دِيرسم
سحر سليمان
صرخت به: إنه قلبي أرجوك لا.. ديرسم، لا.
مددتُ يدي، لأبعد يده عن عنقي، واليد الأخرى تتلمس مكان الدم الذي بدأ ينزف من عنقي، أصرخ ديرسم! أصرخ، ويدك مازالت تريد المزيد من دمي النازف لا. لا. استيقظتُ مذعورةً وأنا مازلتُ أصرخ بك، وأمد يدي لإبعادك! حاولتُ أن أتبين الوقت، لكنَّ الستارة المسدلة تزيد من عتمة الغرفة، أيعقل أن أكون قد غفوت كلَّ هذه المدة؟ فمنذ الثانية عشرة ظهراً، وأنا ملقاة على سريري أشعلتُ الضوء لأتبين الوقت يا ...! إنها الثانية صباحاً، تلمستُ عنقي، لازالت السلسلة الذهبية معلقة فيها تلك القطعة الملونة بـ (كَسْكْ، سُورْ، وزَرْ)، تلفتُ حوالي، كانت هناك أشياء مبعثرة، صور أشرطة، أوراق كثيرة قد كتبها "ديرسم"، أردتُ الخروج من غرفتي، كي أتنفس الهواء، فبرزت جمجمتك المعلقة تحت الضوء كأنها تسألني أين تذهبين؟ والعبارة التي خطتها يدك: (حتى جمجمتي تصرخ: أحبك يا علم بلادي)، أردتُ الخروج، لكن تمنعني عيون أبي وأمي التي تنظر إليَّ، ربما شفقة أو حيرة، فوالدي قد التقى بديرسم قبلي، وعرف بقراره قبلي، بل وشجعه: لاأريد لأحد من أهلي أن يرى تلك الحالة التي شاهدوني حين عدتُ ظهراً، انهمار دموعي، حزني، كنتُ أحث الخطا، كي أصل سريري، أرتمي عليه، وأبكي بلوعةِ مَنْ فارق أمانيه.
أبعدتُ الورقة والشريط الذي كان يغلف هدية ديرسم، لأجد صوراً قد جمعتني به، وشريطاً قد سجله بصوته، فيه أغانيه الأثيرة لقلبه، وأوراق عدة بخط يده، وما فاجأني هو صورة شعاعية لرأس، مؤكد أنه رأسه، رأس ديرسم، قمتُ بتأطير الصورة، وعلقتها تحت الضوء بطريقة طبية. هذا الاعتكاف أو الحصار الذي أرغمني عليه ديرسم، أم أنني أنا من أرغم نفسه عليه، فقد دخلت غرفتي، وأنا أنوي أن أهرب من عالمي الآخر، هل نويتُ أن..؟ ربما أحاسب نفسي أوربما أعاقبها، أو ربما أشحذ همتها وصبرها على الانتظار، فديرسم لم يكن طائشاً أبداً، ولم يكن يخضع لأية اغراءات، أو وعود حين قرر هذا الرحيل، فقد لمستُ ذلك في أعماقه من خلال علاقتنا التي امتدت خمسة أعوام متتالية، كانت معرفتي به سطحية، إلى أن جاء اليوم الذي تسلم فيه ديرسم مهمة قيادة الاجتماعات بنا، فقد كنا رفاقاً تجمعنا مبادئ وأفكاراً عدة، وأرضاً واحدة تبعثرتْ، فهو ليس أهوجَ، حتى يتخذ قراره بهذه السرعة، مؤكد أنه منذ زمن طويل، ويحسب له ويفكر به، وهذا ما أعرفه عنه خلال اللقاءات التي كانت تجمعه بوالدي، والده الذي كان يوكل إليه بعض المهام، ليختبر قوته وصبره، كبر ديرسم وكبرت مهامه، كثيراً ماكان يردد أمامي: "لاتترددي عن انتقادي، لأن هذا تحديدا سيفيدني أكثر، ثمت أشياء كثيرة يا "مهاباد"، أكبر من أحلامنا الصغيرة المتواضعة، ثمت حلم بوطن وأرض واحدة، يرفرف عليها العلم بألوانه الزاهية (قوس قزح)، وحين أهمس بذلك لأبي، يروح، ليحدثني عن ديرسم وأهله وفجيعتهم، ويقول بتنهد: "ياابنتي نحن ولدنا هنا، وكبرنا، توارثنا البيت، الأرض، الهوية، النسب، ولم تحرق أرضنا أمامنا، ولاتهدم لنا بيوت نحن بنيناها، ولم نرحل عنوة عن قرانا، والرصاص في قلوب أولادنا وأقاربنا"، ويكمل والدي الحديث عن ديرسم وعشيرته، وكيف شردت، وعوملت بوحشية، وترحل روحي مع ذكريات بعيدة، عشتها مع ديرسم الذي كان في أية مناسبة تجمعنا يغني أغنيته الأثيرة إلى قلبه.
سحر سليمان
صرخت به: إنه قلبي أرجوك لا.. ديرسم، لا.
مددتُ يدي، لأبعد يده عن عنقي، واليد الأخرى تتلمس مكان الدم الذي بدأ ينزف من عنقي، أصرخ ديرسم! أصرخ، ويدك مازالت تريد المزيد من دمي النازف لا. لا. استيقظتُ مذعورةً وأنا مازلتُ أصرخ بك، وأمد يدي لإبعادك! حاولتُ أن أتبين الوقت، لكنَّ الستارة المسدلة تزيد من عتمة الغرفة، أيعقل أن أكون قد غفوت كلَّ هذه المدة؟ فمنذ الثانية عشرة ظهراً، وأنا ملقاة على سريري أشعلتُ الضوء لأتبين الوقت يا ...! إنها الثانية صباحاً، تلمستُ عنقي، لازالت السلسلة الذهبية معلقة فيها تلك القطعة الملونة بـ (كَسْكْ، سُورْ، وزَرْ)، تلفتُ حوالي، كانت هناك أشياء مبعثرة، صور أشرطة، أوراق كثيرة قد كتبها "ديرسم"، أردتُ الخروج من غرفتي، كي أتنفس الهواء، فبرزت جمجمتك المعلقة تحت الضوء كأنها تسألني أين تذهبين؟ والعبارة التي خطتها يدك: (حتى جمجمتي تصرخ: أحبك يا علم بلادي)، أردتُ الخروج، لكن تمنعني عيون أبي وأمي التي تنظر إليَّ، ربما شفقة أو حيرة، فوالدي قد التقى بديرسم قبلي، وعرف بقراره قبلي، بل وشجعه: لاأريد لأحد من أهلي أن يرى تلك الحالة التي شاهدوني حين عدتُ ظهراً، انهمار دموعي، حزني، كنتُ أحث الخطا، كي أصل سريري، أرتمي عليه، وأبكي بلوعةِ مَنْ فارق أمانيه.
أبعدتُ الورقة والشريط الذي كان يغلف هدية ديرسم، لأجد صوراً قد جمعتني به، وشريطاً قد سجله بصوته، فيه أغانيه الأثيرة لقلبه، وأوراق عدة بخط يده، وما فاجأني هو صورة شعاعية لرأس، مؤكد أنه رأسه، رأس ديرسم، قمتُ بتأطير الصورة، وعلقتها تحت الضوء بطريقة طبية. هذا الاعتكاف أو الحصار الذي أرغمني عليه ديرسم، أم أنني أنا من أرغم نفسه عليه، فقد دخلت غرفتي، وأنا أنوي أن أهرب من عالمي الآخر، هل نويتُ أن..؟ ربما أحاسب نفسي أوربما أعاقبها، أو ربما أشحذ همتها وصبرها على الانتظار، فديرسم لم يكن طائشاً أبداً، ولم يكن يخضع لأية اغراءات، أو وعود حين قرر هذا الرحيل، فقد لمستُ ذلك في أعماقه من خلال علاقتنا التي امتدت خمسة أعوام متتالية، كانت معرفتي به سطحية، إلى أن جاء اليوم الذي تسلم فيه ديرسم مهمة قيادة الاجتماعات بنا، فقد كنا رفاقاً تجمعنا مبادئ وأفكاراً عدة، وأرضاً واحدة تبعثرتْ، فهو ليس أهوجَ، حتى يتخذ قراره بهذه السرعة، مؤكد أنه منذ زمن طويل، ويحسب له ويفكر به، وهذا ما أعرفه عنه خلال اللقاءات التي كانت تجمعه بوالدي، والده الذي كان يوكل إليه بعض المهام، ليختبر قوته وصبره، كبر ديرسم وكبرت مهامه، كثيراً ماكان يردد أمامي: "لاتترددي عن انتقادي، لأن هذا تحديدا سيفيدني أكثر، ثمت أشياء كثيرة يا "مهاباد"، أكبر من أحلامنا الصغيرة المتواضعة، ثمت حلم بوطن وأرض واحدة، يرفرف عليها العلم بألوانه الزاهية (قوس قزح)، وحين أهمس بذلك لأبي، يروح، ليحدثني عن ديرسم وأهله وفجيعتهم، ويقول بتنهد: "ياابنتي نحن ولدنا هنا، وكبرنا، توارثنا البيت، الأرض، الهوية، النسب، ولم تحرق أرضنا أمامنا، ولاتهدم لنا بيوت نحن بنيناها، ولم نرحل عنوة عن قرانا، والرصاص في قلوب أولادنا وأقاربنا"، ويكمل والدي الحديث عن ديرسم وعشيرته، وكيف شردت، وعوملت بوحشية، وترحل روحي مع ذكريات بعيدة، عشتها مع ديرسم الذي كان في أية مناسبة تجمعنا يغني أغنيته الأثيرة إلى قلبه.