محمد فاروق الإمام : بشار الأسد ليس استثناء

كم هي الأنظمة الاستبدادية والفاشية عنيدة ودموية وسفيهة في مواجهة شعوبها وواهنة ومستكينة ومنبطحة في مواجهة أعداء بلدانها.. نظام حزب البعث الشمولي الانقلابي السوري هو واحد من الأنظمة التي تنطبق عليه هذه الحالة، التي باتت هي القاعدة المسلم بها عنده منذ أن تسلقت قدم عسكره جدران السلطة في دمشق في الثامن من آذار عام 1963، وأمسكت بتلابيب الحكم مغنماً بينها تتنازع عليه كما تتنازع الضباع على الفريسة، ليلقى البعض على يد البعض ما لقيت تلك الفريسة من أنياب الضباع، وفي تلك المعمة كان شرفاء الوطن وقادتهم وخيار ضباط جيشه ومفكريه ومثقفيه وعلمائه ضحية للإبعاد والإقصاء والنفي، أو السوق إلى المحاكم الاستثنائية والعسكرية والسجون والمعتقبلات، لينفرد في الساحة طغمة جاهلة حمقاء جبانة تتنازع الأمر وهي ليست أهلاً له، إلى أن جرّت هذه الطغمة البلاد إلى كارثة حزيران وهزيمتها الماحقة التي أفقدت الوطن جزءاً عزيزاً منه هو هضبة الجولان المنيعة التي لا تزال حتى اليوم وبعد أربعين سنة تقريباً ترزح في أسر العدو الصهيوني، وفي تلك الفترة كان النظام الباغي – تحت مقولة: لا شيء يعلو على صوت المعركة – يستبيح الإنسان السوري والمجتمع السوري ويقمعه وينهبه ويفسده ويذبحه من الوريد إلى الوريد، وينصب له المجازر في طول البلاد وعرضها (مجزرة تدمر، مجزرة حلب، مجزرة بانياس، مجزرة جسر الشغور، مجزرة سرمدا، مجزرة اللاذقية، مجزرة حماة الأولى والثانية) راح فيها ما يزيد على أربعين ألف قتيل وسوت بالأرض العديد من أحياء مدينة (حماة أبي الفداء) بما فيها من دور عبادة ومعالم أثرية تحكي حضارة سورية وتاريخها العريق، وقد استخدمت تلك الطغمة الباغية أفظع ما تملك من أسلحة الدمار التي جبنت في استعمالها لمواجهة العدو الصهيوني في حربين خاسرتين تخلت في الأولى – كما قلنا عن الجولان – وفي الثانية عن 34 قرية أخرى حتى وصلت مدفعية العدو الصهيوني إلى مشارف دمشق عام 1973، بما يطلق عليها هذا النظام (حرب تشرين التحريرية)، ناهيك عن مئات السجون والمعتقلات وأقبية التحقيق التي ساقت إليها الآلاف من رموز الوطن ونخبه، ويطبق على هذه السجون والمعتقلات وأقبية التحقيق المثل الذي يقول: (الداخل إليها مفقود والخارج منها مولود).
وتوهم الناس بعد موت الرئيس حافظ الأسد ووراثة ابنه بشار للحكم أن الحال سيتبدل وأن دمشق لابد أن تورق أزاهيرها من جديد وتفوح رائحة المسك بعد ذبول وأفول طويل، خاصة وأن الحاكم الجديد شاب لم تتلوث يداه بالدماء وعاش لفترة في لندن عاصمة أعرق ديمقراطية في التاريخ الحديث، وجاءت الحقائق لتصيب الجميع بخيبة الأمل من هذا الرجل الذي تبين أنه فاق أبيه من حيث طلاوة اللسان وحلاوة البيان والمكر والخداع والتضليل والتسويف حتى تمكن من تسويق نفسه في الشارع العربي على أنه القائد الوحيد الذي يقود معسكر الصمود والتصدي والممانعة والتحدي، مدعوماً بإعلام خشبي وأقلام رخيصة من الدهماء هنا وهناك تشيد به وبمواقفه القومية.
قد يظن البعض أنني أستعرض تاريخ هذه الطغمة الحاكمة في دمشق وقد عرفه عقلاء الأمة ونخبها ومثقفيها وسياسييها والمهتمين بالشأن السوري والمراقبين والمتتبعين لأحداثه، وأنا هنا فقط اتيت على صفحة سوداء من تاريخ هذا النظام لأذكر كم كان الشعب السوري صابراً على البلاء والضيم كل هذه السنين العجاف، لم يتعظ خلالها النظام ليراجع نفسه وينقد ذاته ويغير من طبيعته ويعيد حساباته، وبالعكس من ذلك فقد ترك اجهزته الأمنية المتعددة الأسماء والمتلونة الأشكال لتتغول في المجتمع وتلاحق وتعتقل وتسجن وتنفي وتقمع الإنسان السوري في كل مناحي الحياة منذ ولادته وحتى الرمق الأخير من حياته، واتباع سياسة التمييز بين المواطنين في الدين والمذهب والاعتقاد، فتحرم وتقزم وتقصي وتبعد وتسفه وتتهم بالعمالة كل من يتجرأ بقول (يعجبني أو لا يعجبني، صح أو خطأ، نعم أو لا) فهذه كلها مترادفات حزفت من قاموس السوريين منذ ما يقرب من نصف قرن، بعد أن أصبح حزب البعث الانقلابي الشمولي هو (القائد والموجه للمجتمع والدولة) بنص القانون.
اليوم يطل علينا الرئيس بشار الأسد الذي ورث والده حافظ الأسد، بعد أن عبث رعاع أبيه في (مجلس الشعب المعين) بالدستور ولوا عنقه خلال ثمانية دقائق، ليحولوا سن الرئيس من أربعين سنة إلى أربعة وثلاثين سنة ليتسنى للسيد الوريث تبوأ منصب الرئاسة بحكم الدستور.
أقول أطل علينا السيد الرئيس بشار الأسد – وقد أفزعه ما جرى في تونس وما يجري في مصر-
في مقابلته الأخيرة مع جريدة (وول ستريت جورنال) ليقول: أن (لديه وقتاً أكثر من الرئيس حسني مبارك كي يجري إصلاحات بما أن معارضته لإسرائيل وأمريكا جعلت موقعه أفضل في بلاده)، وأن سقف إصلاحاته – كما جاء في المقابلة – (إجراء انتخابات بلدية ومنح المنظمات غير الحكومية المزيد من السلطات وسنّ قانون جديد للإعلام).
وراح بشار في مقابلته ينظر ويحلل وينصح القادة العرب قائلاً: (إن المظاهرات في مصر وتونس واليمن تطلق حقبة جديدة في الشرق الأوسط ويتعين على الحكام العرب بذل المزيد من الجهود لتلبية طموحات شعوبهم الاقتصادية والسياسية). مضيفاً: (إن لم تر الحاجة إلى التغيير قبل ما حصل في مصر وتونس، فقد أصبح متأخراً أن تقوم بأي تغيير).
ويتغنى بشار في مقابلته باستقرار الوضع في سورية بقوله: (يجب أن تكون قريباً جداً من معتقدات شعبك، هذه القضية الأساسية، وحيث يوجد تباعد، ستجد هذا الفراغ الذي يخلق الاضطرابات). واستبعد بشار( تبني إصلاحات سريعة وجذرية مثل التي ينادي بها المتظاهرون في شوارع القاهرة وتونس، لأن بلاده تحتاج إلى بناء المؤسسات وتحسين التعليم قبل انفتاح النظام السياسي في سورية، محذراً من أن المطالب بالإصلاحات السياسية السريعة قد يكون لها ردة فعل سلبية في حال لم تكن المجتمعات العربية جاهزة لها). وقال (ستكون حقبة جديدة باتجاه المزيد من الفوضى أو المزيد من المؤسساتية؟ هذا هو السؤال).
بشار لم يختلف يوماً عن أبيه وعن كل طغاة العرب، بل إنه قد يذهب أبعد إلى ما ذهب إليه طاغية مصر حسني مبارك، الذي يأبى الاستماع إلى صوت العقل وينزل عند مطالب الملايين المحتشدين في ميادين القاهرة وكل المدن المصرية التي تطالبه بالرحيل، وهو يتشبث ببقايا ولايته غير الشرعية في حكم مصر، مقامراً بمصر وأبنائها وتاريخها، غير مبالياً بسقوط المئات من القتلى والآلاف من الجرحى، وانتشار الحرائق في كل مدن مصر من شمالها حتى جنوبها، متمسكاً بتلابيب السلطة التي جعل منها مغرماً ومرتعاً لأبنائه وحاشيته والمحيطين به، ولا يريد أن يتخلى عن السلطة حتى النزع الأخير من حياته إن بقيت له حياة.
بشار الأسد سوف يتعرض لاختبار قريب، حيث قرر العديد من الشباب السوري الاعتصام يوم الخامس من شباط أمام مجلس الشعب تعبيراً عن تأييدهم لما حصل في تونس ويحصل في مصر، مطالبين بمزيد من الحرية والديمقراطية والتعددية والتداول السلمي للسلطة وإلغاء القوانين الجائرة والظالمة، وإطلاق سراح سجناء الرأي، والكشف عن مصير آلاف المعتقلين منذ العام 1980، وفتح أبواب الوطن لعودة المنفيين منتصبي القامة بعيداً عن البوابة الامنية، ووقف تغول أجهزة الأمن وقمعها للمواطن السوري، ووقف هيمنة السلطة التنفيذية على السلطتين التشريعية والقضائية، وإصدار قانون لتشكيل الأحزاب، وقانون لحرية الإعلام (صحافة، وتلفزة، وإذاعة، وإنترنت).. وفي هذا الاختبار سيجد الشعب السوري والشعب العربي حقيقة ما يدعيه بشار الأسد – كما جاء في مقابلته مع صحيفة وول ستريت – من أن (المظاهرات في مصر وتونس واليمن تطلق حقبة جديدة في الشرق الأوسط ويتعين على الحكام العرب بذل المزيد من الجهود لتلبية طموحات شعوبهم الاقتصادية والسياسية)، وأنه سوف يتعظ مما حدث ويحدث في الساحات العربية من حراك شعبي، ويتخذ الإجراءات السريعة في تلبية طموحات الشعب السوري الاقتصادية والسياسية؟!
أخيراً نذكر بشار الأسد بحكمة الشيخ علي الطنطاوي: (يا سادة إن السيل إذا انطلق دمر البلاد، وأهلك العباد، ولكن إن أقمنا في وجهه سداً، وجعلنا لهذا السد أبواباً نفتحها ونغلقها، صار ماء السيل خيراً ونفع وأفاد).
 
رد: محمد فاروق الإمام : بشار الأسد ليس استثناء

شكرآ لالك أخي على الطرح .....
 
هور يانعه في بساتين المنتدى نجني ثمارها من خلال الطرح الرائع لمواضيع اروع
وجمالية لا يضاهيها سوى هذا النثر البهي
فمع نشيد الطيور
وتباشير فجر كل يوم
وتغريد كل عصفور
وتفتح الزهور
اشكرك من عميق القلب على هذا الطرح الجميل
بانتظار المزيد من الجمال والمواضيع الرائعه
 
عودة
أعلى