دِيرسم

  • بادئ الموضوع بادئ الموضوع BERXEWDAN
  • تاريخ البدء تاريخ البدء
دِيرسم


سحر سليمان


صرخت به: إنه قلبي أرجوك لا.. ديرسم، لا.
مددتُ يدي، لأبعد يده عن عنقي، واليد الأخرى تتلمس مكان الدم الذي بدأ ينزف من عنقي، أصرخ ديرسم! أصرخ، ويدك مازالت تريد المزيد من دمي النازف لا. لا. استيقظتُ مذعورةً وأنا مازلتُ أصرخ بك، وأمد يدي لإبعادك! حاولتُ أن أتبين الوقت، لكنَّ الستارة المسدلة تزيد من عتمة الغرفة، أيعقل أن أكون قد غفوت كلَّ هذه المدة؟ فمنذ الثانية عشرة ظهراً، وأنا ملقاة على سريري أشعلتُ الضوء لأتبين الوقت يا ...! إنها الثانية صباحاً، تلمستُ عنقي، لازالت السلسلة الذهبية معلقة فيها تلك القطعة الملونة بـ (كَسْكْ، سُورْ، وزَرْ)، تلفتُ حوالي، كانت هناك أشياء مبعثرة، صور أشرطة، أوراق كثيرة قد كتبها "ديرسم"، أردتُ الخروج من غرفتي، كي أتنفس الهواء، فبرزت جمجمتك المعلقة تحت الضوء كأنها تسألني أين تذهبين؟ والعبارة التي خطتها يدك: (حتى جمجمتي تصرخ: أحبك يا علم بلادي)، أردتُ الخروج، لكن تمنعني عيون أبي وأمي التي تنظر إليَّ، ربما شفقة أو حيرة، فوالدي قد التقى بديرسم قبلي، وعرف بقراره قبلي، بل وشجعه: لاأريد لأحد من أهلي أن يرى تلك الحالة التي شاهدوني حين عدتُ ظهراً، انهمار دموعي، حزني، كنتُ أحث الخطا، كي أصل سريري، أرتمي عليه، وأبكي بلوعةِ مَنْ فارق أمانيه.
أبعدتُ الورقة والشريط الذي كان يغلف هدية ديرسم، لأجد صوراً قد جمعتني به، وشريطاً قد سجله بصوته، فيه أغانيه الأثيرة لقلبه، وأوراق عدة بخط يده، وما فاجأني هو صورة شعاعية لرأس، مؤكد أنه رأسه، رأس ديرسم، قمتُ بتأطير الصورة، وعلقتها تحت الضوء بطريقة طبية. هذا الاعتكاف أو الحصار الذي أرغمني عليه ديرسم، أم أنني أنا من أرغم نفسه عليه، فقد دخلت غرفتي، وأنا أنوي أن أهرب من عالمي الآخر، هل نويتُ أن..؟ ربما أحاسب نفسي أوربما أعاقبها، أو ربما أشحذ همتها وصبرها على الانتظار، فديرسم لم يكن طائشاً أبداً، ولم يكن يخضع لأية اغراءات، أو وعود حين قرر هذا الرحيل، فقد لمستُ ذلك في أعماقه من خلال علاقتنا التي امتدت خمسة أعوام متتالية، كانت معرفتي به سطحية، إلى أن جاء اليوم الذي تسلم فيه ديرسم مهمة قيادة الاجتماعات بنا، فقد كنا رفاقاً تجمعنا مبادئ وأفكاراً عدة، وأرضاً واحدة تبعثرتْ، فهو ليس أهوجَ، حتى يتخذ قراره بهذه السرعة، مؤكد أنه منذ زمن طويل، ويحسب له ويفكر به، وهذا ما أعرفه عنه خلال اللقاءات التي كانت تجمعه بوالدي، والده الذي كان يوكل إليه بعض المهام، ليختبر قوته وصبره، كبر ديرسم وكبرت مهامه، كثيراً ماكان يردد أمامي: "لاتترددي عن انتقادي، لأن هذا تحديدا سيفيدني أكثر، ثمت أشياء كثيرة يا "مهاباد"، أكبر من أحلامنا الصغيرة المتواضعة، ثمت حلم بوطن وأرض واحدة، يرفرف عليها العلم بألوانه الزاهية (قوس قزح)، وحين أهمس بذلك لأبي، يروح، ليحدثني عن ديرسم وأهله وفجيعتهم، ويقول بتنهد: "ياابنتي نحن ولدنا هنا، وكبرنا، توارثنا البيت، الأرض، الهوية، النسب، ولم تحرق أرضنا أمامنا، ولاتهدم لنا بيوت نحن بنيناها، ولم نرحل عنوة عن قرانا، والرصاص في قلوب أولادنا وأقاربنا"، ويكمل والدي الحديث عن ديرسم وعشيرته، وكيف شردت، وعوملت بوحشية، وترحل روحي مع ذكريات بعيدة، عشتها مع ديرسم الذي كان في أية مناسبة تجمعنا يغني أغنيته الأثيرة إلى قلبه.
 
الآن عرفت لماذا كان يؤديها كأنَّها صلاة يغنيها بوله صوفي، تذوب الروح مع رقة كلماتها. الآن فقط، أعذر لك حزن عينيك، وجهامة ملامحك، وصعوبة القرار الذي اتخذته، كنتُ في البدء، مثلما حال أية فتاة تلاحظ عينيّ من يهتم بها، فأكثرت من قراءاتي المتعددة، وحواراتي، أسئلتي لأبي، كي أتزود من أفكارهم، أعيش محنتهم، ألتزم أكثر، وأنشط أكثر في المهمات التي تسند إليَّ، وذات يوم بعد أن انتهى اجتماع ديرسم بنا، ونحن نهم بالخروج، أتاني صوته، طالباً مني الانتظار قليلاً، لنستغرق أكثر من ساعة، لم يقل لي أية كلمة خارج موضوع الاجتماع، لكني بحدس الأنثى، فهمتُ شوقه، فلقد كان بجدية أخرى، وحديث مختلف تماماً، ثم تتالت اللقاءات، ورغم الحزن والتشتت، فقد عشقته، عشقتُ حلمه، حزنه، عشقت تلك السلسلة التي لا تفارق أصابعه، بألوانها التي أعرفها، كما أعرف لون دمي، لكن لماذا اختار ديرسم اليوم تحديداً، ليلتقي بي، وينهي مشوارنا الذي بدأناه منذ زمن، هل ليجدد الزمن؟ أم ليقتل الانتظار، ويغلفه ضد صدأ الأيام القادمة التي سيكتب فيها الحزن عليًّ؟ هذا ماأكده هاتفه الليلي، حين أتاني صوته متحشرجاً، يريد لقائي في صباح اليوم التالي..
 
وصباحاً، خرجتُ حسب الموعد الذي حدده لي، التقيته في سيارة، وهذا الغريب في الأمر، كان جالساً في المقعد الأمامي قرب السائق، فتح لي الباب الخلفي لأصعد.
ـ صباح الخير، قلتها بصعوبة.
ـ صباح النور، رد هو والسائق معاً.
انطلقت السيارة، وأنا أنتظر التفاتة منه، أو كلمة، أو نظرة، لكنه بقي يتابع ذوبان الإسفلت تحت عجلات السيارة، انتظرتُ، وانتظرتُ كثيراً، والسيارة التي أجهل وجهتها، فقد خلفنا المدينة وراءنا، لم أتمالك نفسي أكثر فسألت ديرسم: Eme Herin Ku?/ إلى أين سنذهب؟ سألته بالكردية، كي لايفهم السائق حيرتي، إلا أنَّ السائق نظر إليَّ من خلال المرآة، مبتسماً فعرفتُ، أنه من معارف ديرسم، الذي التفت إلي، فشحت ابتسامتي الصغيرة، لتتحول إلى شرود مع ديرسم، إنه يخبئ شيئاً في صدره، يخفيه عني، تذكرتُ أول لقاء لي معه، وأول ضحكة سماوية انطلقت من حنجرته، أخذتني أحلامٌ كثيرة، وكبيرة، لبيتٍ يجمعنا، وطفل يحمل دماءنا، ووطن يهتم بقراه التي تناثرت ومدنه. كان مجرد أن أردد اسم ديرسم، تبتسم لي الدنيا، وتأخذني إلى الجبال البعيدة، لقد شجع والدي ارتباطي به، بتُّ لا أخشى ذكر علاقتي به، بل أعلنها بشيء من النشوة والفرح، أمام أهلي الذين يحترمونه، ويحترمون أهله، فقد كنتُ أخطو معه بثقة.
قطع شرودي دخان سيجارة ديرسم، إنها المرة الأولى التي أراه يدخن فيها،راقبتُ توتره، وهو يمسك السيجارة، وذقنه التي طالت خلال هذه المدة، والشيب الذي بدا واضحاً. أي سرٍ تخبئه في صدرك ياديرسمي الجميل؟ توقفت السيارة. تلفتُّ حوالي: لابيوت، لاأشجار، ولا أي شيء يدل على معالم الحياة، هنا في هذه الأرض القاحلة. ترجلتُ من السيارة، وأنا ألحق به، فقد أخذ بيدي، ومشينا خطوات، حتى بان الفرات صغيراً، وبضة أشجار مبعثرة، جلس ديرسم، وأجلسني أمامه. بتُّ معه وجهاً لوجه. قال: "أتينا إلى هنا، لأذكركِ بأول رحلة قمنا بها حين قررنا الاحتفال بعيد النوروز، تذكرين النار، وأول رقصة تشابكتْ خلالها أصابعك مع أصابعي، مدّ يده، ليمسك بيدي. هنا تشربين من الفرات قبل أن يشرب منه أي كائن قبلك في المدينة، هنا تشربين نخب... وصمت، ليعيد ترتيب الكلمات، تشربين نخب الهمسة الأولى، واللمسة الأولى، والفراق الأخير". تسارعت نبضات قلبي، شدهت عيناي، وهما تتعلقان بعينيه، طالبة المزيد من التوضيح بينما، عيناه تبحثان عن مكان آخر تخبئ فيه نظراتها.
مهاباد، قررتُ أن أحقق رغبة أبي المرحوم، بالمهمة التي كان يحلم بها، لولا المنية التي كانت أسرع من حلمه، فقد جاء كل شيء بعد دراسة طويلة، حسبتُ فيها الأمور بتبصر وحكمة، هناك، ثمت بلاد تنتظرنا، متناثرة، أشلاء دولة، كانت تبحث عن أجنحة تنام تحت ظلالها، ولأنكِ مثلي، من دمي، ولغتي، ستفهمين. ضعي الحب والعواطف جانباً. مهاباد، ومد يده، لتتوجه عيناي إلى وجهه، الأرض بحاجة إلي، ولكِ ولكل من تناثروا بعيداً، بحثاً عن الأمان والاستقرار!، لا تجيبي الآن ، اسمعيني فقط، فأنا مثلما أعشقكِ، وتحشرج صوته، هي المرة الأولى يفصح عن أحاسيسه، ولكن أين؟ أو متى؟.. آه. وهذا التراب الذي ينهال على روح أيام طويلة، جمعتنا. هي الآن تتوارى، ماأريده أن تكوني قوية أكثر, فأنا قررتُ أن أحقق حلم أبي في تلك البلاد. صحيح أن المهمة صعبة، لكن ليست أكثر صعوبة وقساوة من رؤية تلك الجبال، تلتهمها النيران، وتخترقها قذائف الأعداء، لقد سُرقنا وحُرِمنا وتشتتنا في أصقاع العالم كل ، نحن لنا أرض ولغة، لكن، لاعَلم نستطيع أن نغرسه فوق أي أرض نختارها. مها باد"، وانتصب واقفاً، ليمسك بيدي، كي أقف معه أمامه. وقفت ألملم تبعثر جسدي وانهياره الذي زاد أمام دموع ديرسم، أية مرادفة في كل اللغات تساوي دموعه؟ أية حجج أو تسويفات أقنع فيها حزني المفجوع والمخنوق مثلما هي ديارنا المثكولة والمؤودة هناك؟. ضمني لصدره بقوة وراح ينتحب، وكأنني العلم الذي سيزرعه هناك ويخشى ضياعه، وتسربه مع دموعه، زفر بقوة قائلاً: قد أعود وقد...
 
وضعتُ أصابعي على فمه، لئلا ينطق بمكروه. لكنه أكمل: إذا بقيتُ حياً، ستصلكِ أخباري بالتأكيد، وإذا.. لكنه لم يكمل، طأطأتُ رأسي الذي أثقلته الدموع. مد يده إليَّ بعلبة صغيرة قد غلفها بأوراق وشرائط ملونة، كان قد حرص على أن تكون ألوانها كألوان القطعة التي يحملها في السلسلة التي لا تفارق يده، أخذتُ العلبة منه تاركة يده تبعد وشاحاً عن عنقي، ليرى إذا كانت السلسلة الذهبية مازالت معلقة فيها. القلب الفارغ ستبعديه عن عنقكِ.. ألم ترددي أكثر من مرة: أن القلب الحقيقي أصبح فيه نبض آخر وحلم أكبر، وكأنني أعلم بمصير هذا القلب الذي سيدوم فراغه منك ياديرسم.
هززتُ رأسي، دون أن يعلم ماذا وشوشتُ لروحي. أخرج القطعة الملونة بألوانها القوس قزحية، ووضع القطعة المعدنية في السلسلة الذهبية، وعلقها على عنقي، بعد أن أخذ قلبي الفارغ الصغير، وابتعد ليرى السلسلة على عنقي، كم هي رائعة على عنقكِ الذي يزيدها جمالاً. علق بابتسامة يشوبها الحزن، أمسك بكتفي، وبدأنا نمشي وهو يحدثني عن أناس كثر، رحلوا مبتعدين، ومخلفين وراءهم أطفالاَ جياعاَ وعراة، وقرى تنتهك وتباد، بوحشية ودمار، هناك نسوة "البيشمرغا" تضيع مع أسلحتها، وحدود الوطن المبعثر المشتت، هناك أطفال يأكل عيونهم الذباب الفج، سالباً طعامهم ودواءهم وطفولتهم.
عاد السائق حسب الموعد الذي حدده له ديرسم، ديرسم الذي فتح لي باب السيارة الخلفي، وقال: اصعدي. وأنتَ؟ سألته. فأجابني: أنا من هنا سأنطلق في مهمتي، ومد يده ليصافح السائق، ويودعه، ثم ليصافحني مصافحة الغرباء، وقد كست وجهه لمحةٌ أسى وفجيعة آتية، أشار إلى العلبة: احتفظي بها جيداً، افتحيها، اسمعي الأغاني، اقرأي الأوراق، فقد أعود ذات يوم وأطالبك بها، هاهو مرة أخرى يزرع في أيامي القادمة بذار النبات الذي يتسلق للغد انتظاراً ولهفة. لكن، هلعاد الذين رحلوا من قبل؟ هل عاد خوشناف وآزاد وبهزاد ونوشين. أغلق باب السيارة، وكأنه أمن علي الاغلاق في صندوقي الخشبي، انتظرتُ أن ينطق شيئاً، لكن عيناه كانت تحملان إليًّ صورة القاضي محمد، والجبال وأنهار الوطن، وعزيمة ذلك الجنرال العجوز الذي ورث حب الحجل أباً عن جد، إلى أن قضى نحبه بعيداً عن خريطة الحلم. استعرضتُ في عيون ديرسم أسرار طيور الحجل، وورود المكان الرائع الذي يهدده الخردل وحبر المؤامرات والمؤتمرات، وأنا، ياديرسم. حبنا، طفلنا، بيتنا، غدنا، جبالنا، ألواننا القزحية. وبين كل ذلك انهمرت باكية، فما كان منه إلا أن أبعد يدي عن عيوني وقال: تماسكي فمنك أستمد القوة والصبر!
فما كان مني إلا أن اختصرت الأعوام الخمسة وكلّ الجمل والحكايا والأحلام، وقلت له ماكنت دائماً أردده على مسمعه، وكأنني أضع طوق الأمانة بين عينيه قلت:
- Ez be te; be kesim.
وأغلقتُ الباب، باب السيارة جيداً، ليعود بي صديق ديرسم إلى بيتي وغرفتي التي آوتْ فجيعتي الأولى وحلمي الأخير.
 
ادب راقي و كلمات يشدو بها الانسان الى عالم آخر يملؤه الابداع و الاحساس بروح الكتابة ....
سباس برا برخدان ....
 
عودة
أعلى