الملك الخالد كي خسرو , كي خسرو مخططاً, كي خسرو محرراً, عبقرية كي خسرو

  • بادئ الموضوع بادئ الموضوع كول نار
  • تاريخ البدء تاريخ البدء

كول نار

Kurd Day Team
الذهنية الإمبراطورية والعنف صديقان حميمان.
وحيثما وجدتَ إمبراطورية فابحث عن العنف تحت عباءتها.
وما من إمبراطورية قامت إلا مارست قدراً كبيراً من العنف، وكان ذلك العنف يتناسب طرداً مع الثقافة السادية التي تربّى عليها الحكّام الإمبراطوريون من جانب، ومع مقدار الرفض الذي كانت تعبّر عنه الشعوب المقهورة على شكل تمرّدات وثورات من جانب آخر.
واقتران العنف بالذهنية الإمبراطورية أمر طبيعي جداً؛ لأن الشعب الذي يعتنق عقيدة غزواتية توسّعية، ويسعى لتأسيس إمبراطورية على أسس دينية أو قومية، سيجد نفسه مضطراً إلى الاعتداء على الشعوب الأخرى سواء أكانت مجاورة له أم بعيدة عنه، ومن الطبيعي أن تلجأ الشعوب المعتدى عليها إلى مقاومة الجهة الإمبراطورية، وتدافع عن أوطانها وهوياتها، ومن الطبيعي أيضاً أن تلجأ الجهة الإمبراطورية، وقد تشبّعت بأقصى ما يمكن من مبادئ العنف ونيّات التدمير، إلى وضع مبادئ الرحمة جانباً، والبطش بتلك الشعوب، وإخضاعها بالحديد والنار.
ومنذ خمسة آلاف كانت شعوب غربي آسيا ضحية العنف الإمبراطوري، وكانت تلك الإمبراطوريات بهوية شرقية تارة، وبهوية أوربية تارة أخرى، فكان العنف شرقياً أصيلاً حيناً، وكان غربياً دخيلاً حيناً آخر؛ وفي الحالين كانت رؤوس البشر تبدو بالنسبة إلى الإمبراطوريين على أنها ثمار يانعة حان أوان قطافها، ألم يقل الحجّاج بن يوسف الثَّقَفي ذات مرة: " إني أرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها، وإني لَصاحبها "؟! والغريب أنه كان للإمبراطوريات الشرقية قصب السبق في ميدان صناعة العنف المبرمج الممنهج، والغريب أيضاً أن العنف الإمبراطوري الشرقي المبرمج الممنهج كان يستند على الدوام إلى مرجعية دينية، إنه كانت عنفاً يتمّ باسم الله، وفي سبيل الله، وبطبيعة الحال كان صنّاع كل إمبراطوريات يتصوّرون (الله) - عزّ شأنه- بالصورة العنيفة التي تتناسب مع نزعتهم السادية وجشعهم الإمبراطوري.
ويعلم كل قارئ لتاريخ الشرق أن الإمبراطورية المغولية، بقيادة جنكيزخان وأبنائه في القرن الثالث عشر الميلادي، كانت الإمبراطورية الأكثر شراسة، والأشد عنفاً، والأقسى تدميراً، إزاء الشعوب المقهورة، ليس لأنها كانت تهدف إلى احتلال الأوطان، ونهب ثروات الشعوب فقط، وإنما أيضاً لأنها كانت تتخذ من الإرهاب عقيدة، ومن البطش بالشعوب رسالة إلهية؛ بحسب ما أوحى به الشامان الأكبر إلى جنكيز خان وخلفائه، ولذلك كان القادة المغول، خلال احتلالهم لمدينة ما، يفرضون على كل مقاتل مغولي أن يأتي برأس بشري، أو بعدة رؤوس، ثم يقيمون من تلك الرؤوس أهرامات تكون فيها الوجوه جميعاً إلى الخارج، ولا تسألوا عن متعة المغول قادةً وجنداً وهم يتأملون لوحاتهم (الرائعة!) تلك.
رؤوس تُقطع .. وجلود تُسلخ!
على أن شعوب غربي آسيا ابتُليت قبل الميلاد بحوالي ألف وخمسمئة سنة بإمبراطورية شرقية أخرى، لم يكن قادتها يقلّون شراسة وعنفاً وبطشاً عن قادة الإمبراطورية المغولية؛ أقصد الإمبراطورية الآشورية، وكما هي العادة في الشرق كان الزعيم الإمبراطوري الآشوري يستند إلى مرجعية دينية في ممارسة عنفه الإمبراطوري ،
فكان يقدّم نفسه لشعبه وللعالم على أنه ربيب الله وحبيبه، وأن الله منحه صكاً مقدساً أبدياً مفتوحاً، يباح له، بموجب ذلك الصك، أن يغزو الجهات الأربع، وينهب ويسلب ويسبي ويأسر ويقتل ويدمّر بتكليف من (الله) وفي سبيل (الله).
ومنذ مدة قصيرة وقع بين يدي كتاب للباحث البرت كيرك كريسون، بعنوان (الكتابات الملكية لآشور ناصربال الثاني)، يتضمن ترجمة للكتابات الملكية التي دُوّنت في عهد هذا الملك، ويعدّ آشور ناصربال الثاني (884 – 859 ق.م) واحداً من أقوى ملوك آشور، وكان يسيطر على بلاد الرافدين وكردستان وسوريا الكبرى، وإليكم بعض (إبداعات!) هذا الزعيم الإمبراطوري في مجال العنف.
· من الألقاب الملكية التي خصّ بها نفسه: " أنا آشور ناصربال الأميرُ المطيع الذي يعبد الآلهة العظيمة، أنا التنين الضاري، غازي المدن والجبال كلها، ملكُ الملوك، وفارضُ الحصار على المتعنّت، المتوّجُ بالبهاء، والباسلُ في المعركة، البطلُ الشامخ، عديمُ الرحمة، المثيرُ للصراع، ... " [الكتابات الملكية، ص 22]
· ويفخر آشور ناصربال بالمرجعية الإلهية التي يعتمدها في نزعته الإمبراطورية: " عندما دعاني آشور ربي العظيم باسمي، وجعل سيادتي مطلقة على ملوك الجهات الأربع، وجعل اسمي العظيم هو الأعلى، وضع سلاحه الذي لا يعرف الرحمة في ذراعيّ الملكيتين، وأمرني بحزم بأن أحكم وأخضع وأدير البلاد والمرتفعات الشامخة ". [الكتابات الملكية، ص 24].
· ويقول في وصف إحدى غزواته لجبال كردستان: " وأعملتُ السيف في تقطيع أجزاء 200 من رجالهم المقاتلين، وسقت حشوداً من الأسرى وكأنهم قطعان غنم، وبدمائهم صبغت الجبل أحمر مثل صوف أحمر ". [الكتابات الملكية، ص 25].
· ويقول في غزوة أخرى له: " فأعملتُ السيوف بتقطيع 260 جندياً من مقاتليهم، وقطعت رؤوسهم وجعلت منها كومة، ... وسوّيت مع الأرض مدنهم، ودمّرتها وأحرقتها؛ تلك المدن الواقعة في المرتفعات الشاهقة، ثم نزلتِ القوات الكثيرة التي هربت من أسلحتي إليّ، وركعت عند قدمي، ففرضتُ عليهم الأتاوة وعمل السخرة، وسلخت بوبو بن بابوا حاكم مدينة نيشتون حياً في مدينة أربيل، وعلّقت جلده على السور ". [الكتابات الملكية، ص 25-26].
· وفي غزوة له إلى منطقة نهر الخابور في كردستان يقول: " وبتأييد من آشور والإله أدد الإلهين العظيمين اللذين جعلا سيادتي مطلقة، حشدت عجلاتي وجندي، وانطلقت إلى نهر الخابور، ... وجعلت آزي- إيلي حاكماً يمثّلني عليهم، وجعلت كومة من الرؤوس أمام بوّابته، وسلخت جلود النبلاء الذين تمردوا عليّ، ثم نشرت جلودهم على الكومة، فبعضها في داخل الكومة، وبعضها علّقتها على أعواد مغروسة في الكومة، وبعضها وضعته على أعمدة حول الكومة، وأتيت بالعديد منهم إلى بلادي، فسلخت جلودهم هناك، ونشرتها على الأسوار، ... ". [الكتابات الملكية، ص 27].
 
رد: الملك الخالد كي خسرو , كي خسرو مخططاً, كي خسرو محرراً, عبقرية كي خسرو



وجملة القول أن مفاخر هذا الملك كلها تدور حول البلاد التي غزاها، والشعوب التي قهرها، والثروات التي سلبها، والهدايا التي سيقت إليه قسراً، والمدن التي أحرقها ودمرها، والزعماء الذي سلخ جلودهم، والأسرى الذين ساقهم كقطعان الغنم، فقتلهم أو أحرقهم أو أبقاهم لأعمال السخرة، ولم يكن آشور ناصربال فريداً في نزعة العنف الإمبراطورية هذه، وإنما كان معظم من سبقه ولحقه من ملوك آشور على هذا المنوال، وكانت حملات العنف والبطش تمتد إلى كل بقعة من بقاع غربي آسيا، بدءاً من قلب بلاد فارس شرقاً إلى مصر غرباً.
وثمة شعبان كان من قدرهما أن يتحمّلا النصيب الأكبر من عنف ملوك آشور وساديّتهم، هما الشعب البابلي في سهول بلاد الرافدين، والشعب الميدي (جدود الكرد) في جبال كردستان، ويبدو من سير الحملات الآشورية أنها كانت متوجّهة على الغالب إلى كردستان، إذ ثمة على الدوام حديث عن اجتياز الممرات الصعبة، وتسلّق الجبال الوعرة، والصعود إلى المدن الواقعة في قمم الجبال الشاهقة، وهذا أمر طبيعي، فمن السهل على الجيوش الإمبراطورية أن تسيطر على المدن الواقعة في السهول، لكن الصعوبات تبدأ مع غزو سكان الجبال، ويبدو مما ورد في كتابات ملوك آشور أن القبائل الكردية – سواء أكانت ممثلة في الميديين أم في الكردوخ- كانت أكثر ثورة على السلطات الآشورية، وكانت أكثر قدرة على مقاومتهم؛ وكان عليها من ثَمّ أن تتحمّل القسط الأكبر من انتقامهم وبطشهم.
كي خسرو مخططاً
وقد مرّ في الحلقة الخاصة بـ (دياكو الميدي) أن الميديين كانوا يفجّرون الثورة تلو الثورة ضد ملوك آشور، فقد قاد دياكو الثورة الأولى الكبرى، لكنه أخفق، ثم تابع ابنه فراورتيس مسيرة الكفاح ضد القهر الآشوري طوال (22) عاماً، ثم خلفه على الحكم ابنه كي أخسار Cyaxares أو كَيْ خُسْرو kai-Khosru، -حكم بين (633 – 584 ق.م)، أو بين (625 – 593 ق.م)- ويسمى في بعض المصادر (اكسركيس) و(سياشاريس)، ويعود الاختلاف في اسمه إلى الجهة التي ذكرته، سواء أكانت بابلية، أم آشورية، أم يونانية، أم فارسية، أم أرمنية، أم سريانية، أم عربية؛ وهذا أمر معروف في الأسماء عندما تنتقل من لغة إلى لغة.
ولا أستبعد أن يكون اسم كي خسرو الحقيقي هو (كي خاشْ رُو)؛ أي (الملك السعيد) أو (الملك الخالد)؛ باعتبار أن كلمة (كي) تعني (الملك)، و(خاش) تعني (الطيب، السعيد، الحيّ)، وكثيراً ما يحل كل من حرفي (س، ش) محل الآخر حينما تنتقل الكلمة من لغة إلى لغة، ومثال ذلك تحوّل كلمة (شاهبور) الفارسية إلى (سابور) في اللغة العربية.
وكي خسرو هو أعظم ملوك ميديا، إنه ورث عن أبيه فراورتيس خصالاً قيادية متميزة، فكان قائداً محنّكاً حازماً، ورجل دولة عظيماً، كما أن نذر نفسه لاستكمال المشروع التحرري الميدي الذي بدأ على يدي دياكو، ويكفيه عبقرية أنه وقف في وجه الإمبراطورية الآشورية، وكانت أعتى قوة سياسية وعسكرية في غربي آسيا، فألحق بها الهزيمة، وقذف بها إلى خارج التاريخ دفعة واحدة.
وتميّز كي خسرو برؤية إستراتيجية رحيبة، وبحس وسياسي واقعي، وبخصال قيادية نادرة، كما أنه كان توّاقاً إلى تحرير ميديا وشعوب غربي آسيا من عسف الحكم الآشوري، وكي يحقق هذا الهدف الكبير قام بإنجازات ثلاثة مهمة؛ لولاها لما حقق أي نجاح يُذكر.
· الإنجاز الأول: قيامه بتوحيد القبائل الميدية تحت لواء واحد، ووضعها أمام هدف واحد، يتمثل في الخلاص من التبعية للآشوريين، فأسكن القبائل الرحّالة، ونظّم شؤونهم، وسنّ القـوانين، ونظّم الجيش على أسس حـديثة، مقتبساً بعض أساليب السكيث في القتـال؛ مثل سرعة الحركة والمنـاورة، وأحدث خيّـالة سريعة الحركة، وميّز رماة السـهام عن الفرسـان، كما جعل (إكباتانا) عاصمته الدائمـة.
· الإنجاز الثاني: قيامه بالقضاء على الخطر السكيثي، وصحيح أنه أفلح في تقليم أظافر الغزاة السكيث، ويبدو أن الفريقين كانا قد عقدا معاهدة فيما بينهما، لكنه كان يدرك أن السكيث يمكن أن يهددوا الدولة الميدية عند أول فرصة سانحة، وأنهم لن يترددوا في طعن الميديين في الظهر، وهذا ما فعلوه أكثر من مرة في عهود سابقة.
ففي نحو سنة (634 ق.م) هاجم الميديون آشور، لكنهم فشلوا في إسقاطها حينذاك، وبعد نحو سنتين هاجموها مرة ثانية، فهزموا الجيش الآشوري، ونازلوا العاصمة نينوى، لكن السكيث استغلوا انشغال القائد الميدي بالحرب ضد آشور، فهاجموا ميديا، وشرعوا يقتلون، وينشرون الدمار حيثما حلّوا، فاضطر الميديون إلى فك الحصار عن نينوى، والعودة بسرعة إلى ميديا، لرد الغزو السكيثي.
لذلك قرر كي خسرو ألا يدع للسكيث إمكانية عرقلة خطته ضد خصمه الأكبر (الإمبراطورية الآشورية)، وطعن ميديا من الخلف ثانية، فدعا قادتهم إلى حفل عامر بالأطعمة والأشربة المسكرة، ولما أكل القوم من الطعام ما طاب، وشربوا من الخمر ما لذ، وأصبحوا سكارى، أمر كي خسرو المقاتلين الميد بالانقضاض عليهم، والفتك بهم جميعاً، فبقي السكيث من غير قيادة، وتضعضعت صفوفهم، وأصبح من السهل على الملك الميدي السيطرة عليهم، وكبح جماحهم.

 
رد: الملك الخالد كي خسرو , كي خسرو مخططاً, كي خسرو محرراً, عبقرية كي خسرو

موضوع شيق و مميز كل الشكر لك كول نار على التطرق لهذه الشخصية الخالدة ....
 
رد: الملك الخالد كي خسرو , كي خسرو مخططاً, كي خسرو محرراً, عبقرية كي خسرو

اهلا جان
شكرا لالك على المرور
 
هور يانعه في بساتين المنتدى نجني ثمارها من خلال الطرح الرائع لمواضيع اروع
وجمالية لا يضاهيها سوى هذا النثر البهي
فمع نشيد الطيور
وتباشير فجر كل يوم
وتغريد كل عصفور
وتفتح الزهور
اشكرك من عميق القلب على هذا الطرح الجميل
بانتظار المزيد من الجمال والمواضيع الرائعه
 
عودة
أعلى