Kurd Day
Kurd Day Team
زهير عبد الملك
2009-01-21
في مثل هذا اليوم 22/1/1946 ، أعلن قاضي محمد رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني في إيران -رسميا- ولادة جمهورية كردستان،أثناء اجتماع حضره، في ساحة جوار جرا (القناديل الأربعة) بمدينة مهاباد، مندوبون يمثلون معظم المناطق الكردية في إيران والعراق وتركيا وسورية بينهم قادة بارزون وعسكريون ومثقفون وعدد من رجال الدين ورؤساء العشائر، إضافة إلى حشد كبير من أهالي المدينة. وتضمنت الكلمة القصيرة التي ألقاها رئيس الجمهورية التأكيد على أن الأكراد شعب مستقل، يعيش في وطنه كردستان، ويتمتع في ذلك شأن باقي شعوب الأرض بحقه في تقرير المصير، وان الأكراد قد استيقظوا من سباتهم ولديهم الآن أصدقاء أقوياء. ثم شكر في ختام كلمته اللجنة المركزية للحزب الديمقراطي الكردستاني،واستعرض وتطرق إلى برنامجه السياسي، وأشاد بالاتحاد السوفيتي على مساندته المادية والمعنوية للشعب الكردي، وهنأ الشعب الأذربيجاني على استقلاله، ودعاه إلى التعاون المتبادل لصيانة مكاسب وحقوق الشعبين.
ولدت جمهورية كردستان بظل ظروف داخلية ودولية مواتية: فقد رافق احتلال الحلفاء لإيران في صيف 1941 انهيار النظام السياسي القائم، وانتعاش الحريات الديمقراطية في البلاد، وتعاظم قوة الأحزاب السياسية الإيرانية ولاسيما حزب تودة إلى جانب نمو الأحزاب والمنظمات الأخرى، ومنها ظهور منظمات قومية جديدة مثل جمعية (كومه له زياني كورد) أي جمعية "الاحياء الكردي". كما تميز الوضع الدولي آنذاك بتنامي الحركات الديمقراطية المعادية للفاشية والنازية والمطالبة باستقلال الشعوب وحقها في تقرير المصير وإحرازها لانتصارات باهرة في جميع أنحاء العالم. كما كانت الظروف المحلية في مدينة مهاباد بوجه خاص، وفي بقية أنحاء كردستان الشرقية مهيأة لإحراز نصر عظيم للشعب الكردي في هذه المنطقة المحررة من النفوذ الشاهنشاهي والمحتلة من قبل القوات السوفيتية منذ 25/8/1491 حيث أزال أهالي مهاباد والقرى المجاورة جميع مؤسسات السلطة الشاهنشاهية وعهدوا بالسلطة إلى رؤساء العشائر والشيوخ والأغوات.
وفي صيف 1942 أسست مجموعة من أبناء الطبقة الوسطى من أهالي مهاباد بمساعدة من بعض المثقفين الأكراد من أهالي السليمانية، جمعية الاحياء الكردي، وحددوا أهدافها بتحرير الأمة الكردية، واصدروا مجلة نيشتمان -الوطن-للتعبير عن أفكارهم. وكانت هذه الجمعية في الواقع أول منظمة كردية قوية تخلو قيادتها من الإقطاعيين ومن رؤساء العشائر، كما أنها كانت أول منظمة قومية تستطيع ترسيخ دعوتها القومية لتحرير الأكراد. ومن هذه المنظمة بالذات، نشأ الحزب الديمقراطي الكردستاني في 16/8/1945 واستلم السلطة في جمهورية مهاباد يوم 22/1/1946 محددا لنفسه إنجاز ثلاث مهام أساسية ربط من خلالها تحرير الأمة الكردية بآلية مستحدثة لم يكن الفكر السياسي الكردي الناشئ لتوه قادرا على إدراك مخاطرها، كما لم يكن قادة الحزب أنفسهم قادرين على إدراك المخاطر قريبة المدى على كيان الجمهورية والمخاطر بعيدة المدى على مستقبل الحركة القومية الكردية لمثل هذا الربط الأممي للمسألة الكردية.
ومن الممكن تلخيص تلك المهام الثلاث التي اخذ الحزب الديمقراطي الكردستاني ومن ثم الجمهورية الكردية على عاتقهما إنجازها بجملتين هما: ربط كفاح الشعب الكردي بكفاح الشعوب الإيرانية، وتنظيم الجماهير الكردية تحت راية الحزب وحول برنامج سياسي واضح المعالم.
وقد حدد بيان الحزب الديمقراطي الكردستاني الصادر آنذاك هذا البرنامج بثمانية بنود، تلخص البنود ا و 5 و 6 جوهر برنامج الحزب وسياسته القومية وهي:
بند 1: أن تكون الأمة الكردية مستقلة حرة في إدارة شؤونها المحلية داخل إيران وان تنال حكمها الذاتي في إطار الدولة الإيرانية.
بند 5: يجب تحقيق اتفاق على أساس قانون عام بين الفلاحين والمالكين وأن يضمن مستقبل الطرفين.
بند 6: أن يناضل الحزب الديمقراطي الكردستاني من أجل خلق وحدة وأخوة نضالية تامة على الأخص مع الأمة الأذربيجانية، ومع الأقليات الأخرى التي تعيش في أذربيجان مثل الآشوريين والأرمن وغيرهم.
وحقق الشعب الكردي خلال العمر القصير للعهد الجمهوري الأول في تاريخه إنجازات عديدة لكن أهمها على الإطلاق: الحرية في إدارة شؤونه وممارسة لغته وإحياء ثقافته وتكوين شخصيته القومية والبدء بعملية تغير اجتماعي واقتصادي وثقافي عميقة الجذور، والتحرر من الخوف ومن بطش السلطات الإيرانية وظلمها وفساد نظامها الإداري.
وإذا كان الفرح الذي غمر كردستان برمتها آنذاك لم يشهد له تاريخ الأكراد، كما لم تشهد الأجيال اللاحقة له مثيلا حتى الآن، فقد تحول الإحباط في النفوس جراء السقوط المأساوي للجمهورية ، ولم تكمل العام الأول من عمرها، إلى جرح ظل ينزف في قلوب الأكراد جيلا بعد جيل، واصبح علم كردستان الذي ظل خفاقا في مهاباد فوق مقر الحكومة الكردية وعلى سطوح المنازل وواجهات المحلات مستمسكا جرميا يخفى عن عيون السلطات ليس في إيران فحسب بل وفي العراق وتركيا وسورية خوفا من العقاب الصارم، وتودعه الأمهات في متاع المسافرين من أبنائهن كي لا ينسوا وطنهم في الغربة، واصبح نشيد جمهورية كردستان أي رقيب، الأمة الكردية باقية حية لا تموت نشيدا سريا لا يذاع إلا في الخفاء.
وقبل سقوط جمهورية كردستان بأيام سقطت جمهورية أذربيجان الشعبية يوم 12/12/1946 دون مقاومة تذكر في حين أجهزت الرجعية المحلية وقوات الحكومة المركزية على ما يقدر بنحو 000 15 من قادة وأنصار تلك الجمهورية خلال أسبوع واحد.
سقطت جمهورية كردستان في 17/12/1946 بأيدي قوات الحكومة المركزية دون مقاومة تذكر، رغم أن تعداد الجيش الذي دخل مهاباد لم يزد عن 600 جندي ترافقهم مدرعتان ومعهم مدفعين فقط، ناهيك عن ارتباك المهاجمين وعدم كفاية عتادهم ومؤونتهم من الطعام والوقود وتعذر تقدمهم بسبب الثلوج والأمطار التي قطعت الطرق المؤدية إلى قلب العاصمة مهاباد.
وهكذا أسدل الستار على أول جمهورية كردية باعتقال رئيسها ثم إعدامه شنقا مع عدد من أبرز قادة الجمهورية في ساحة القناديل الأربعة فجر يوم 30/3/1947، كما اعدم قادة آخرون وسجن بعضهم وهرب معظمهم، وأزيلت من مهاباد جميع معالم الجمهورية ومؤسساتها.
أما أسباب سقوط جمهورية مهاباد على هذا النحو المأساوي، فعديدة ومتشابكة؛ ولم تدرس هذه الواقعة التاريخية بعمق سياسي استراتيجي حتى الآن، وإنما أهملت كمجد تليد وحلم ربما يتكرر ذات يوم. ولأضع ذات السؤال بصيغة ديناميكية على النحو التالي: هل كان بالإمكان أن تستمر جمهورية كردستان وتتطور؟!
إن الإجابة على هذا السؤال تضفي على هذه التجربة الفريدة في تاريخ الشعب الكردي طابعا تحليليا، وتحدد -دون شك- معالم الدروس التي كان يتوجب الاهتداء بمنطوياتها في الكثير من المواقف التي تعرضت لها القضية الكردية خلال العقود التالية ابتداء من الخمسينات وحتى اليوم.
من الممكن تلخيص الأخطار التي كانت تحيط بالجمهورية الكردية في إطار فئتين مترابطتين ومتكاملتين من العوامل (1) الموضوعية و (2) الذاتية. وتشمل الأولى مجمل الظروف الخارجية المحلية والإقليمية والدولية بما في ذلك طبيعة نظام الحكم في إيران ومدى سلامة نهج الحركة الديمقراطية الإيرانية والموقف الإقليمي من مسألة التحرر القومي وأخيرا مصالح الدول الكبرى التي كانت تحتل إيران آنذاك وهي بريطانيا والولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي. وتشمل الثانية طبيعة النظام السياسي الذي أقامته الجمهورية الكردية وعلاقتها بجمهورية أذربيجان الديمقراطية المجاورة لها ومدى سلامة خطتها للدفاع عن نفسها وصيانة مكاسبها.
ولقد كانت قيادة الجمهورية تدرك دون شك حجم هذه الأخطار. وبإمكاننا الاستدلال من دراسة هذه الفترة من تاريخ الحركة الوطنية الكردية على أن قيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني وجدت من جهة في استراتيجية التحالف مع القوى الديمقراطية في إيران أي مع حزب توده والفرقة الديمقراطية الأذربيجانية وحزب إيران والحزب الاشتراكي وحزب جنكل في إطار جبهة وطنية موسعة خير ضمان لبقاء الجمهورية الكردية وصيانتها.كما عمدت من جهة أخرى إلى تعزيز القوات الكردية المدافعة عن الجمهورية بقيادة الملا مصطفى البارزاني، والعمـل على سـد الثغرات الخطيـرة في مستويات تدريبهـا وتسليحها وتثقيفها بالولاء للجمهورية وليس للرؤساء العشائريين. ولم يكن عدد هذه القوات يزيد إلا قليلا عن 12750 مقاتلا منهم 2000 من المقاتلين البارزانيين.
وسعت قيادة الجمهورية إلى تمتين علاقتها مع حكومة جمهورية أذربيجان الشعبية واحتاطت لما قد ينجم من مشكلات بين الجمهوريتين في المستقبل، بإبرام معاهدة صداقة وتعاون وقعها في تبريز قاضي محمد وجعفر بيشوري يوم 27/2/1946. وقد نصت المعاهدة من بين أمور أخرى، على احترام حقوق الأقليات الكردية في أذربيجان والأذربيجانيين في كردستان، وعلى أن يكون التفاوض مع السلطة المركزية في طهران بموافقة الحكومتين مسبقا.
وهكذا يمكننا أن نستنتج بوضوح عناصر الاستراتيجية التي حددتها الحكومة الكردية لصيانة الجمهورية وهي: الجبهة الوطنية الموسعة، وتدعيم قواتها المسلحة، وإبرام معاهدة الصداقة والتعاون مع حكومة جمهورية أذربيجان ذات الحكم الذاتي المجاورة. ومن المؤكد أنها وجدت في السياسة السوفيتية المدافعة بحماس عن حقوق الشعوب في حق تقرير مصيرها وصيانة مكاسبها الديمقراطية إطارا شاملا لدعم كيانها.
فهل كانت استراتيجية الدفاع عن الجمهورية هذه سليمة وكافية؟
لعل من نافلة القول أن نجيب بكلا. لكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد. ولكن النظرة المعمقة لبرنامج الحزب الحاكم تكشف لنا عن الأسباب الأساسية للانهيار المأسوي للجمهورية الفتية. ولنعد الآن إلى دراسة البنود الثلاثة 1 و 5 و 6 الواردة في برنامج الحزب الديمقراطي الكردستاني على مستوى السياسة القومية والاقتصادية، ونبين أثر القوى الدولية في انهيار الجمهورية الكردية وعوامل أخرى.
(أ) السياسة القومية: اختارت قيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني صيغة الحكم الذاتي لتحديد نمط ارتباط جمهورية كردستان بالحكومة المركزية في طهران، ووجدت في هذه الصيغة خير تعبير عن حق الشعب الكردي في تقرير مصيره، كما وجدت في قيام نظام ديمقراطي في إيران خير ضمان لاستمرار تطبيق هذا الحكم الذاتي، أي أنها اختارت عمليا حكما ديمقراطيا في إيران يتمتع بظله الأكراد بحكم ذاتي. ولولا ضعف النظام الشاهنشاهي آنذاك وقوة الجبهة الوطنية الإيرانية ولاسيما حزب توده الإيراني، واستعدادها لاستلام السلطة بين لحظة وأخرى لأمكننا القول بان قادة الحزب قد وضعوا العربة أمام الحصان بتأسيس جمهورية مهاباد، أي أنهم ارتكبوا خطأ تاريخيا لا يغتفر، وكان الأجدر بهم أن يقفزوا سويا مع الأحزاب السياسية الإيرانية إلى السلطة في طهران قبل أن يقفزوا إلى السلطة وحدهم في مهاباد.
وقد برهن تطور الأحداث اعتبارا من صيف 1946 على أن هذه السياسة القومية لم تكن تستند إلى ضمانات فعلية بجميع المقاييس النظرية والعملية.
ففي الفترة ما بين 2/8/1946 وهو اليوم الذي يؤرخ مشاركة حزب توده في السلطة بثلاثة وزراء وبين 17/12/1946 وهو نفس اليوم الذي يؤرخ فيه مداهمة السلطات الإيرانية لمقرات الحزب المذكور وهروب قادته إلى خارج البلاد، وانهيار الحركة الوطنية الإيرانية واستسلام أنصارها دون مقاومة، ظهر أن الجبهة الوطنية الإيرانية لم تكن تملك آنذاك أي برنامج عملي ليس للوصول إلى السلطة فحسب وإنما حتى للدفاع عن نفسها ناهيك عن قدرتها على الحركة للدفاع عن جمهورية كردستان أو أذربيجان الشعبية.
ولم تكن صيغة الحكم الذاتي لجمهورية كردية من المنتظر ازدهارها ونموها بظل دولة إيرانية ديمقراطية معادية لمصالح المستعمرين البريطانيين والأمريكيين وحليفة للاتحاد السوفيتي منسجمة مع مصالح التركيبة الطبقية لقيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني والجمهورية. فقد كان نصف أعضاء قيادة الحزب ولجنته المركزية من الإقطاعيين وكبار المالكين، كما كانت قيادة معظم فصائل المدافعين عن الجمهورية تحت إمرة رؤساء العشائر. وكان هؤلاء يدركون إدراكا تاما مدى خطورة جمهورية كردستان الديمقراطية على مصالحهم المادية ونفوذهم السياسي والاجتماعي لذلك لم يتأخروا هم وغيرهم عن التخلي عن الجمهورية ومكاسبها حين حان وقت الدفاع عنها، بل انهم كانوا يقاومون أي اتجاه نحو الاهتمام بمصالح غالبية سكان كردستان من الفلاحين المعدمين حتى خلال العمر القصير لجمهورية كردستان.
ومن ذلك نستنج أن صيغة الحكم الذاتي هذه لم تكن بالضرورة موجهة لرعاية مصالح الأكراد من الفلاحين والرعاة والعمال الموسميين والنساء والعاطلين وإذا أضفنا إلى ذلك حقيقة أخرى هي أن الحكم الذاتي المحلي صيغة تتعارض مع طبيعة نظم الحكم السائدة في البلدان المتخلفة (النامية) ومع السلوك الاستبدادي لقادة تلك البلدان، وإنما هي (أي الحكم الذاتي) صيغة مستعارة ولا تصلح للتطبيق إلا في مجتمع متقدم ولنظام حكم راسخ يستند في ممارسة وظائفه على مستوى الدولة والقيادة على مؤسسات ديمقراطية تضمن حرية التعبير وحقوق الإنسان وتداول السلطة ونزاهة الانتخابات والحريات العامة، يمكننا أن نستنتج ما يلي: لقد استعارت قيادة الحزب مفهوم الحكم الذاتي من جارتها جمهورية أذربيجان الديمقراطية الشعبية ولا يمكن استثناء دور السوفييت في إملاء هذه الصيغة على قيادة الحزب والجمهورية الكردية.
(ب) السياسة الاقتصادية:
كان النفوذ القانوني لسلطة جمهورية كردستان يقتصر على ثلث مساحة كردستان -إيران (ماعدا لورستان) أي زهاء 000 41 كيلو متر مربع. وكان النظام الاقتصادي السائد نظاما إقطاعيا من الطراز الكلاسيكي، حيث يتملك 1% من السكان نسبة 56% من الأراضي الزراعية، وتعود ملكية 40% منها إلى أقل من 2 في الألف من الإقطاعيين. أما نسبة المعدمين في الريف فقد تجاوزت نسبة 60% من الفلاحين في حين لم تزد نسبة صغار المزارعين ومتوسطيهم (ممن يمتلكون أقل من هكتار واحد) عن نسبة 23% من مجموع سكان القرى.
وقد حدد برنامج الحزب الديمقراطي الكردستاني المعالم الرئيسية للسياسة الاقتصادية التي اتبعتها جمهورية كردستان في إطار فقرتيه 5 و 7. فقد حددت الفقرة 7 السياسة الاقتصادية العامة بأن: يعمل الحزب ويناضل من أجل تقدم الزراعة والتجارة وتطوير الثقافة والصحة وتحسين الحياة الاقتصادية والمعنوية للشعب الكردي بالاستفادة من الثروات الطبيعية والمعادن في كردستان، في حين حددت الفقرة 5 كما ذكرنا أعلاه تحقيق اتفاق على أساس قانون عام، بين الفلاحين والمالكين، وان يضمن (أي الاتفاق) مستقبل الطرفين. كما وضعت الجمهورية خريطة تحدد مساحة الملكيات الزراعية، وأنشأت إدارة لمعالجة قضايا الزراعة والمشكلات العقارية وشركة تتولى مراقبة التجارة الخارجية.
ولربما كانت فكرة (الاتفاق) محاولة من جانب الجمهورية لتشريع قانون عام يحدد العلاقة بين الفلاحين والإقطاعيين كخطوة أولى لمجابهة الظلم الإقطاعي السائد في الريف الكردي، إلا أن ثمن هذه المحاولة الإصلاحية كان باهظا حقا، فقد كلف الأكراد جمهوريتهم الأولى دون شك.
ويعزى التعاون بين الحزب والإقطاعيين إلى نشوء نوع من المصالح المتبادلة بين الطرفين. فمن جهة أنعش الحزب، بمبادرته إلى إقامة جمهورية كردية في مهاباد، مشاعر الاعتزاز بالانتماء القومي لدى جميع الفئات الاجتماعية الكردية في كردستان برمتها، وهي ظاهرة اجتماعية تعكس تراكم الشعور بالظلم والاستياء من الحكام الأجانب، وترتبط ارتباطا وثيقا بالتركيب النفسي للشعب الكردي، وخصائصه القومية ونزعته الاستقلالية وبذلك غذت مبادرة الحزب طموحات الإقطاعيين ورؤساء العشائر ورجال الدين ونزعتهم القومية الكردية واندفعوا لتأييدها بحماس بالغ. ومن جهة أخرى، لم يكن الحزب الديمقراطي الكردستاني الناشئ حديثا قادرا على الأخذ بزمام المبادرة، ولم يكن يمتلك الوسائل المادية الضرورية لإسنادها ودعمها وتحقيق أهدافها دون الاعتماد على المصدر الوحيد لتعبئة المال والسلاح والرجال أي على فئة الإقطاعيين ورؤساء العشائر.
لكن تعاون هذه الفئة لم يكن دون شروط أو ضمانات بل إن هذه الضمانات تأكدت بوجود ممثليهم في اللجنة المركزية للحزب وفي مجلس وزراء الجمهورية بنسبة تزيد عن النصف، وبعدم إقدام الجمهورية على توزيع الأراضي على الفلاحين وتقويض النظام الإقطاعي، وبمطالبة الحزب بحكم ذاتي ضمن إطار الدولة الإيرانية أي المطالبة بهدف لا يشكل في واقع الأمر خرقا للنظام الإيراني الذي يقر بمبدأ مجالس المناطق والولايات في القانون الأساسي. وتشكل هذه النقطة الأخيرة خط الرجعة للإقطاعيين بالنسبة لعلاقتهم بالسلطة المركزية في طهران ناهيك عن ارتباط معظمهم بنظام الشاه في طهران في وقت كانوا يحتلون فيه مراكز عالية في جمهورية كردستان.
من هذا نستنتج خطأ الفكرة التي اعتنقها السياسيون الأكراد ممن يقولون بعدم وجود طبقة اجتماعية معادية لنضال الشعب الكردي التحرري، إذ أنهم لا يميزون بين شعور الاعتزاز بالانتماء القومي، وهي ظاهرة اجتماعية وتاريخية وسمة إنسانية طبيعية لدى جميع الأكراد شأن غيرهم من القوميات وبين المصالح الطبقية الحقيقية التي تحدد الولاء السياسي، بالضرورة للحكومات المركزية والدول الاستعمارية إذا كان البديل المطروح دولة كردية تستهدف سياستها القضاء على امتيازات الإقطاعيين ونفوذهم السياسي والاجتماعي.
(جـ) السياسة الخارجية والدولية
اتفق الحلفاء (روزفلت وستالين وتشرشل) أثناء الحرب العالمية الثانية في مؤتمر طهران (تشرين الثاني/نوفمبر 1943) على إجلاء قواتهم من إيران بعد انتهاء الحرب بستة أشهر. وقد انتهت الحرب في أوروبا يوم 8/5/1945 باستسلام ألمانيا وفي آسيا باستسلام اليابان يوم 2/9/1945. وطبقا لبنود الاتفاق، فقد انسحبت القوات الأمريكية من جنوب إيران يوم 1/12/1945 وانسحب الجيش البريطاني من الوسط والجنوب في 1/2/1946، ولم تنسحب القوات الروسية من شمال إيران.
وفي 16/3/1946 قدمت الحكومة الإيرانية شكوى إلى مجلس الأمن تطالب فيها بانسحاب الجيش الأحمر من إيران. وفي نهاية الشهر نفسه سافر قوام السلطنة رئيس وزراء إيران آنذاك إلى موسكو ونجح في إبرام اتفاقية مع الاتحاد السوفيتي نصت على : (أ) أن يغادر الجيش الأحمر الأراضي الإيرانية خلال شهر ونصف من موعد إبرام الاتفاقية في 24/3/1946 (ب) تأسيس شركـة للنفط مختلطة إيرانية - سوفيتيـة بموجب اتفاقيـة أمدها 50 عاما واستخراج النفط من شمال إيران على أن تكون حصة إيران خلال منتصف المدة 49% وحصة الاتحاد السوفيتي 51%، ثم يتساويان في الحصص في النصف الثاني من مدة الاتفاقية، ويعقبها شراء إيران لحصة الاتحاد السوفييتي. وربط تنفيذ الاتفاقية المذكورة بموافقة البرلمان الإيراني الذي سينتخب خلال ستة أشهر بعد موعد انسحاب الجيش الأحمر.
ومن المؤكد أن قوام السلطنة نجح في إقناع القادة السوفيت باتجاهاته التقدمية ورغبته في إقامة نظام ديمقراطي في إيران وتقليص نفوذ الشاه وإطلاق الحريات العامة وتأييده لحقوق القوميات في الحكم الذاتي ولربما معاداته للإمبريالية والاستعمار أيضا، وذلك على نسق ما كان قد فعل قبل ذلك حيث أقنع الأحزاب السياسية الإيرانية اليسارية ولاسيما حزب توده باتجاهاته الديمقراطية ومعاداته للاستعمار والدكتاتورية وسعيه لإقامة نظام ديمقراطي في إيران. وعزز هذا الإقناع في بداية تموز/ يوليو 1946 بتأسيس حزب سياسي (الحزب الديمقراطي الإيراني) وجعله حليفا للجبهة الوطنية وأحزابها اليسارية، وباشراك حزب توده في السلطة ممثلا بثلاثة وزراء مهمين (الصناعة والصحة والثقافة) في مطلع آب/أغسطس من نفس العام وبتعيين سفير له في موسكو موالي للاتحاد السوفييتي.
وبذلك يكـون رئيس وزراء الحكومـة المركزيـة في طهران قـوام السلطنة قد أوجد (1) المبرر القوى لانسحاب القوات السوفيتية من إيران، واقتصد للدولة السوفيتية نفقات احتلال الجيش الأحمر لشمال إيران،وتكاليف دفاعه المحتمل عن الجمهوريتين اللتين أنشئتا بمساعدته وبدعم منه. (2) ربط الحركة الوطنية الإيرانية بعجلته، وسحب البساط من تحت قدميها وأعاقها عن الحركة. (3) خدع قادة الحزب الديمقراطي الكردستاني وحجب عنها الرؤيا السليمة للأحداث واستقرائها بطريقة واقعية بما في ذلك تحركات الجيش الإيراني نحو احتلال الجمهورية.
ولعل النجاح الأساسي الذي أحرزه قوام السلطنة على كل من الاتحاد السوفييتي والحركة الوطنية الإيرانية وقيادتي الجمهوريتين الأذربيجانية الشعبية والكردية يتمثل في ربط الوفاء بوعوده (الديمقراطية) بإجراء انتخابات للبرلمان الإيراني وربط حرية الانتخابات ونزاهتها بعودة قوات الجيش الإيراني إلى احتلال المواقع التي سبق وان طرد منها في شمال إيران.
وعلى الرغم من الإجراءات التي تكشف بوضوح النوايا الحقيقية لقوام السلطنة ومنها على سبيل المثال لا الحصر: مساهمته شخصيا في تموز/يوليو 1946 في إثارة القبائل الإيرانية بالتعاون مع شركة النفط البريطانية في محافظتي خوزستان وفارس على المنظمات الديمقراطية ونقابات العمال ومهاجمتهم مقرات حزب توده والمطالبة بإخراج الوزراء التودويين من الحكومة، وعدم تصديق حكومته على الاتفاق المبرم مع رئيس جمهورية أذربيجان ذات الحكم الذاتي للاعتراف بوجودها ولتوسيع نطاقها الجغرافي، والسماح بتغلغل النفوذ الأمريكي في شؤون إيران وتدعيم النفوذ البريطاني القوي أصلا، إلا أن قادة الأحزاب السياسية الإيرانية ومنها قادة الحزب الديمقراطي الكردستاني ظلوا يثقون بقوام السلطنة إلى نهايـة المطاف علما بأن الاذري والكـردي البسيط كانا يعلمان أن قوام السلطنة لا يفعل شيئا إلا بموافقة الشاه وموافقة الأمريكان والإنجليز.
ولا غرابة البتة في أن تساعد الحكومتان الأمريكية والإنجليزية الحكومة الإيرانية الرجعية بقوة، وتعملان بحزم على إنقاذ نظام الشاه الموالي لهما، بالقضاء على الحركة الوطنية التحررية الإيرانية المعادية للشاه وللإمبريالية ومنع نظامه من التفكك حماية لمصالحهما الاقتصادية والنفطية والاستراتيجية، وتعملان على إسقاط جمهورية كردستان للحيلولة دون انتعاش الحركة التحررية الكردية في العراق وتركيا، بما يعرض مصالحها للخطر في ثلاثة بلدان غنية بالموارد الطبيعية تدور في فلك سياستيهما الاستعمارية، إضافة إلى قربها من الاتحاد السوفيتي الذي تحول إلى العدو الأول للإمبريالية العالمية غداة القضاء على ألمانيا النازية ودول المحور.
د- عوامل أخرى
وثمة عاملان إضافيان لابد من التطرق إليهما ساهما في التعجيل بإسقاط جمهورية كردستان هما: تلكؤ قادة الجمهورية في توسيع رقعة الجمهورية وتعذر توسيع نطاق الثورة الكردية لتشمل أجزاء كردستان الأخرى.
طرح موضوع توسيع رقعة جمهورية كردستان منذ ربيع 1946، فقد كانت قيادة الجمهورية تتلمس مدى خطورة وجود قوات إيرانية في مدن سقز وسردشت الواقعة على طول الحدود الجنوبية للجمهورية. كما كانت تدرك أهمية تحريرها لبقية المناطق الكردية في إيران. وعلى الرغم من حشدها في جبهة سقز-بأنه نحو 13 ألف مقاتل كردي من بينهم 2000 من البارزانيين المدربين تدريبا جيدا مقابل نحو 11 ألف جندي إيراني محاصرين عمليا ومقطوعين عن خطوط تموينهم واشتباك هذه القوات في معركتين الحق البارزانيون في المعركة الأولى هزيمة نكراء بالجيش الإيراني أثارت المشاعر القومية لدى الأكراد ورصت صفوفهم، كما أثارت حنق رئاسة الأركان الإيرانية في طهران وثبطت عزيمة الجيش، وآلت إلى إرسال اللواء رزم آرا قائدا جديدا لمنطقة سقز، واضطرار القوات الكردية إلى التراجع في المعركة الثانية إلا أنها لم تفقد معنوياتها العالية واستعدادها لإعادة الكرة والتوجه لتحرير مدينة سنه، لكن قيادة الجمهورية اتخذت تحت تأثير القنصل السوفيتي في أورمية، وتوقيع الحكومة الإيرانية على اتفاقية تأسيس شركة النفط الإيرانية-السوفيتية المشتركة (بانتظار موافقة البرلمان الجديد) وتوقيع اتفاقية مظفر فيروز-بيشوري للاعتراف بجمهورية أذربيجان (التي أهملت فيما بعد)، قرارا بالتوقف عن الهجوم على الجيش الإيراني أي ترك فكرة تحرير بقية مناطق كردستان. وكان هذا القرار هو الشق الأول من السياسة العسكرية الانتحارية لجمهورية كردستان.
عقدت الأمة الكردية برمتها آمالها في التحرر والانعتاق على جمهورية كردستان في مهاباد، وشخصت في قيامها اللبنة الأولى في صرح مستقبلها ومكانتها بين الأمم والشعوب المتحررة. فقد تدفق على الجمهورية الفتية أكراد العراق بمقاتليهم ومثقفيهم وشاركوا بحماس في بناء مؤسساتها وجاءها ممثلو أكراد تركيا وسورية وزارها أكراد المهجر قادمين من مختلف بقاع العالم، واحتضنت الجمهورية جميع هؤلاء بكل صدق وحرارة إلا أن جمهورية كردستان كانت وحيدة وصغيرة ومحاطة بأعداء أقوياء، من الداخل ومن الخارج، وبأصدقاء ضعفاء وبحركة كردية كانت في حالة جزر وانكماش اثر فشل ثورة البارزاني في العراق عام 1945 وتصفيتها بفضل تدخل سلاح الجو البريطاني في المعارك إلى جانب قوات الجيش العراقي. ولم يكن الشعب الكردي في تركيا قد أعاد تكوين تنظيمه واستعداده للثورة بعد. وهذا هو الشق الثاني الذي قـتل الجمهورية الكردية في المهد.
-------------------------
** أنظر: زهير عبد الملك، الأكراد بلادهم كردستان بين سؤال وجواب، آبيك، ستوكهولم 1999.(س 21 ).
2009-01-21
في مثل هذا اليوم 22/1/1946 ، أعلن قاضي محمد رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني في إيران -رسميا- ولادة جمهورية كردستان،أثناء اجتماع حضره، في ساحة جوار جرا (القناديل الأربعة) بمدينة مهاباد، مندوبون يمثلون معظم المناطق الكردية في إيران والعراق وتركيا وسورية بينهم قادة بارزون وعسكريون ومثقفون وعدد من رجال الدين ورؤساء العشائر، إضافة إلى حشد كبير من أهالي المدينة. وتضمنت الكلمة القصيرة التي ألقاها رئيس الجمهورية التأكيد على أن الأكراد شعب مستقل، يعيش في وطنه كردستان، ويتمتع في ذلك شأن باقي شعوب الأرض بحقه في تقرير المصير، وان الأكراد قد استيقظوا من سباتهم ولديهم الآن أصدقاء أقوياء. ثم شكر في ختام كلمته اللجنة المركزية للحزب الديمقراطي الكردستاني،واستعرض وتطرق إلى برنامجه السياسي، وأشاد بالاتحاد السوفيتي على مساندته المادية والمعنوية للشعب الكردي، وهنأ الشعب الأذربيجاني على استقلاله، ودعاه إلى التعاون المتبادل لصيانة مكاسب وحقوق الشعبين.
ولدت جمهورية كردستان بظل ظروف داخلية ودولية مواتية: فقد رافق احتلال الحلفاء لإيران في صيف 1941 انهيار النظام السياسي القائم، وانتعاش الحريات الديمقراطية في البلاد، وتعاظم قوة الأحزاب السياسية الإيرانية ولاسيما حزب تودة إلى جانب نمو الأحزاب والمنظمات الأخرى، ومنها ظهور منظمات قومية جديدة مثل جمعية (كومه له زياني كورد) أي جمعية "الاحياء الكردي". كما تميز الوضع الدولي آنذاك بتنامي الحركات الديمقراطية المعادية للفاشية والنازية والمطالبة باستقلال الشعوب وحقها في تقرير المصير وإحرازها لانتصارات باهرة في جميع أنحاء العالم. كما كانت الظروف المحلية في مدينة مهاباد بوجه خاص، وفي بقية أنحاء كردستان الشرقية مهيأة لإحراز نصر عظيم للشعب الكردي في هذه المنطقة المحررة من النفوذ الشاهنشاهي والمحتلة من قبل القوات السوفيتية منذ 25/8/1491 حيث أزال أهالي مهاباد والقرى المجاورة جميع مؤسسات السلطة الشاهنشاهية وعهدوا بالسلطة إلى رؤساء العشائر والشيوخ والأغوات.
وفي صيف 1942 أسست مجموعة من أبناء الطبقة الوسطى من أهالي مهاباد بمساعدة من بعض المثقفين الأكراد من أهالي السليمانية، جمعية الاحياء الكردي، وحددوا أهدافها بتحرير الأمة الكردية، واصدروا مجلة نيشتمان -الوطن-للتعبير عن أفكارهم. وكانت هذه الجمعية في الواقع أول منظمة كردية قوية تخلو قيادتها من الإقطاعيين ومن رؤساء العشائر، كما أنها كانت أول منظمة قومية تستطيع ترسيخ دعوتها القومية لتحرير الأكراد. ومن هذه المنظمة بالذات، نشأ الحزب الديمقراطي الكردستاني في 16/8/1945 واستلم السلطة في جمهورية مهاباد يوم 22/1/1946 محددا لنفسه إنجاز ثلاث مهام أساسية ربط من خلالها تحرير الأمة الكردية بآلية مستحدثة لم يكن الفكر السياسي الكردي الناشئ لتوه قادرا على إدراك مخاطرها، كما لم يكن قادة الحزب أنفسهم قادرين على إدراك المخاطر قريبة المدى على كيان الجمهورية والمخاطر بعيدة المدى على مستقبل الحركة القومية الكردية لمثل هذا الربط الأممي للمسألة الكردية.
ومن الممكن تلخيص تلك المهام الثلاث التي اخذ الحزب الديمقراطي الكردستاني ومن ثم الجمهورية الكردية على عاتقهما إنجازها بجملتين هما: ربط كفاح الشعب الكردي بكفاح الشعوب الإيرانية، وتنظيم الجماهير الكردية تحت راية الحزب وحول برنامج سياسي واضح المعالم.
وقد حدد بيان الحزب الديمقراطي الكردستاني الصادر آنذاك هذا البرنامج بثمانية بنود، تلخص البنود ا و 5 و 6 جوهر برنامج الحزب وسياسته القومية وهي:
بند 1: أن تكون الأمة الكردية مستقلة حرة في إدارة شؤونها المحلية داخل إيران وان تنال حكمها الذاتي في إطار الدولة الإيرانية.
بند 5: يجب تحقيق اتفاق على أساس قانون عام بين الفلاحين والمالكين وأن يضمن مستقبل الطرفين.
بند 6: أن يناضل الحزب الديمقراطي الكردستاني من أجل خلق وحدة وأخوة نضالية تامة على الأخص مع الأمة الأذربيجانية، ومع الأقليات الأخرى التي تعيش في أذربيجان مثل الآشوريين والأرمن وغيرهم.
وحقق الشعب الكردي خلال العمر القصير للعهد الجمهوري الأول في تاريخه إنجازات عديدة لكن أهمها على الإطلاق: الحرية في إدارة شؤونه وممارسة لغته وإحياء ثقافته وتكوين شخصيته القومية والبدء بعملية تغير اجتماعي واقتصادي وثقافي عميقة الجذور، والتحرر من الخوف ومن بطش السلطات الإيرانية وظلمها وفساد نظامها الإداري.
وإذا كان الفرح الذي غمر كردستان برمتها آنذاك لم يشهد له تاريخ الأكراد، كما لم تشهد الأجيال اللاحقة له مثيلا حتى الآن، فقد تحول الإحباط في النفوس جراء السقوط المأساوي للجمهورية ، ولم تكمل العام الأول من عمرها، إلى جرح ظل ينزف في قلوب الأكراد جيلا بعد جيل، واصبح علم كردستان الذي ظل خفاقا في مهاباد فوق مقر الحكومة الكردية وعلى سطوح المنازل وواجهات المحلات مستمسكا جرميا يخفى عن عيون السلطات ليس في إيران فحسب بل وفي العراق وتركيا وسورية خوفا من العقاب الصارم، وتودعه الأمهات في متاع المسافرين من أبنائهن كي لا ينسوا وطنهم في الغربة، واصبح نشيد جمهورية كردستان أي رقيب، الأمة الكردية باقية حية لا تموت نشيدا سريا لا يذاع إلا في الخفاء.
وقبل سقوط جمهورية كردستان بأيام سقطت جمهورية أذربيجان الشعبية يوم 12/12/1946 دون مقاومة تذكر في حين أجهزت الرجعية المحلية وقوات الحكومة المركزية على ما يقدر بنحو 000 15 من قادة وأنصار تلك الجمهورية خلال أسبوع واحد.
سقطت جمهورية كردستان في 17/12/1946 بأيدي قوات الحكومة المركزية دون مقاومة تذكر، رغم أن تعداد الجيش الذي دخل مهاباد لم يزد عن 600 جندي ترافقهم مدرعتان ومعهم مدفعين فقط، ناهيك عن ارتباك المهاجمين وعدم كفاية عتادهم ومؤونتهم من الطعام والوقود وتعذر تقدمهم بسبب الثلوج والأمطار التي قطعت الطرق المؤدية إلى قلب العاصمة مهاباد.
وهكذا أسدل الستار على أول جمهورية كردية باعتقال رئيسها ثم إعدامه شنقا مع عدد من أبرز قادة الجمهورية في ساحة القناديل الأربعة فجر يوم 30/3/1947، كما اعدم قادة آخرون وسجن بعضهم وهرب معظمهم، وأزيلت من مهاباد جميع معالم الجمهورية ومؤسساتها.
أما أسباب سقوط جمهورية مهاباد على هذا النحو المأساوي، فعديدة ومتشابكة؛ ولم تدرس هذه الواقعة التاريخية بعمق سياسي استراتيجي حتى الآن، وإنما أهملت كمجد تليد وحلم ربما يتكرر ذات يوم. ولأضع ذات السؤال بصيغة ديناميكية على النحو التالي: هل كان بالإمكان أن تستمر جمهورية كردستان وتتطور؟!
إن الإجابة على هذا السؤال تضفي على هذه التجربة الفريدة في تاريخ الشعب الكردي طابعا تحليليا، وتحدد -دون شك- معالم الدروس التي كان يتوجب الاهتداء بمنطوياتها في الكثير من المواقف التي تعرضت لها القضية الكردية خلال العقود التالية ابتداء من الخمسينات وحتى اليوم.
من الممكن تلخيص الأخطار التي كانت تحيط بالجمهورية الكردية في إطار فئتين مترابطتين ومتكاملتين من العوامل (1) الموضوعية و (2) الذاتية. وتشمل الأولى مجمل الظروف الخارجية المحلية والإقليمية والدولية بما في ذلك طبيعة نظام الحكم في إيران ومدى سلامة نهج الحركة الديمقراطية الإيرانية والموقف الإقليمي من مسألة التحرر القومي وأخيرا مصالح الدول الكبرى التي كانت تحتل إيران آنذاك وهي بريطانيا والولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي. وتشمل الثانية طبيعة النظام السياسي الذي أقامته الجمهورية الكردية وعلاقتها بجمهورية أذربيجان الديمقراطية المجاورة لها ومدى سلامة خطتها للدفاع عن نفسها وصيانة مكاسبها.
ولقد كانت قيادة الجمهورية تدرك دون شك حجم هذه الأخطار. وبإمكاننا الاستدلال من دراسة هذه الفترة من تاريخ الحركة الوطنية الكردية على أن قيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني وجدت من جهة في استراتيجية التحالف مع القوى الديمقراطية في إيران أي مع حزب توده والفرقة الديمقراطية الأذربيجانية وحزب إيران والحزب الاشتراكي وحزب جنكل في إطار جبهة وطنية موسعة خير ضمان لبقاء الجمهورية الكردية وصيانتها.كما عمدت من جهة أخرى إلى تعزيز القوات الكردية المدافعة عن الجمهورية بقيادة الملا مصطفى البارزاني، والعمـل على سـد الثغرات الخطيـرة في مستويات تدريبهـا وتسليحها وتثقيفها بالولاء للجمهورية وليس للرؤساء العشائريين. ولم يكن عدد هذه القوات يزيد إلا قليلا عن 12750 مقاتلا منهم 2000 من المقاتلين البارزانيين.
وسعت قيادة الجمهورية إلى تمتين علاقتها مع حكومة جمهورية أذربيجان الشعبية واحتاطت لما قد ينجم من مشكلات بين الجمهوريتين في المستقبل، بإبرام معاهدة صداقة وتعاون وقعها في تبريز قاضي محمد وجعفر بيشوري يوم 27/2/1946. وقد نصت المعاهدة من بين أمور أخرى، على احترام حقوق الأقليات الكردية في أذربيجان والأذربيجانيين في كردستان، وعلى أن يكون التفاوض مع السلطة المركزية في طهران بموافقة الحكومتين مسبقا.
وهكذا يمكننا أن نستنتج بوضوح عناصر الاستراتيجية التي حددتها الحكومة الكردية لصيانة الجمهورية وهي: الجبهة الوطنية الموسعة، وتدعيم قواتها المسلحة، وإبرام معاهدة الصداقة والتعاون مع حكومة جمهورية أذربيجان ذات الحكم الذاتي المجاورة. ومن المؤكد أنها وجدت في السياسة السوفيتية المدافعة بحماس عن حقوق الشعوب في حق تقرير مصيرها وصيانة مكاسبها الديمقراطية إطارا شاملا لدعم كيانها.
فهل كانت استراتيجية الدفاع عن الجمهورية هذه سليمة وكافية؟
لعل من نافلة القول أن نجيب بكلا. لكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد. ولكن النظرة المعمقة لبرنامج الحزب الحاكم تكشف لنا عن الأسباب الأساسية للانهيار المأسوي للجمهورية الفتية. ولنعد الآن إلى دراسة البنود الثلاثة 1 و 5 و 6 الواردة في برنامج الحزب الديمقراطي الكردستاني على مستوى السياسة القومية والاقتصادية، ونبين أثر القوى الدولية في انهيار الجمهورية الكردية وعوامل أخرى.
(أ) السياسة القومية: اختارت قيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني صيغة الحكم الذاتي لتحديد نمط ارتباط جمهورية كردستان بالحكومة المركزية في طهران، ووجدت في هذه الصيغة خير تعبير عن حق الشعب الكردي في تقرير مصيره، كما وجدت في قيام نظام ديمقراطي في إيران خير ضمان لاستمرار تطبيق هذا الحكم الذاتي، أي أنها اختارت عمليا حكما ديمقراطيا في إيران يتمتع بظله الأكراد بحكم ذاتي. ولولا ضعف النظام الشاهنشاهي آنذاك وقوة الجبهة الوطنية الإيرانية ولاسيما حزب توده الإيراني، واستعدادها لاستلام السلطة بين لحظة وأخرى لأمكننا القول بان قادة الحزب قد وضعوا العربة أمام الحصان بتأسيس جمهورية مهاباد، أي أنهم ارتكبوا خطأ تاريخيا لا يغتفر، وكان الأجدر بهم أن يقفزوا سويا مع الأحزاب السياسية الإيرانية إلى السلطة في طهران قبل أن يقفزوا إلى السلطة وحدهم في مهاباد.
وقد برهن تطور الأحداث اعتبارا من صيف 1946 على أن هذه السياسة القومية لم تكن تستند إلى ضمانات فعلية بجميع المقاييس النظرية والعملية.
ففي الفترة ما بين 2/8/1946 وهو اليوم الذي يؤرخ مشاركة حزب توده في السلطة بثلاثة وزراء وبين 17/12/1946 وهو نفس اليوم الذي يؤرخ فيه مداهمة السلطات الإيرانية لمقرات الحزب المذكور وهروب قادته إلى خارج البلاد، وانهيار الحركة الوطنية الإيرانية واستسلام أنصارها دون مقاومة، ظهر أن الجبهة الوطنية الإيرانية لم تكن تملك آنذاك أي برنامج عملي ليس للوصول إلى السلطة فحسب وإنما حتى للدفاع عن نفسها ناهيك عن قدرتها على الحركة للدفاع عن جمهورية كردستان أو أذربيجان الشعبية.
ولم تكن صيغة الحكم الذاتي لجمهورية كردية من المنتظر ازدهارها ونموها بظل دولة إيرانية ديمقراطية معادية لمصالح المستعمرين البريطانيين والأمريكيين وحليفة للاتحاد السوفيتي منسجمة مع مصالح التركيبة الطبقية لقيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني والجمهورية. فقد كان نصف أعضاء قيادة الحزب ولجنته المركزية من الإقطاعيين وكبار المالكين، كما كانت قيادة معظم فصائل المدافعين عن الجمهورية تحت إمرة رؤساء العشائر. وكان هؤلاء يدركون إدراكا تاما مدى خطورة جمهورية كردستان الديمقراطية على مصالحهم المادية ونفوذهم السياسي والاجتماعي لذلك لم يتأخروا هم وغيرهم عن التخلي عن الجمهورية ومكاسبها حين حان وقت الدفاع عنها، بل انهم كانوا يقاومون أي اتجاه نحو الاهتمام بمصالح غالبية سكان كردستان من الفلاحين المعدمين حتى خلال العمر القصير لجمهورية كردستان.
ومن ذلك نستنج أن صيغة الحكم الذاتي هذه لم تكن بالضرورة موجهة لرعاية مصالح الأكراد من الفلاحين والرعاة والعمال الموسميين والنساء والعاطلين وإذا أضفنا إلى ذلك حقيقة أخرى هي أن الحكم الذاتي المحلي صيغة تتعارض مع طبيعة نظم الحكم السائدة في البلدان المتخلفة (النامية) ومع السلوك الاستبدادي لقادة تلك البلدان، وإنما هي (أي الحكم الذاتي) صيغة مستعارة ولا تصلح للتطبيق إلا في مجتمع متقدم ولنظام حكم راسخ يستند في ممارسة وظائفه على مستوى الدولة والقيادة على مؤسسات ديمقراطية تضمن حرية التعبير وحقوق الإنسان وتداول السلطة ونزاهة الانتخابات والحريات العامة، يمكننا أن نستنتج ما يلي: لقد استعارت قيادة الحزب مفهوم الحكم الذاتي من جارتها جمهورية أذربيجان الديمقراطية الشعبية ولا يمكن استثناء دور السوفييت في إملاء هذه الصيغة على قيادة الحزب والجمهورية الكردية.
(ب) السياسة الاقتصادية:
كان النفوذ القانوني لسلطة جمهورية كردستان يقتصر على ثلث مساحة كردستان -إيران (ماعدا لورستان) أي زهاء 000 41 كيلو متر مربع. وكان النظام الاقتصادي السائد نظاما إقطاعيا من الطراز الكلاسيكي، حيث يتملك 1% من السكان نسبة 56% من الأراضي الزراعية، وتعود ملكية 40% منها إلى أقل من 2 في الألف من الإقطاعيين. أما نسبة المعدمين في الريف فقد تجاوزت نسبة 60% من الفلاحين في حين لم تزد نسبة صغار المزارعين ومتوسطيهم (ممن يمتلكون أقل من هكتار واحد) عن نسبة 23% من مجموع سكان القرى.
وقد حدد برنامج الحزب الديمقراطي الكردستاني المعالم الرئيسية للسياسة الاقتصادية التي اتبعتها جمهورية كردستان في إطار فقرتيه 5 و 7. فقد حددت الفقرة 7 السياسة الاقتصادية العامة بأن: يعمل الحزب ويناضل من أجل تقدم الزراعة والتجارة وتطوير الثقافة والصحة وتحسين الحياة الاقتصادية والمعنوية للشعب الكردي بالاستفادة من الثروات الطبيعية والمعادن في كردستان، في حين حددت الفقرة 5 كما ذكرنا أعلاه تحقيق اتفاق على أساس قانون عام، بين الفلاحين والمالكين، وان يضمن (أي الاتفاق) مستقبل الطرفين. كما وضعت الجمهورية خريطة تحدد مساحة الملكيات الزراعية، وأنشأت إدارة لمعالجة قضايا الزراعة والمشكلات العقارية وشركة تتولى مراقبة التجارة الخارجية.
ولربما كانت فكرة (الاتفاق) محاولة من جانب الجمهورية لتشريع قانون عام يحدد العلاقة بين الفلاحين والإقطاعيين كخطوة أولى لمجابهة الظلم الإقطاعي السائد في الريف الكردي، إلا أن ثمن هذه المحاولة الإصلاحية كان باهظا حقا، فقد كلف الأكراد جمهوريتهم الأولى دون شك.
ويعزى التعاون بين الحزب والإقطاعيين إلى نشوء نوع من المصالح المتبادلة بين الطرفين. فمن جهة أنعش الحزب، بمبادرته إلى إقامة جمهورية كردية في مهاباد، مشاعر الاعتزاز بالانتماء القومي لدى جميع الفئات الاجتماعية الكردية في كردستان برمتها، وهي ظاهرة اجتماعية تعكس تراكم الشعور بالظلم والاستياء من الحكام الأجانب، وترتبط ارتباطا وثيقا بالتركيب النفسي للشعب الكردي، وخصائصه القومية ونزعته الاستقلالية وبذلك غذت مبادرة الحزب طموحات الإقطاعيين ورؤساء العشائر ورجال الدين ونزعتهم القومية الكردية واندفعوا لتأييدها بحماس بالغ. ومن جهة أخرى، لم يكن الحزب الديمقراطي الكردستاني الناشئ حديثا قادرا على الأخذ بزمام المبادرة، ولم يكن يمتلك الوسائل المادية الضرورية لإسنادها ودعمها وتحقيق أهدافها دون الاعتماد على المصدر الوحيد لتعبئة المال والسلاح والرجال أي على فئة الإقطاعيين ورؤساء العشائر.
لكن تعاون هذه الفئة لم يكن دون شروط أو ضمانات بل إن هذه الضمانات تأكدت بوجود ممثليهم في اللجنة المركزية للحزب وفي مجلس وزراء الجمهورية بنسبة تزيد عن النصف، وبعدم إقدام الجمهورية على توزيع الأراضي على الفلاحين وتقويض النظام الإقطاعي، وبمطالبة الحزب بحكم ذاتي ضمن إطار الدولة الإيرانية أي المطالبة بهدف لا يشكل في واقع الأمر خرقا للنظام الإيراني الذي يقر بمبدأ مجالس المناطق والولايات في القانون الأساسي. وتشكل هذه النقطة الأخيرة خط الرجعة للإقطاعيين بالنسبة لعلاقتهم بالسلطة المركزية في طهران ناهيك عن ارتباط معظمهم بنظام الشاه في طهران في وقت كانوا يحتلون فيه مراكز عالية في جمهورية كردستان.
من هذا نستنتج خطأ الفكرة التي اعتنقها السياسيون الأكراد ممن يقولون بعدم وجود طبقة اجتماعية معادية لنضال الشعب الكردي التحرري، إذ أنهم لا يميزون بين شعور الاعتزاز بالانتماء القومي، وهي ظاهرة اجتماعية وتاريخية وسمة إنسانية طبيعية لدى جميع الأكراد شأن غيرهم من القوميات وبين المصالح الطبقية الحقيقية التي تحدد الولاء السياسي، بالضرورة للحكومات المركزية والدول الاستعمارية إذا كان البديل المطروح دولة كردية تستهدف سياستها القضاء على امتيازات الإقطاعيين ونفوذهم السياسي والاجتماعي.
(جـ) السياسة الخارجية والدولية
اتفق الحلفاء (روزفلت وستالين وتشرشل) أثناء الحرب العالمية الثانية في مؤتمر طهران (تشرين الثاني/نوفمبر 1943) على إجلاء قواتهم من إيران بعد انتهاء الحرب بستة أشهر. وقد انتهت الحرب في أوروبا يوم 8/5/1945 باستسلام ألمانيا وفي آسيا باستسلام اليابان يوم 2/9/1945. وطبقا لبنود الاتفاق، فقد انسحبت القوات الأمريكية من جنوب إيران يوم 1/12/1945 وانسحب الجيش البريطاني من الوسط والجنوب في 1/2/1946، ولم تنسحب القوات الروسية من شمال إيران.
وفي 16/3/1946 قدمت الحكومة الإيرانية شكوى إلى مجلس الأمن تطالب فيها بانسحاب الجيش الأحمر من إيران. وفي نهاية الشهر نفسه سافر قوام السلطنة رئيس وزراء إيران آنذاك إلى موسكو ونجح في إبرام اتفاقية مع الاتحاد السوفيتي نصت على : (أ) أن يغادر الجيش الأحمر الأراضي الإيرانية خلال شهر ونصف من موعد إبرام الاتفاقية في 24/3/1946 (ب) تأسيس شركـة للنفط مختلطة إيرانية - سوفيتيـة بموجب اتفاقيـة أمدها 50 عاما واستخراج النفط من شمال إيران على أن تكون حصة إيران خلال منتصف المدة 49% وحصة الاتحاد السوفيتي 51%، ثم يتساويان في الحصص في النصف الثاني من مدة الاتفاقية، ويعقبها شراء إيران لحصة الاتحاد السوفييتي. وربط تنفيذ الاتفاقية المذكورة بموافقة البرلمان الإيراني الذي سينتخب خلال ستة أشهر بعد موعد انسحاب الجيش الأحمر.
ومن المؤكد أن قوام السلطنة نجح في إقناع القادة السوفيت باتجاهاته التقدمية ورغبته في إقامة نظام ديمقراطي في إيران وتقليص نفوذ الشاه وإطلاق الحريات العامة وتأييده لحقوق القوميات في الحكم الذاتي ولربما معاداته للإمبريالية والاستعمار أيضا، وذلك على نسق ما كان قد فعل قبل ذلك حيث أقنع الأحزاب السياسية الإيرانية اليسارية ولاسيما حزب توده باتجاهاته الديمقراطية ومعاداته للاستعمار والدكتاتورية وسعيه لإقامة نظام ديمقراطي في إيران. وعزز هذا الإقناع في بداية تموز/ يوليو 1946 بتأسيس حزب سياسي (الحزب الديمقراطي الإيراني) وجعله حليفا للجبهة الوطنية وأحزابها اليسارية، وباشراك حزب توده في السلطة ممثلا بثلاثة وزراء مهمين (الصناعة والصحة والثقافة) في مطلع آب/أغسطس من نفس العام وبتعيين سفير له في موسكو موالي للاتحاد السوفييتي.
وبذلك يكـون رئيس وزراء الحكومـة المركزيـة في طهران قـوام السلطنة قد أوجد (1) المبرر القوى لانسحاب القوات السوفيتية من إيران، واقتصد للدولة السوفيتية نفقات احتلال الجيش الأحمر لشمال إيران،وتكاليف دفاعه المحتمل عن الجمهوريتين اللتين أنشئتا بمساعدته وبدعم منه. (2) ربط الحركة الوطنية الإيرانية بعجلته، وسحب البساط من تحت قدميها وأعاقها عن الحركة. (3) خدع قادة الحزب الديمقراطي الكردستاني وحجب عنها الرؤيا السليمة للأحداث واستقرائها بطريقة واقعية بما في ذلك تحركات الجيش الإيراني نحو احتلال الجمهورية.
ولعل النجاح الأساسي الذي أحرزه قوام السلطنة على كل من الاتحاد السوفييتي والحركة الوطنية الإيرانية وقيادتي الجمهوريتين الأذربيجانية الشعبية والكردية يتمثل في ربط الوفاء بوعوده (الديمقراطية) بإجراء انتخابات للبرلمان الإيراني وربط حرية الانتخابات ونزاهتها بعودة قوات الجيش الإيراني إلى احتلال المواقع التي سبق وان طرد منها في شمال إيران.
وعلى الرغم من الإجراءات التي تكشف بوضوح النوايا الحقيقية لقوام السلطنة ومنها على سبيل المثال لا الحصر: مساهمته شخصيا في تموز/يوليو 1946 في إثارة القبائل الإيرانية بالتعاون مع شركة النفط البريطانية في محافظتي خوزستان وفارس على المنظمات الديمقراطية ونقابات العمال ومهاجمتهم مقرات حزب توده والمطالبة بإخراج الوزراء التودويين من الحكومة، وعدم تصديق حكومته على الاتفاق المبرم مع رئيس جمهورية أذربيجان ذات الحكم الذاتي للاعتراف بوجودها ولتوسيع نطاقها الجغرافي، والسماح بتغلغل النفوذ الأمريكي في شؤون إيران وتدعيم النفوذ البريطاني القوي أصلا، إلا أن قادة الأحزاب السياسية الإيرانية ومنها قادة الحزب الديمقراطي الكردستاني ظلوا يثقون بقوام السلطنة إلى نهايـة المطاف علما بأن الاذري والكـردي البسيط كانا يعلمان أن قوام السلطنة لا يفعل شيئا إلا بموافقة الشاه وموافقة الأمريكان والإنجليز.
ولا غرابة البتة في أن تساعد الحكومتان الأمريكية والإنجليزية الحكومة الإيرانية الرجعية بقوة، وتعملان بحزم على إنقاذ نظام الشاه الموالي لهما، بالقضاء على الحركة الوطنية التحررية الإيرانية المعادية للشاه وللإمبريالية ومنع نظامه من التفكك حماية لمصالحهما الاقتصادية والنفطية والاستراتيجية، وتعملان على إسقاط جمهورية كردستان للحيلولة دون انتعاش الحركة التحررية الكردية في العراق وتركيا، بما يعرض مصالحها للخطر في ثلاثة بلدان غنية بالموارد الطبيعية تدور في فلك سياستيهما الاستعمارية، إضافة إلى قربها من الاتحاد السوفيتي الذي تحول إلى العدو الأول للإمبريالية العالمية غداة القضاء على ألمانيا النازية ودول المحور.
د- عوامل أخرى
وثمة عاملان إضافيان لابد من التطرق إليهما ساهما في التعجيل بإسقاط جمهورية كردستان هما: تلكؤ قادة الجمهورية في توسيع رقعة الجمهورية وتعذر توسيع نطاق الثورة الكردية لتشمل أجزاء كردستان الأخرى.
طرح موضوع توسيع رقعة جمهورية كردستان منذ ربيع 1946، فقد كانت قيادة الجمهورية تتلمس مدى خطورة وجود قوات إيرانية في مدن سقز وسردشت الواقعة على طول الحدود الجنوبية للجمهورية. كما كانت تدرك أهمية تحريرها لبقية المناطق الكردية في إيران. وعلى الرغم من حشدها في جبهة سقز-بأنه نحو 13 ألف مقاتل كردي من بينهم 2000 من البارزانيين المدربين تدريبا جيدا مقابل نحو 11 ألف جندي إيراني محاصرين عمليا ومقطوعين عن خطوط تموينهم واشتباك هذه القوات في معركتين الحق البارزانيون في المعركة الأولى هزيمة نكراء بالجيش الإيراني أثارت المشاعر القومية لدى الأكراد ورصت صفوفهم، كما أثارت حنق رئاسة الأركان الإيرانية في طهران وثبطت عزيمة الجيش، وآلت إلى إرسال اللواء رزم آرا قائدا جديدا لمنطقة سقز، واضطرار القوات الكردية إلى التراجع في المعركة الثانية إلا أنها لم تفقد معنوياتها العالية واستعدادها لإعادة الكرة والتوجه لتحرير مدينة سنه، لكن قيادة الجمهورية اتخذت تحت تأثير القنصل السوفيتي في أورمية، وتوقيع الحكومة الإيرانية على اتفاقية تأسيس شركة النفط الإيرانية-السوفيتية المشتركة (بانتظار موافقة البرلمان الجديد) وتوقيع اتفاقية مظفر فيروز-بيشوري للاعتراف بجمهورية أذربيجان (التي أهملت فيما بعد)، قرارا بالتوقف عن الهجوم على الجيش الإيراني أي ترك فكرة تحرير بقية مناطق كردستان. وكان هذا القرار هو الشق الأول من السياسة العسكرية الانتحارية لجمهورية كردستان.
عقدت الأمة الكردية برمتها آمالها في التحرر والانعتاق على جمهورية كردستان في مهاباد، وشخصت في قيامها اللبنة الأولى في صرح مستقبلها ومكانتها بين الأمم والشعوب المتحررة. فقد تدفق على الجمهورية الفتية أكراد العراق بمقاتليهم ومثقفيهم وشاركوا بحماس في بناء مؤسساتها وجاءها ممثلو أكراد تركيا وسورية وزارها أكراد المهجر قادمين من مختلف بقاع العالم، واحتضنت الجمهورية جميع هؤلاء بكل صدق وحرارة إلا أن جمهورية كردستان كانت وحيدة وصغيرة ومحاطة بأعداء أقوياء، من الداخل ومن الخارج، وبأصدقاء ضعفاء وبحركة كردية كانت في حالة جزر وانكماش اثر فشل ثورة البارزاني في العراق عام 1945 وتصفيتها بفضل تدخل سلاح الجو البريطاني في المعارك إلى جانب قوات الجيش العراقي. ولم يكن الشعب الكردي في تركيا قد أعاد تكوين تنظيمه واستعداده للثورة بعد. وهذا هو الشق الثاني الذي قـتل الجمهورية الكردية في المهد.
-------------------------
** أنظر: زهير عبد الملك، الأكراد بلادهم كردستان بين سؤال وجواب، آبيك، ستوكهولم 1999.(س 21 ).