سليم بركات روائي و شاعر و أديب كردي من سوريا من مواليد عام 1951 في مدينة القامشلي ، سوريا, قضى فترة الطفولة و الشباب الأول في مدينته و التي كانت كافية ليتعرف على مفردات ثقافته الكردية بالإضافة إلى الثقافات المجاورة كالآشورية و الأرمنية . انتقل في عام 1970 إلى العاصمة دمشق ليدرس الأدب العربي و لكنه لم يستمر أكثر من سنة، و لينتقل من هناك إلى بيروت ليبقى فيها حتى عام 1982 و من بعدها انتقل إلى قبرص و في عام 1999 انتقل إلى السويد
أعماله
- كل داخل سيهتف لأجلي، و كل خارج أيضاً (شعر) - هكذا أبعثر موسيسانا (شعر) - للغبار، لشمدين، لأدوار الفريسة و أدوار الممالك ( شعر ) -الجمهرات (شعر) - الجندب الحديدي (سيرة الطفولة) (سيرة) - الكراكي (شعر) - هاته عالياً، هات النّفير على آخره (سيرة الصبا) (سيرة) - فقهاء الظلام (رواية) - بالشّباك ذاتها، بالثعالب التي تقود الريح (شعر) - كنيسة المحارب(يوميات) - أرواح هندسية (رواية) - الريش (رواية) - البازيار (شعر) - الديوان (مجموعات شعرية في مجلد واحد) (شعر) - معسكرات الأبد (رواية) - طيش الياقوت (شعر) - الفلكيون في ثلثاء الموت: عبور البشروش (رواية) - الفلكيون في ثلثاء الموت: الكون (رواية) - الفلكيون في ثلثاء الموت: كبد ميلاؤس (رواية) - المجابهات، المواثيق الأجران ، التصاريف ، و غيرها (شعر) - أنقاض الأزل الثاني (رواية) - الأقراباذين (مقالات في علوم النّظر) - المثاقيل (شعر) - الأختام و السديم (رواية) - دلشاد (فراسخ الخلود المهجورة) (رواية) - كهوف هايدراهوداهوس (رواية) - المعجم (شعر) - ثادريميس (رواية) - موتى مبتدئون (رواية) - السلالم الرملية (رواية) - الأعمال الشعرية (مجموعات)
حوار مع سليم بركات شارك في وضع الاسئلة: محمد أبي سمرا وبلال خبيز وعقل العويط والياس خوري. في ما يأتي نص هذا الحوار:
سليم بركات لا نعرف الكثير عنك، سوى أنك شاعر كردي من الشمال السوري، ترك أرضه الأولى ليهيم في الارض القريبة والبعيدة. نطلب منك أن تروي لنا سيرتك الشخصية. من أنت؟ متى ولدت؟ وأين؟ من هي عائلتك، ومن هم أقرباؤك وأترابك وأصدقاؤك... وهكذا وصولاً إلى الآن؟ - أتسألني أن أروي ستاً وخمسين سنة من عمري، أي من يوم مولدي في 1/9/1951 حتى إقامتي في مطبخ بيتي بسكوغوس. ست وخمسون سنة سرداً يتقطّع الى درجة العبث في تدبير تجانسٍ للمعاني فيه، فكيف أتدبّر تجانساً للزمن فيه؟ لا أعرف الكثير عني، بدوري. حين ينقطع امرؤ ما في عشرينه، عن متابعة جسدية لما يرويه المكان، تصير المخلوقات الآدمية الناطقة، واللاناطقة، والعجماء، اختلاقات على قدْر من الهذيان. كتبت سيرتيَّ: "الجندب الحديدي" و"هاته عالياً، هات النفير على آخره" كي أعيد "نظم" الهذيان في ايقاع من ضرورات المنطق سياقاً. كتبتهما تمريناً على "تطويق" القطيعة الجسدية مع المكان. للخيال، وللحنين، شؤون أخرى في ترتيب نظام صامت للوجود الناطق بلسان الأمكنة في انشقاقاتها، وقتاً بعد آخر، عن كونها أمكنة. كتبت سيرتيَّ مبكراً كما لم يسبقني – بقدر درايتي – من هم في عشرينهم بعد. مذ أحسست ضراوة دخولي شاباً حيياً الى بيروت – الكون أدركت أنني صرت تائهاً عن سيرورتي الوجدانية مكاناً "متجانساً" في جسد متجانس. أرّخت لنفسي سيرورة "متجانسة" في المكان نصّاً.
لا أعرف من أنا خارج "الجندب الحديدي" و"هاته عالياً، هات النفير على آخره"، بالقدْر الغامض، الذي أتعرّف إليَّ في "كهوف هايدرا هوداهوس" – الفانتازيا المطلقة السراح من إرث الإنسان كله، في ما بعد الغيبوبة الإنسانية، في ما لا يكون الإنسان فيه إلا أثراً ملتبساً من تأويل ملتبس: كائنات تتأمل صورتي أنا – أورسين منحوتة في لوح حجري. إنه بقاء الأرواح صوراً في رحابة تأويلها أرواحاً "مفترضة" في واقع كان، برمّته، تأويلاً عشواءً للصور.
جئت الى بيروت ابن حادية وعشرين بحمّى بحثي عن شعر لا تعرفه إلا بيروت. هربت من عائلة أحد عشر رهطاً تلمستُ في كوى بيتها كتباً محكمة الأغلفة الجلد، بنقوش الضلال المحيي، على براثن السماء. أبٌ ملا كرديّ، عنيد، ضئيل الحجم، مرّغته الحياة صعوداً هبوطاً في ترفها وبؤسها، مبذّراً كريماً، لا يحفظ قرشاً من قروش قلبه لسواد المكان خارج أضلاعه. يأتي الحمالون بأنصاف خرفان، من السوق، فلا نعرف أين نحفظها، فنهديها الى الجيران. حقول قمح، وشعير، مديدة، أعانته على يساره، ثم خذله المطر احتباساً فباعها رخيصة. أمي لاتقرأ. تحفظ صلواتها بالعربية منطوقة على قياس الكرشوني، بكتابة غير العربي بحروف العرب. عائلة كردية كرشونية: أخوان اختفيا في سجون جيرانكم منذ 1979 (سجون ناطقة بصمودها الممتنع نكايةً بسجون اسرائيل). اخت متزوجة من لبناني في البقاع. أخت في مصر (غادرتُها وهي في العاشرة، ولم أرها حتى اليوم، أي جاوزتْ أربعينها). أخت في أسوج (السويد). أخوان آخران في دمشق، أخت في القامشلي. عائلة كرشونية تركتها في القامشلي الى دمشق بحثاً عن شعر لم أجده إلا لوعة من تقويض الشرطي الخالد للعروض. هربت الى بيروت بأمانة قلبي أضعها بين يدي الشعريّ. خُلقتُ في بيروت من إيمانها بي شاعراً، صديقاً، ابناً لما لن تقوّضه خسارة قط.
لا أرى أحداً. أصدقائي قليلون أقل من ثلاثة أصوات أسمعها في الهاتف، من حين الى آخر. لا بريد يأتي. أنا وقلباي – سِنْدي ورانْ، والأضلاع البيت: هذه هي سيرتي: ألم التبعة الأولى لجغرافيا منهَكة نجاهد، بخيال حجر الفلاسفة، أن نذهِّب نصلها القاتل. * ماذا تغير في سليم بركات، من الشمال الكردي الوحشي الى القطب الشمالي المتمدن؟ - الصيد. تغيَّر الصيد.
أنا شيخ كحالي مذ كنت طفلاً. لم أزل عاطفياً كحالي، رطبَ العينين أبداً، جريحاً في عذابات الآخر حتى في كتاب، أو شريط سينما، عنيفاً إن استثارني مستثير، غاضباً إن غُضبت، خجولاً، تائهاً في خيالي على أبواب كل شيء، مقلِّداً حتى الموتى، وراء هاديس، في حركات الأيدي وهم يرتلون أشعار هوى كتبوها للأحياء.
منذ فتحت بصر قلبي على شؤون ستظل، من نعومته حتى نعومته، أدراجاً لصعود الحنين بأحمال الصور كلها، عرفتُ البندقية في يد أبي، عرفتُ الإقامة والطير في مطاردة متخمة بنجوى ندائي أن يكون الطير لي. لم أترك شبراً من تخوم القامشلي ليس لي فيه لهفة الحذر المترقبة، كطعم السفرجل تحت اللسان، وأنا أسدّد البندقية، جاثياً، إلى فاختة، أو يمامة، أو دوريّ. غير أنني، باعتراف لا معنى له، أجزم أن القنص لم يكن على ما يرام: أعود بصيد، نعم، بعد الكثير من الطلقات. وبّخني أبي مراراً: "أنت تتسرع في الرماية"، بيد أن أبي كان متسرعاً مثلي.
في بيروت، انصرفتُ بتمام لهفتي، إلى الشعر. بعد أحدى عشرة سنة استعاد الصياد السارح صواب الحيَل في حديقة بيته بأرض نيقوسيا: اشترى بندقية بضغط الهواء، وفخاخاً.
تحت شجرة التين الكبيرة، وسور شجر الزيتون، وشجرات الليمون الثلاث، توالت الطرائد دائخةً، قنصاً بالبندقات الرصاص الصغيرة، أو جنوحاً الى الخبز، وحبوب القمح المكبّلة بخيطان مموهة. كل يوم أحد، في الحادية عشرة صباحاً، كنت أعدّ لنفسي ولجاري (الذي تولت زوجه رعاية ابني الصغير في فترات الصباح)، أو لجاري الآخر، الشرطي (الشيوعي المتّقد حماسة، الماهر حتى الكفر في التصويب حين كنا نتبارى في الاطلاق على قطعة النقد)، صحناً من اثني عشر عصفوراً ممرّغاً في دبس الرمان.
تغيّر هذا. طيور مسترسلة في زيارة حديقة بيتي، بأرض سكوغوس – الغابة الجبلية من ضواحي ستوكهولم، بلا عدد. شحارير، وسمانى، ودوريّ، وقرقف، وشقراق، وكسار جوز، وزياب، وفصائل مما لا يأكلها الا هائم جائع. أدلّلها بطعام من أطايب البزور تعهدته الرعاية الصحية بعناية المواد الحافظة.
جمهورية من رغبات القنص حلّت دستورها – دستورَ التعادل اللامحتمل بين سماء الطير وبرّ الانسان والطير. نهاية المقاصد المنتخبة في سنن القتل الأولى. "تسوية" غامضة للنوازع: ها أنا أراقب الطير بعيني انشقاقي على شخص كنتُه (هذا ما تغيّر).
أشرب بغزارة وأكتب جلوساً على الأرض.
أنا رجل الخسارات الشمالية
* عشتَ طفولتك وشبابك الأول في هذا الشمال الكردي، المشار اليه، وعشتَ المراحل اللاحقة متنقلاً بين لبنان، وقبرص، وأسوج وسواها. لكنك ظللت مصراً على استلال الفضاء الروحي للغتك الشعرية والروائية من ذلك الشمال الواقعي والفانتازي. وقد ظل فضاؤك اللغوي، رغم التيه والانتقال، وفياً للفضاء الشمالي الكردي، وملتصقاً به على نحو عضوي، ومادي...
- ماذا تعني بـ"الشمال الكردي المشار اليه"؟ لم أقدّم الشمال (لم يقدّم أحد) تعريفاً يحيله "اقتباساً"، أو "حاشية" في مصدر يشار اليهما. كتبتُ، طويلاً، لفظة "الشمال" على نحو اختزله القياس الكوني، برمته، الى "شمال سوريا" – شمال الكرد هناك. وقد وضعني قَدَر اللغة، الطليق اليد في تحصيل المكوس من كل قَدَر آخر، على "حافتين" لغويتين حيّرتا حدس الجغرافيا فيَّ: أقمت في بيت، شمال العاصمة القبرصية، مواجه لعراء يتصل شمالاً بجبل "الأصابع الخمس" في القاطع القبرصي – التركي. هجرت بيتي – بيت شجر الميوبوروس (الفائض عن مئة)، والفيغنونيا، والبوغانفيلي، ممزّقاً، الى شمال معلّق بآخر كُلاّب في حزام الشمال الكوكبي من ارض أسوج.
أنا رجل الشمال بلا منازع. رجل الخسارات الشمالية. رجلٌ جهةٌ شمالٌ. لا أعرف قبلي شخصاً هو الشمال موصوفا آدمياً، كرديّ اليقين بضراوة الشك الفقيه، وحوزة أبوّته العارفة.
لم أزح الشمال الأول، قط، عن أي شمال آخر، في كتابتي. لكنني وزعت حظوة "الشمال" لغةً، بإنصاف، على الأمكنة كلها: كتبت عن قبرص طويلاً في "الريش"، و"عبور البشروش" و"الكون"، و"كبد ميلاؤس"، و"المنعطفات..." (الشعرية) في "بالشباك ذاتها، بالثعالب التي تقود الريح"، بلا قسر على "ابتكار" مكان في ظل مكان آخر. حفظتُ قبرص "حقيقة" بجسارة ابتكاري إياها، ثانيةً، في حديقة بيتي نصّاً يمتد من شجر البوغانفيلي الى ورق الكتاب. عن أسوج ثمة القليل: "موتى مبتدئون" – رواية لا تُحسب فيها الأرض إلا بأسماء مواضع. و"السلالم الرملية" استحضار أنفاق قطارات من تشييدي، بلا ادعاء، مطابقة لأصول ضائعة تتوالى البلديات في البحث عنها. لكن الروايتين قسمتان من حقائق ظهورهما خيالاً، في نِسَب مقدَّرة بالتراب، والصخر، والشجر، والأسماء ايضاً، من شارع بيتي الجبلي الى خليج بحيرة مورتفيك.
* تقول قصيدتك الطبيعي، والوحشي، والذاتي، والقبيلي، والغزير والكثير والكثيف والغريب والبدائي والأسطوري، جداً. وتقول الكرد، والمسار الكردي والأقدار والمصائر، حتى لكأن ما تكتبه يوحي أن هذا السيل الشعري الجارف لن يتوقف، وأن الصور لن تكفّ عن المجيء. حدّثنا عن هذا السيل اللغوي، المتمكن، المسبوك، والمتين، عن خصائصه وأسمائه، وصفاته. كيف يأتيك؟ ماذا تأخذ منه، وماذا تترك؟ هل تكتب دفعةً واحدة، أو لا. وماذا عن هذا الذي ينكتب وعن الذي لم ينكتب حتى بعد الانتهاء من الكتابة؟ - حين تقذف بنفسك في الماء، سابحاً، تقذف بجوارح جسدك كلها. كل مرة أذهب الى الشعر أذهب بجسدي كله. لا أثق باقتداري على مواجهة قارئ حصيف، لا تنطلي عليه مساومات في التدبير. أذهب اليه عادلاً في استعراض جسارتي، متحسباً من تعريضه إياي لخذلان نصّي إياي.
بي خوف، أبداً، من قارئ لن يحكم لي إلا بما قدرت عليه. لا أفترض فيه تساهلاً، أو رحابة صدر. قارئي غاضب (هكذا اتخيله)، متطلب، رقيب "جمالي"، حاذق، مدرّب بقياس علوم الأدب وآدابها فيه على "التشهير" خلسة، أو الفضيحة صخباً.
ربما أبالغ. عليَّ ان ابالغ، ان أتحوّط للمجابهات في السطور، بين عريكتين أريد لهما حظاً واحداً، على قدر تساويهما في "الجمالي السبيك"، يؤالف انتصارهما على جبهة "المحكم المحيِّر".
أأعمل على هذه السوية من وضع رقابة على نفسي؟ ككل رقابة أخرى، في تحويل النزوع الجمعي بأخلاق القياس الى غلبة جمعية، أحيل "رقابة" الجمالي الى قَدَر، نزاعي فيه نزاع "السيادة" على "المعرفة الكلية" بآلة النقصان "العادل". أدفع بكل شيء، صوراً وبلاغات، الى "التفاقم" كاختبار "نقدي" يرتدّ من النص على مدافعة القارئ عن ذاته نصاً. سأجعل ذاكرته "لوثة". سأُخرج اللغة عن طورها إن قدرتُ. سأُخرج الألفاظ علائقَ عن أطوارها. ربما أناقض نفسي في الاستتباب على "مجاهدة" بعينها في أن لا تُخذَل اللغة، أن لا تهان الكلمات، أن لا يتنكر "القول" لمستطاعه في الذهاب الى حافة الذهبي السحيق غوراً، سفكاً للمعاني كي تتقبلها هبةً آلهةُ المعاني الدموية، لكنني أرجع الى فورتي في تدبير النهب على وسعه.
مذ سلّمت مقاليد يقيني الى الكلمات أخذتها معي الى يقينها: لا نجاة لها إلا حملاً على وجوه التبديل تراكيبَ عن تراكيب، ولا نجاة لي إلا بها: المسألة مسألة بقاء. لا مساومة تُنجي إن لم أُحِل كل سياق الى معضلة، تداركاً لنزف الحياة من رواهشها المقطوعة بشفرة العادي.
لغتي هي الحياة الآن، مذ أغلقت الحياة مصاريعها على رحابة تلمّسها جيلي في صوغ عادل للحياة، فانهار عليها بأحمال خيبته، وانهارت مطحونة عليه.
نعم. أقول كل شيء دفعةً واحدة. في كل قصيدة هنالك الذهول المعجم، الذي ينبغي تقليبه سطراً سطراً تحت بصر اللانهائي. لكن "كل شيء" هو قليلُ "كل شيء" آخر. البياض، الذي لم أزل راعياً بقطيع المدائح فيه لأزلِ كوني بياضاً، هو اختلاس للكنز الفاحش متناثراً في معارك اللاموصوف. اختلس البياض بخطوات على الورق تنطبع أثراً يقتفيها المحقِّقُ البياضُ في نكبات الحبر. أكتب على مهل في بياض الورقة اللانهائي. أحفر نقش البياض نافراً في لوح البياض الخالد. كيف أستطيع أن أتوقف، حتى لو انتهى نص الى غاية ما يدّعيه من أمومة البياض، الذي يليه؟
فلأعترف: ثمة الكثير، الكثير الهائل، من ورق أبيض. ينتظرني، اذاً، عمل كثير.
لن يقدر الموت نفسه على ايقافي: أنا من يَهَب الموت ولاية جسده بياضاً بعد السطر الثامن.
كالحرية في الحيوان
* عالم بدائي، بدئي، قَبْلي، قَبَلي، وحشي، حيواني، طبيعي، مغلّف بالأساطير، والملاحم والتراجيديات، والأقدار والمصائر والتعاويذ والطلاسم. أهو فقط عالمك الكردي في الشمال السوري، ام أيضاً تخييلاتك وتهويماتك عنه؟ الى أيّ حد هو واقعي او ملفَّق؟ ثم ألا تعتقد أن استمرار الإلحاح عليه يجعل تجربتك الشعرية تدور في الفلك نفسه؟ - لن أحرز إن كان نصف هذا السؤال موكلا باختصاص النظر الى الرواية عندي، فيما نصفه الآخر الى الشعر. لا بأس. لهما، في شفاعة "المعقول" ترفاً، لسان واحد: تصويب "الواقع" بتصحيح "خطئه المطبعي"، - الواقع الملفَّق بضغطه أمثولاتٍ في السرد الإخباري، مجتزأً من سياقه "الواجب" التعدد، سياق الخلافة على مراتب الممكنات. ما لا أفكر فيه، في "الواقع"، هو ما ينبغي أن تكون عليه "اللغة المفقودة". والمفقود هنا، تحديداً، هو الواقعي الأكثر دربة على حساب خواصه بأرقام الخيال فيه: وأنا، بزعم الخصيصة فيَّ كمفقود، نشيد سيريناته.
كل لوعة تمامٌ في النزوع الى البدئي. تتقشر رسوم الرفاهة المروَّضة عن المشهد الأول: العالم بلا قانون، كالألم. الشعر لوعة. الرواية لوعة المكتوب في نجوى يأسه مما لا يُشاكل الكتابة أملاً. ينبغي للخواص جملةً ان تتساوق في ظهوراتها كألم. لا كتابة عن غير ألم. لا أعمم الألمَ سحراً، وجاذبية جسدية من شقاء الشرق المحكم مَذْهباً. أعني الألم موقفاً من حيف لحق بخصائصنا مذ اجتُزِئت من كلية اللون – الأم.
حنين اللون هو الأصل، حنين العبور الى بستان الطبائع الكلية في الكلمات – الكون: هُمرُجان غامرٌ، لا تهويمات فيه، بل نطق عن خلافة اللغة على الكون براعاتٍ من كل خطاب واقعُهُ - فيه – خيالُ ذاته.
ما همَّ أن تدور "تجربتي" (محنتي) الشعرية في الفلك نفسه – فلك اللانهائي. لقد اقسمت، منذ بداية إيماني بالشعر ضلالاً يعوِّض كل هداية، ان أضع يده في يد اللانهائي، وحشياً لا يروِّضه قياسٌ إلا الأكثر وحشية، كالحرية في الحيوان.
* في غمرة هذا السيل، يجد القارىء نفسه أمام قصيدة تعلن الإنتماء الى عوالم ما قبل العمران الحديث، والى ناسه، وملوكه، وأرضه، وطبيعته، وحيوانه. لماذا يظهر شغلك على القصيدة كأنه طالع من عوالم مضادة لعوالم المدن والاجتماع والعمران الحديث، وكأن لا وجود للشعر عندك إلا بهذه العوالم؟
- هي الطبائع، مرتّبة بتناسق الفوضى في بزوغ جسد أحدنا على علومه، من هذه الجهة أو تلك. أعضائي، برمتها، بزور في أرخبيلات المفقود: يفتنني الوحشي، الوجود غمراً، الظلام كتاريخ للمُحكَم. لكنني لست هذا، حسب: في "الكراكي" مدينة بيروت بتمامها. في "المنعطفات..." شوارع نيقوسيا، وخلائقها، وإسمنتها. في "الحديد" طائرات، وقاذفات صواريخ، من أرض خلدة الى أبي شاكر، الى الاوزاعي، في حرب الخروج (حرب 1982). ربما يميل النسب بشعري الى أمٍّ من العراء الهيولى، الى السحر موكلاً بنمور الجذر الغامض لأعضائنا الشجرية، الى طبائع تُرمى بيد العريق السكران، كفستق، فنتلقَّفها مشيئاتٍ.
لطالما تهيأ لي أن الوقوف في "الشعري" وقوف على جُرف الخليقة الأولى: "بلاغة الهيبة" تقدم التبجيل الى "الأنساق" الهائلة في صمتها الكوكبي. توازن الكثافات محسوب بالظلال. خلائق الخفيّ المدهشة تتبادل، في مدوّنات المرئي، نقوشَ "المتوازن" كدراهم السحر في أسواق الفلك: إنها نظرة البكورية، من سديم المعاني، على ما سترثه البكورية عن ألق الغامض الجليل.
لا شعر بلا حظوة لدى هذه العوالم، المتوازنة في "هيبة البلاغة" من اللانهائي.
* النهب، الفتك، الصليل، الطيش، الطرائد، البطش، الهتك، الانقضاض، التدمير، الهباء... وسواها مما يتصل بالغرائز الوحشية الأولى، المتدفقة باحتفال هاذٍ في كتاباتك كلها، كأنما لديك رؤية حربية بدائية، وحشية، وهمجية للعالم، لا تتحول ولا تتبدل...
- قطعاً، تسحب "الجمهرات"، هنا، على كل نص آخر، بتعميم "فاتكٍ". لذا عليَّ حصر جوابي بـ"الجمهرات: في شؤون الدم المهرِّج، والاعمدة، وهبوب الصلصال".
انظر من حولك، بحق رفاهية الفردوس عليك: ألا ترى "الجمهرات" مقدمة لكل حرب، أسوة بمقدمة كانط "لكل ميتافيزيقيا مقبلة"؟. كتاب شعر هو نص كل راهن في الميثاق الدموي بين الإنسان والله لتوطيد سلطتيهما المتداخلتين. الألفاظ، التي اخترتموها توصيفاً "تعميميا" من "الجمهرات" على كتبي الأخرى، هي أمومة الجغرافيا من حولنا. ما من "نبوئية" ألهمت "الجمهرات" خيال "النهب والهتك" الطاحن – خيال الغيبي بتمامه نسبةً من تصنيف الوجود حفاوة بالمختارين، الموكلين بـ"إقامة الحد" على الوجود "اللامختار".
القتل، كبلاغة إلهية، تأسيس لخلود المعنى، في مظاهره الطاهرة: الغزو "تطهيراً" للملْكية من دنس اللامختار، النهب تطهيراً للمتاع من ملكية اللامختار، البطش تطهيراً لبدعة اللامختار، الهتك تطهيراً لما اجتهد الشيطاني في تحصينه لا ممسوساً: "فتوح" على عواهن الخير دما بعد دم.
كتاب "الجمهرات" "ثقتي" بعدل الدموي (مرغماً) في اقتسام الحياة بين "الشعري" و"الواقعي"، فاحفظوها لي.
* هذه "الجنة الوحشية"، التي تصر على رسم مشاهدها في كتابك، هل هي "فردوسك الكردي المفقود"؟
- من يقايض "فردوس الجحيم المفقود" "بجنة الوحشي المفقودة"؟ "جواد" – يصرخ ريتشارد الثالث: "من يقايض مملكتي بجواد؟". أريد كلمات أكثر، لا لتوصيف فردوس مفقود، بل لتوصيف وجود مفقود.
هذا الموقع يستخدم ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز ) للمساعدة في تخصيص المحتوى وتخصيص تجربتك والحفاظ على تسجيل دخولك إذا قمت بالتسجيل.
من خلال الاستمرار في استخدام هذا الموقع، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط.