخته بما يجول في خاطره لتقديم شيء ما للقطة بالرغم من أنه لا يملك سوى بعض النقود القليلة و قالت :
أخي ...؟!. لم لم تذهب إلى المحل وتشتري لروزا قطعة لحمة أو علبة ( مرتديلا ) . إنها ضيفة ؟.وإكرام الضيف واجب , أليس كذلك ؟.
(( حك بأصابعه القلقة رقبته , فكر بما في جيبه من نقود )) قال : كذلك . أختي.كذلك والله فكرة حميدة , لأبأس بها لكن دقائق قليلة سنسمع دوي المدفع و تغلق المحال أبوابها حتماً و جميع المحال موصدة في هذا الوقت – ثم استطرد - مع ذلك لن أخذلك أمام ضيفتك , سأسعى للبحث , ربما أجد محلاً فاتحاً, تكرمين أنت وروزاك هذه ؟. كرمال عين تكرم مرج عيون .
خرج الشاب والهرة تنظر إليه بتودد وكأنها فهمت ما دار بينهما من حديث عن الطعام والواجب .
لحظات قليلة وكانت في يده علبة صغيرة من المرتديلا , فتحها ووضعها على جريدة قديمة وقدمها وجبة للضيفة , أكلت الوجبة بشراهة , لم تبقِ على شيء وصارت تلحس بلسانها قاع العلبة ثم تتلمظ شفتها وجسمها , جلست على مقعدها , مدَّت رجلها الأمامي إلى رأسها مسدتها وحكتها , كأنه لمس منها الرضا والشكر , ثم تركتهما واتجهت نحو الباب وهي رافعة ذيلها .
كم كان إطعام هذا الحيوان الأليف مصدر سعادة لهما, تسلل الفرح إلى روحهما كتسلل تلك الروائح الشهية من الأطعمة إلى داخل غرفتهما , بالرغم من أن بطونهما الفارغة تلتهبا جوعاً وعطشاً , وهما بانتظار الدقائق القليلة المتبقية للمدفع , لم يجد قط إحساساً رائعا ًسيطر على حالته كهذه , حتى إنه وجد من الصعوبة تفسير وشرح مدى وعمق هذه السعادة بل النشوة العارمة التي حظي بها كإنسان راق يرفق بحيوان أليف , أحس بكثير من الغبطة والسرور وهو يرى هذا الشعور المماثل على ثغر أخته وهي تلوح بكفها مودعة القطة وتقول : باي روزا المدللة , أنا ذاهبة للمطبخ ؟.
بعد الإفطار بفترة وجيزة , دخلت القطة مسرعة باتجاهه وهي تموء مواءً غير طبيعي ,كأن كارثة ستحصل وهو ممدد على فراشه للاسترخاء بعد حشو معدته ب ( مفركة ) كالوحل وبعض أقراص الفلافل الباردة , اصطدمت ذيلها بكأس الشاي التي بقربه ولم تأبه لذلك , بل تقدمت و نطت على الوسادة وأصبحت تبحث عن شيء ما , انتابه شعور بالقلق والخوف من تصرفها الغريب , كونه يعلم أن بعض الحيوانات أحياناً تحس بأشياء قبل حدوثها كالزلازل مثلاً , أثارت القطة حفيظته فرفع الوسادة بهدوء يشوبه الحذر, انتفضَ وقفز في الهواء لاشعوريا حين وقعت عيناه على عقرب داكن اللون , هرع نحو الحذاء , أما هي فانقضت عليه بسرعة البرق وأخذه بمخلبها جانباً , تصارعه بكل ما أوتيت من قوة وبعدما تخلصت منه رآها تترنح كأنها فقدت توازنها ثم تمددت وهي تموء وتئن كلحن حزين , حينها أدرك أن العقرب قد سارع بلسعها , ظل جامداً في مكانه بدون حراك, ليس بوسعه فعل شيء لإنقاذها أو تخفيف الألم عنها سوى دموعه التي انسالت على خده البارد وهو يودعها بنظراته الممتنة , أغمضت عينيها الجميلتين وانقطعت مواءها .
 

الجسر

لا أعلم لم هذا الكلب يخرج في نفس التوقيت , لحظة وصولي تماماً بالقرب من دارهم , ينبح يتجه نحوي بشراسة كأني شغله الشاغل أوكأن بيني وبينه ثأر , يحوم حولي حتى يكاد يلامسني , يهز ذيله ويكشر عن أنيابه ويسيل الروال منه ثم يخرج منه زمجرة قوية ترتعد فرائصي , أتصنم موضعي بلا حراك , مستسلماً كي يكف بلاه عني – هكذا قالوا لي أهالي القرية : أذا هجم عليك الكلاب قف في مكانك ولا تتحرك - وجبيني تتفصد العرق , ثم يبتعد قليلاً رافعاً ذيله على ظهره كالسيف منتشياً بنصره وتفوقه , أترى لأنني غريب عن القرية ؟. هناك عدد لأبأس يمرون في نفس الشارع الذي أمر به كل صباح وهم غرباء عن القرية مثلي تماماً , لماذا لا ينبح عليهم ؟ .
أصبح كل أهالي القرية يدركون بتوقيتي وبحالي المزري الذي يرثى له, مصفر الوجه تستنجد عيناي بالمارة أو سكان القرية لسكوت هذا الكلب اللئيم , لقد وضعني في مخه السقيم وأنا على دراية وثقة بأنه سوف يسبب لي الأذى وسأكون ذات يوم من ضحاياه مرمياً في أحدى زوايا المستشفى أعالج بإبر الواحد والعشرين التي توخز في البطن.
أقطع أشواطاً طويلة , خمس وسبعون كيلومترا للوصول إلى هذه القرية النائية على ضفة الخابور, لا أحسب حسابا للمشقة والأجرة ولا حتى للمهالك ومخاطر السفر يوميا بالفوكسات ودراجات النارية التي هي من أشد أنواع الخطورة وحوادثها تكاد تكون شبه يومية, سوى حساب تلك الثواني المرعبة والتي لا مفر لدي سوى المرور من ذاك الشارع الإجباري حيث أسير بدبيب خافت يكاد لا يسمع النمل لأقدامي كلما دنت المسافة بيني وبين مسكنه أو يحالفني الحظ وينفرج همي بنقلي من القرية وهذه صعبة كوني جديد في الوظيفة حيث معظم الناس يحسبون بأن نقلي هو تأديبي , كيف لإنسان يقطع هذه المسافة المرهقة إن لم يكن وراءه سبب ؟. أو استقالتي من الوظيفة وقطع لقمة العيش عن أسرتي.
ذات يوم وأنا أخطو اتجاه الجسر كالعادة ( خارج القرية ) وإذ به يلاحقني وينبح نباحاً لايهدأ وآزره رفاقه الكلاب واعتلى عواءهم في ذاك العراء , وقفت جامدا في مكاني دون حراك كعادتي , تدرج لون بشرتي تلقائياً ولم تعد ترى في وجهي رائحة دم , أغمضت عيناي وسلمت أمري إلى الله بالنهاية المؤلمة والمتوقعة .
بعد حين خيم السكوت والصمت لم أعد اسمع العواء , أترى كنت شاردا أو حالماً بهذا الكلب , أكيد لا..؟. أتذكر إنني كنت قد خرجت من المركز وسرت باتجاه الجسر لعل سيارة أو دراجة نارية مارقة توصلني للمفرق , ولكن لم أحظى تلك الساعة بشيء فاضطررت أن أمشي سيراً على الأقدام.
فتحت عيني شيئا فشيئا لدى سماعي صوت ملائكي , رأيت خيالاً أبيض كملاك , بيننا بضع خطوات تشير للكلاب بالابتعاد والكف عن العواء. سحبت كمية كبيرة من الهواء إلى جوفي ثم فرغتها بزفرة طويلة لدى تأكدي من ابتعادهم
تقدمتُ نحوها لتقديم الشكر وثنائها على مؤازرتها وتخليصي من تلك الكلاب , إلا أنني كلما كنت أقترب منها أحس بأنها تتلاشى كالسراب تماماً , ألتفت حولي أبحث عن تلك الملاك، بحثت عنها خلف الجسر، على أطرافها … لكنني لم أعثر لها على أثر، ولم ألمحها ، من أين جاءت وكيف اختفت ؟. هل خرجت من جوف الأرض أو ألقت بها السماء…بغتة ؟.لأدري.
مددتُ رأسي قليلاً لدى اقترابي من حافة الجسر وإذ تخترق مسامعي أنين أفزعني ,كاد قلبي يفز من بين جنباي , غمرتي الحيرة والارتباك , وأنا استرق السمع لذاك الأنين محاولاً معرفة مصدره, بالرغم من ذاكرتي المشوشة إلا أنني تذكرت بأن أحدهم في المركز تحدث عن قصة حب كانت نهايتها مأساوية أدت إلى قتل الشاب تحت الجسر في ظروف غامضة - حتى أنهم قالوا تفاجئنا بشبه كبير بينك وبينه من ناحية الملامح المتقاربة تماماً _ ومن ثم انتحار فتاته بعده , عندما التاعت فؤادها والتهفت عليه فألقت بنفسها إلى قاع النهر. ثم أتذكر بأنه قال : تصور كانت الفتاة برفقتها جرو صغير لا تتركها أبدا , وقال : سمعت في أحد الليالي لدى مروري وحيداً على الجسر لصوت خافت كالأنين , يتردد من خلاله حشرجات وكأنه في النزع الأخير, حينها أدركت لم كان هذا الكلب ينصب اهتمامه نحوي
 
عودة
أعلى