حللت ذات يوم ضيفا على خل عزيز لم أره منذ عقد ونيف في مدينة كوباني وفي بيته الواقع في الضاحية الجنوبية قرب رابية تدعى مشتى النور , موطن الأحلام وملتقى العشاق في نيروز , احتفى بي صديقي وقام بواجب الضيافة في يوم صيفي حار وحرص على أن يقدم لي ما طاب من الشراب والطعام والفاكهة , فأهل كوباني معروفون بالكرم وحسن الضيافة وناسها يمتازون بالنشاط في العمل و إتقان في المهنة ويتسمون بالشجاعة والإقدام , إلا أن الصورة ليست وردية إلى حد بعيد في هذه المدينة لان أهلها مشهورون بعصبيتهم وغيرتهم المفرطة واحتكامهم إلى العاطفة بدل العق ل وإقدامهم على حل مشاكلهم بطريقة تعتمد على العرف والعادة لا على القانون والمنطق.
بعد حفلة الغداء وعندم ا قاربت الشمس الأصيل طلبت من مضيفي أن نقوم بنزهة على الأقدام في شوارع وأزقة المدينة لنطلع على أسواقها وحال رعاياها والجديد فيها لأنني لم أزرها منذ سنين طويلة , خرجنا نمشي بهدوء وسكينة و حين وصلنا المدينة أدهشني التطور العمراني الذي حصل فيها خلال غيابي عنها وأنا أتحدث إلى رفيقي عن الأيام الخوالي التي أمضيناها سوية في سني الدراسة .
عندما اقتربنا من بعض البيوت سمعنا صوت شجار حاد , تعالى الصوت كلما اقتربنا من مصدره حتى وصلنا إلى باب البيت وكان مفتوحا دخلتاه دون استئذان علنا نستطي ع فك المتخاصمين أو تقديم مساعدة طبية فكوني طبيب فان وجودي ضروري في هكذا مواقف ولكنه لا يخلو من المخاطر أيضا , عندما دخلنا وجدت شابا ثلاثينيا يتطاير الشرر من عينيه بيده عصى و قد أطلق العنان لكل شياطينه يسب و يشتم و يتواعد وعلى بعد أمتار منه في حديقة المنزل فتاة تجلس على الأرض و ق د غطى الدم نصف رأسها وما بينهما نسوة تعول وتصرخ طالبة النجدة , طلبت من صديقي أن يخفف من ثوران الرجل ريثما أقوم بواجبي الطبي بعدما عرفناهم بأنفسنا ويبدو أن الرجل هدا تلقائيا و شعر بشي من الخجل عندما قدمنا أنفسنا إليهم , اقتربت من الفتاة وكان الدم ينزل من رأسها على تضاريس وجهها كأنه حمم بركان يسيل في السفوح والوديان ,سألتها عن اسمها فقالت عيشو , وضعت يدي على الجرح الصغير والنازف بشدة وطلبت من إحدى النسوة إحضار سائل معقم وقليل من الشاش من ا قرب صيدلية وطلبت من أخرى أن تجلب بعض الماء , ضغطت على الجرح بيدي اليسرى وغسلت وجه عيشو باليمنى حتى بانت ملامح وجهها , رأيت عينين سوداوين سواد ليل شتائي حالك و أنفا صغير ا يتوسط وجها ابيضا مدورا مثل البدر وشفتين ورديتين تتقطر منهما الأنوثة كما يتقطر العسل من قرص ه نظرت إلي عيشو وابتسمت لقد كان منظرا غير مألوف : رأس جريح و عينان دامعتان وثغر يبتسم تلك الصورة استطاعت عيشو أن ترسمها بكل براءة , ولا اخفي عليكم أن ذاك الوج ه الملائكي والبسمة الساحرة جعلا نبضات قلبي تزداد و أربكاني فليلا , سألتها وأنا ألف رباطا حول رأسها عن سبب الشجار فقالت إن أخي يتهمني أنني تبادلت التحية مع رجل غريب من خلال نافذة البيت المطلة على الشارع فقلت لها : أهي تهمة ؟ فقالت : إن العرف عندنا لا يسمح للنساء برد التحية من رجل لا يقربها .
قادت عيشو ذاكرتي إلى سنين مضت عندما قذفتني أمواج الدهر إلى بلاد ما وراء البحار لأحصل على قسط من العلم والمعرفة هناك حيث شاءت الأقدار أن أقيم مع عائلة انكليزية تقيم في مدينة برايتون مدينة الحرية والسلام كما درج الانكليز على تسميتها وأكثر من ذلك فهي مدينة السحر الفتان والجمال الأخاذ لؤلؤة بحر المانش وتمتاز المدينة بحدائقها المزركشة بالورود التي صممت على طراز هندسي بديع حتى يخال لك عندما تنظر إليها من بعيد كأنها سجاد أعجمي وتشته ر أيضا بقصرها الهندي القديم والرائع البنيان وبكنائسها التاريخية المنقوشة . تلك العائلة كانت مؤلفة من كهل ستيني متقاعد طويل اللحى و ابيضها يقضي جل اوقاته في القراءة والمطالعة مستعينا بعدسات سميكة أمام عينيه , وسيدة خمسينية مكتظة بالشحم تعمل في حقل الصحة , و ابنة تعمل كبائعة كتب في احدى المكتبات اسمها جانيت , وجانيت هذه كانت اية من ايات الجمال , شقراء طويلة ذات عينين زرقاوين و كبيرتين ومتباعدتين قليلا مثل عيون الغزال وشعر ذهبي طويل يصل الى اردافها يتموج كما تتموج سنابل القمح قبل الحصاد عندما تهب عليها نسمات شهر ايار وفم وأسنان تخالهما حبات من الؤلؤ وسط وردة حمراء, كانت جانيت مولعة بشرب الشاي الابيض كما يسمونه هناك وهي تحرص عندما تشربه من فنجانها الخاص الكبير على الا يصل صوت الرشف الى مسامع الحضور , اعتدنا انا و جانيت ان نمضي ساعات كل مساء ونحن نلعب بالورق وهي لا تمل من الحديث عن الموضة والرياضة والسيارات واخبار المغنين حتى تسبب لي الصداع ولكن كنت اتظاهر بالاهتمام بحديثها مجاملة , وليلة كل سبت و احد كنا نمضي بعض الوقت في احد المراقص بعد ان توسلت اليها ألا تدعوني للرقص لأنني لا أجيده.
مرت شهور على هذه الحالة ولكن لم تستطع جانيت أن تطرق ابواب قلبي مثلما فعلت عيشو خلال دقائق .
ذات ليلة , وكانت آخر ليلة أقضيها في تلك الديار الجميلة , دعتني الام الى كأس من البيرة في حديقة المنزل بعد ان خرجت جانيت لتعزي صديقتها بوفاة كلبها , صرنا نتبادل اطراف الأحاديث ونرشف الكأس حتى لفتت انتباهي عندما عبرت عن قلقها حيال ابنتها الوحيدة لأنها بلغت الرابعة والعشرين وهي ما زالت عذراء ولم يسبق لها ان وجدت صديقا يؤنسها ويضمها بحنانه ويغمرها بوده ويدخلها الى ذلك العالم الذي تجهله .
نعم استطاعت عيشو ان ترجع خيالي الى الوراء لاتذكر تلك اللحظات من العمر .
ودعت عيشو بعد ان انتهت مهمتي واتجهت صوب الرجلين الذان كانا يحتسيان القهوة تحت شجرة في حديقة المنزل , أمر أخو عيشو بصوته الجهوري جلب فنجان من القهوة لي وخلال حديثي القصير معه لم يتردد الرجل بالحديث عن مغامراته مع حسناوات لبنان حيث يعمل كسائق تكسي هناك وكان في إجازة قصيرة لزوجته واهله.
ودعنا من في البيت مع آذان المغرب وعندما خرجنا من المدينة كان الصمت يلفنا ولكن كان الغوغاء يملأ داخلي , غوغاء عالم يسبح في بحر من التناقضات .
د آلان كيكاني
بعد حفلة الغداء وعندم ا قاربت الشمس الأصيل طلبت من مضيفي أن نقوم بنزهة على الأقدام في شوارع وأزقة المدينة لنطلع على أسواقها وحال رعاياها والجديد فيها لأنني لم أزرها منذ سنين طويلة , خرجنا نمشي بهدوء وسكينة و حين وصلنا المدينة أدهشني التطور العمراني الذي حصل فيها خلال غيابي عنها وأنا أتحدث إلى رفيقي عن الأيام الخوالي التي أمضيناها سوية في سني الدراسة .
عندما اقتربنا من بعض البيوت سمعنا صوت شجار حاد , تعالى الصوت كلما اقتربنا من مصدره حتى وصلنا إلى باب البيت وكان مفتوحا دخلتاه دون استئذان علنا نستطي ع فك المتخاصمين أو تقديم مساعدة طبية فكوني طبيب فان وجودي ضروري في هكذا مواقف ولكنه لا يخلو من المخاطر أيضا , عندما دخلنا وجدت شابا ثلاثينيا يتطاير الشرر من عينيه بيده عصى و قد أطلق العنان لكل شياطينه يسب و يشتم و يتواعد وعلى بعد أمتار منه في حديقة المنزل فتاة تجلس على الأرض و ق د غطى الدم نصف رأسها وما بينهما نسوة تعول وتصرخ طالبة النجدة , طلبت من صديقي أن يخفف من ثوران الرجل ريثما أقوم بواجبي الطبي بعدما عرفناهم بأنفسنا ويبدو أن الرجل هدا تلقائيا و شعر بشي من الخجل عندما قدمنا أنفسنا إليهم , اقتربت من الفتاة وكان الدم ينزل من رأسها على تضاريس وجهها كأنه حمم بركان يسيل في السفوح والوديان ,سألتها عن اسمها فقالت عيشو , وضعت يدي على الجرح الصغير والنازف بشدة وطلبت من إحدى النسوة إحضار سائل معقم وقليل من الشاش من ا قرب صيدلية وطلبت من أخرى أن تجلب بعض الماء , ضغطت على الجرح بيدي اليسرى وغسلت وجه عيشو باليمنى حتى بانت ملامح وجهها , رأيت عينين سوداوين سواد ليل شتائي حالك و أنفا صغير ا يتوسط وجها ابيضا مدورا مثل البدر وشفتين ورديتين تتقطر منهما الأنوثة كما يتقطر العسل من قرص ه نظرت إلي عيشو وابتسمت لقد كان منظرا غير مألوف : رأس جريح و عينان دامعتان وثغر يبتسم تلك الصورة استطاعت عيشو أن ترسمها بكل براءة , ولا اخفي عليكم أن ذاك الوج ه الملائكي والبسمة الساحرة جعلا نبضات قلبي تزداد و أربكاني فليلا , سألتها وأنا ألف رباطا حول رأسها عن سبب الشجار فقالت إن أخي يتهمني أنني تبادلت التحية مع رجل غريب من خلال نافذة البيت المطلة على الشارع فقلت لها : أهي تهمة ؟ فقالت : إن العرف عندنا لا يسمح للنساء برد التحية من رجل لا يقربها .
قادت عيشو ذاكرتي إلى سنين مضت عندما قذفتني أمواج الدهر إلى بلاد ما وراء البحار لأحصل على قسط من العلم والمعرفة هناك حيث شاءت الأقدار أن أقيم مع عائلة انكليزية تقيم في مدينة برايتون مدينة الحرية والسلام كما درج الانكليز على تسميتها وأكثر من ذلك فهي مدينة السحر الفتان والجمال الأخاذ لؤلؤة بحر المانش وتمتاز المدينة بحدائقها المزركشة بالورود التي صممت على طراز هندسي بديع حتى يخال لك عندما تنظر إليها من بعيد كأنها سجاد أعجمي وتشته ر أيضا بقصرها الهندي القديم والرائع البنيان وبكنائسها التاريخية المنقوشة . تلك العائلة كانت مؤلفة من كهل ستيني متقاعد طويل اللحى و ابيضها يقضي جل اوقاته في القراءة والمطالعة مستعينا بعدسات سميكة أمام عينيه , وسيدة خمسينية مكتظة بالشحم تعمل في حقل الصحة , و ابنة تعمل كبائعة كتب في احدى المكتبات اسمها جانيت , وجانيت هذه كانت اية من ايات الجمال , شقراء طويلة ذات عينين زرقاوين و كبيرتين ومتباعدتين قليلا مثل عيون الغزال وشعر ذهبي طويل يصل الى اردافها يتموج كما تتموج سنابل القمح قبل الحصاد عندما تهب عليها نسمات شهر ايار وفم وأسنان تخالهما حبات من الؤلؤ وسط وردة حمراء, كانت جانيت مولعة بشرب الشاي الابيض كما يسمونه هناك وهي تحرص عندما تشربه من فنجانها الخاص الكبير على الا يصل صوت الرشف الى مسامع الحضور , اعتدنا انا و جانيت ان نمضي ساعات كل مساء ونحن نلعب بالورق وهي لا تمل من الحديث عن الموضة والرياضة والسيارات واخبار المغنين حتى تسبب لي الصداع ولكن كنت اتظاهر بالاهتمام بحديثها مجاملة , وليلة كل سبت و احد كنا نمضي بعض الوقت في احد المراقص بعد ان توسلت اليها ألا تدعوني للرقص لأنني لا أجيده.
مرت شهور على هذه الحالة ولكن لم تستطع جانيت أن تطرق ابواب قلبي مثلما فعلت عيشو خلال دقائق .
ذات ليلة , وكانت آخر ليلة أقضيها في تلك الديار الجميلة , دعتني الام الى كأس من البيرة في حديقة المنزل بعد ان خرجت جانيت لتعزي صديقتها بوفاة كلبها , صرنا نتبادل اطراف الأحاديث ونرشف الكأس حتى لفتت انتباهي عندما عبرت عن قلقها حيال ابنتها الوحيدة لأنها بلغت الرابعة والعشرين وهي ما زالت عذراء ولم يسبق لها ان وجدت صديقا يؤنسها ويضمها بحنانه ويغمرها بوده ويدخلها الى ذلك العالم الذي تجهله .
نعم استطاعت عيشو ان ترجع خيالي الى الوراء لاتذكر تلك اللحظات من العمر .
ودعت عيشو بعد ان انتهت مهمتي واتجهت صوب الرجلين الذان كانا يحتسيان القهوة تحت شجرة في حديقة المنزل , أمر أخو عيشو بصوته الجهوري جلب فنجان من القهوة لي وخلال حديثي القصير معه لم يتردد الرجل بالحديث عن مغامراته مع حسناوات لبنان حيث يعمل كسائق تكسي هناك وكان في إجازة قصيرة لزوجته واهله.
ودعنا من في البيت مع آذان المغرب وعندما خرجنا من المدينة كان الصمت يلفنا ولكن كان الغوغاء يملأ داخلي , غوغاء عالم يسبح في بحر من التناقضات .
د آلان كيكاني